الورقة الأخيرة
عبد العزيز الجليل
إن الدعوة إلى الله عز وجل عبادة عظيمة من أعظم العبادات التي يحبها الله
عز وجل ويُتقرب بها إليه سبحانه ولكن شأنها شأن العبادات الأخرى التي يشترط
في قبولها عند الله تعالى أن يكون فيها إخلاص ومتابعة لما جاء به الرسول -صلى
الله عليه وسلم-، وشَرَعه لأمته؛ وهذا هو مفهوم التأصيل.
والناظر في واقع الدعوة اليوم وما أثمرته من صحوة عامة وعودة إلى الدين
والخير ومقارعة الفساد وأهله ليحمد الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة، ويشكر
القائمين على هذه الدعوة من علماء وطلاب علم ودعاة وموجهين ومحسنين؛ كلٌ في
مهمته، وحسب ما قدم. ومع هذا الخير العظيم الذي لا يماري فيه عاقل محب
للخير؛ فإن هناك أمرين خطيرين ينبغي أن ينتبه إليهما الدعاة المخلصون؛ لأنهما
طالما كانا من معاول الهدم للدعوات الصحيحة، أو كانا أداتي نخر وإفساد للدعوات
الناشئة في بنائها. وهذان الأمران هما:
1 ضعف التأصيل. 2 تأصيل الضعف.
والمقصود بضعف التأصيل: الانطلاق في أمور الدعوة ومناهجها وأساليبها
دون الرجوع إلى أصول الشريعة وما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وأصحابه الكرام رضي الله عنهم، ودون الاهتمام بالمستند الشرعي والدليل العلمي
لمنطلقات الدعوة ومناهجها، والاكتفاء بآراء الرجال، والتقليد الأعمى دون تمحيص
هذه الآراء، وهل هي توافق مقاصد الشريعة وأصول السيرة النبوية الطاهرة أم لا؟ !
إن تربية النشء على قدسية أقوال فلان من الناس، وأنها الحق الذي لا مرية
فيه نهج خاطئ منحرف، ومثال واضح لضعف التأصيل أو انعدامه. كما أن ربط
الصحة والخطأ في أمور الدعوة بالعقل والذوق ورغبات الناس هي الأخرى مثال
لضعف التأصيل. والأمثلة كثيرة وليس المقام مقام تفصيل لها.. والمقصود: أن
ضعف التأصيل ظاهرة خطيرة، تُرى دائماً وتظهر في أزمنة الجهل بالشريعة،
وضعف العلم الشرعي، وترك الأخذ بالدليل الصحيح، والاستعاضة عن ذلك بآراء
الرجال وعقولهم وأهوائهم.
وعلاج هذا الانحراف يكون في ربط الدعوة ومناهجها بالدليل ومقاصد
الشريعة وقواعدها، وإحياء العلم الشرعي بين الناس، وأن لا عصمة إلا للرسول- صلى الله عليه وسلم-؛ وكل من عداه يؤخذ من قوله ويرد. وإحقاقاً للحق فإن
كثيراً من الدعوات اليوم ولله الحمد قد ثبّتت منهج التأصيل والرجوع إلى ما كان
عليه سلف الأمة والاهتمام بالدليل؛ وما ذاك إلا بسبب انتشار العلم وكثرة طلابه
والتفافهم على العلماء؛ وهذا يبشر بالخير إن شاء الله تعالى وإن كان التأصيل
الشامل يحتاج إلى جهد كبير، وتعاون عظيم بين العلماء والدعاة في ذلك.
أما الأمر الثاني فهو تأصيل الضعف: والمقصود بتأصيل الضعف هنا: هو
أن يقع الإنسان في ضعف أو خطأ، وعوضاً عن الاعتراف بهذا الضعف،
ومحاولة النهوض منه ومعالجته.. تراه يتكلف الاستدلال لضعفه هذا ببعض الأدلة
الشرعية التي لا تصلح للاستدلال، وقصده من هذا أن يظهر بمظهر المتقيد بالشرع، وأنه ينطلق في مواقفه من أصول شرعية، ولتوضيح هذه المسألة أضرب الأمثلة
الآتية:
1- هناك من يسوّغ كتم الحق بالخوف على النفس من الفتنة، أو بالخوف
على الناس من تبعات قول الحق وما يجر عليهم من المفاسد والفتن؛ فإن كان من
يقول هذا القول قد عُرف عنه التقوى والإخلاص والعلم بمقاصد الشريعة؛ فإنه
والحالة هذه مسؤول عما يقول وهو إن شاء الله تعالى مأجور على اجتهاده، وليس
هو ممن يلبس الحق بالباطل، أو ممن يؤصّل ضعفه ويسوّغه بمسوغات شرعية.
أما إن كان صاحب هذا القول ممن عرف عنه قلة الدين واللهث وراء الدنيا،
وعرف عنه كتم الحق خوفاً على دنيا فانية، أو طمعاً في متاع زائل فإن موقفه
والحالة هذه يُعد صورة من صور تأصيل الضعف، ولبس الحق بالباطل؛ حيث
أظهر طمعه وخوفه في صورة الحرص على مقاصد الشريعة ومراعاة المصالح
والمفاسد. والله سبحانه هو المطلع على ما في القلوب وهو علاّم الغيوب.
2- من المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول
الشريعة لا تقوم إلا به، ولكن قد يتركه بعض الناس في بعض الظروف: إما
لمسوغ شرعي كتخلف بعض شروطه، أو لضعف وتخاذل مع بقاء هذه الشعيرة
على أصلها في النفوس، أما لو تحوّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع
مرور الوقت وكثرة المنكرات وضعف الإيمان إلى أن يصبح السكوتُ وتركُ الأمر
والنهي هو الأصل الذي يبحث له عن المسوغات الشرعية كدرء الفتنة ونحوها، ثم
يتحول الأمر والنهي إلى حالة استثنائية لا يقام به إلا عند توفر الشروط التي تُضخّم
لتصبح أقرب إلى التعجيز منها إلى الإمكان إذا آل الأمر إلى هذه الحالة فإنه عين
اللبس، وهو تأصيل الضعف؛ حيث انعكس الأمر فأصبح السكوت والضعف عن
هذه الشعيرة العظيمة هو الأصل، وما خالفه من الأمر والنهي هو المستثنى، ونعوذ
بالله من الخذلان.
3- من المعلوم أن البراءة من المشركين والكفار أصل عظيم من أصول
العقيدة، لا يصح إيمان العبد إلا بها، وقد يمر بالمسلم وقت لا يستطيع أن يجاهر
بعدائه للكفار، وقد يداريهم في الظاهر؛ لكن قلبه ممتلئ ببغضهم والبراءة منهم؛
لكن الخطير في هذا الأمر أن يستمرئ الناس مداراة الكفار في كل حين حتى يتحوّل
الأمر إلى مداهنة وموالاة، وحتى يؤول في النهاية إلى أن تؤصّل المداهنة الناشئة
عن ضعف الإيمان وحب الدنيا ووهن العزيمة، وتصبح هي الأصل، وما خالفها
طارئ وجزئي لا تُعارَض به، كمن يؤصّل اليوم التسامح الديني وتقارب الأديان
بحجة المصلحة الشرعية ونبذ التعصب.
ومثله ما يراد للأمة الإسلامية في السنوات الأخيرة من استسلام مهين مع
شرذمة الخليقة وأعداء الرسل اليهود الغاصبين؛ حيث تحوّل الجهاد في سبيل الله
تعالى ومعاداة اليهود والنصارى إلى أمر مستغرب؛ بل ومستنكر أحياناً، وأصبح
التنازل عن هذا كله هو الأصل الذي لا يجوز خرمه. كما أصبح التعايش السلمي
واحترام حدود العدو والسلام الدائم معه واحترام الشرعية الدولية المدّعاة هي
الأصول التي لا يُسمح بالتنازل عنها والخروج عليها. وقد أدى هذا الأمر إلى أن
يوجد في بعض بلاد المسلمين من يحشد الأدلة والشبهات لتأصيل هذا الخنوع،
وإضفاء الشرعية للسلام الدائم مع اليهود. وهل بعد ذلك مثال أوضح من هذا في
تأصيل الضعف والهزيمة والهوان؟ !