وقفات
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
كنت في رحلة دعوية إلى بنجلاديش مع فريق طبي أقام مخيماً لعلاج أمراض
العيون، فتقدّم إلى الطبيب شيخٌ وقور ومعه زوجته بتردد وارتباك، ولمّا أراد
الطبيب المعالج أن يقترب منها فإذا بها تبكي وترتجف من الخوف، فظنّ الطبيب
أنها تتألم من المرض، فسأل زوجها عن ذلك، فقال وهو يغالب دموعه: إنها لا
تبكي من الألم.. بل تبكي لأنها ستضطر أن تكشف وجهها لرجل أجنبي! لم تنم
ليلة البارحة من القلق والارتباك، وكانت تعاتبني كثيراً: أوَ ترضى لي أن أكشف
وجهي..؟ ! وما قبلتْ أن تأتي للعلاج إلا بعد أن أقسمتُ لها أيماناً مغلظة بأنّ الله
تعالى أباح لها ذلك للاضطرار، والله تعالى يقول: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ
فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [البقرة: 173] .
فلمّا اقترب منها الطبيب، نفرت منه، ثم قالت: هل أنت مسلم؟
قال: نعم، والحمد لله! !
قالت: إن كنت مسلماً.. إن كنت مسلماً.. فأسألك بالله ألاّ تهتك ستري، إلا
إذا كنت تعلم يقيناً أن الله أباح لك ذلك..! !
أُجريت لها العملية بنجاح وأزيل الماء الأبيض، وعاد إليها بصرها بفضل الله
تعالى. حدّث عنها زوجها أنها قالت: لولا اثنتان لأحببت أن أصبر على حالي ولا
يمسني رجل أجنبي: قراءة القرآن، وخدمتي لك ولأولادك.
ما أعظم شموخ المرأة المسلمة بعزتها وعفافها..! وما أجمل أن تُرى المرأة
مصونة فخورة بحشمتها..!
أكرم به من إيمان يتجلّى في صورة عملية صادقة بعيدة عن التكلف أو التنطع، سالمة من الرياء وشوائب الهوى..!
فأين أولئك النساء اللواتي كسرن طوق الحياء، وأسلمن أنفسهن لدعاة الرذيلة
وأدعياء المدنية، وأصبحن يلهثن وراء شهواتهن، ويتبارين في التفسخ والانحلال
.. أين هن من تلك المرأة العفيفة الطاهرة؟ !
ولَكَم يتفطر القلب أسىً وحزناً على أولئك الفتيات الزهراوات اللواتي طاشت
بهن الأهواء، وأسلمن أنفسهن بكل غفلة وبلاهة لكل ناعق..؟ !
إنّ الحياء شعبة من شعب الإيمان، وعنوان من عناوين العفة والفضيلة، تقوم
قواعده على أُسس راسخة من التقى، وأصول متينة من الصلاح، ولهذا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء كله خير) [1] . بل عظّم النبي صلى الله عليه
وسلم من شأنه فقال: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء) [2] .
ويُتأكّد ذلك في حق المرأة، فسِترها رمز حيائها، وحجابُها دليل كرامتها.
وإذا اختلّ حياء المرأة تزلزلت أقدامها، وعصفت بها الفتن، وأصبحت سلعة
رخيصة تباع بأبخس الأثمان، ويعبث بها دهاقنة الفساد، وأئمة الهوى، (وليس
لمن سُلِبَ الحياءَ صادّ عن قبيح، ولا زاجر عن محظور؛ فهو يُقدم على ما يشاء،
ويأتي ما يهوى) [3] .
وقديماً قال الشاعر:
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاءُ