مجله البيان (صفحة 3048)

قضايا ثقافية

المدرسة العصرانية

مفهومها ونشأتها.. خصائصها ومزاعمها

(1/2)

محمد حامد الناصر

طلع علينا عدد من الكتاب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتجمعوا

تحت شعارات براقة مثل: الدعوة إلى (الفكر الديني المستنير) ، و (شعار

الاستنارة) وطلعت علينا أسماء رنانة يحمل كل منهم لقب (المفكر الإسلامي الكبير)

أو (المؤرخ الإسلامي الكبير) ونحو ذلك.

وقد أسهم أعداء الأمة من المستشرقين والمنصّرين في تلميع هذه الأسماء أمام

جمهرة المسلمين.

وكان هذا التيار يمثل جبهة الاتجاهات الفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى

اليسار، رافعاً شعار (التجديد) أو (الاستنارة) ، ويخفي حقيقة دعوته عن الأمة،

والتي هي عند التمحيص ليست إلا وجهاً من وجوه (العلمانية) .

* والعصرانيون ليسوا سواء:

فهناك من يصدر في كتاباته عن نية صريحة في هدم الإسلام، متأثراً بأفكار

قومية علمانية، أو يسارية شيوعية.

وهناك من يحاول إثارة الارتباك في أفكار الإسلاميين عن طريق شغلهم

باصطلاحات مبتدعة صعبة الضبط، أو عن طريق قلب مواقف التراث بأفكاره

وحركاته، فيجعل المنحرفين والضّلاّل أصحاب انفتاح وثورة، في حين يجعل

علماء الإسلام أهل جمود ورجعية.

وأكثر العصرانيين في هذه المرحلة من هذا الصنف. ومنهم من يصدر في

معالجته لقضايا الإسلام عن مصلحة سياسية يعمل من أجلها، فيركب الموجة في

إعلان حربه على أصحاب الصحوة الإسلامية متأثراً بالأهواء الرخيصة. ومنهم من

يصدر عن حسن نية، محاولاً الاجتهاد، إلا أنه يبقى مشدوداً إلى تصورات المناهج

الغربية التي تلقاها خلال دراسته أو ابتعاثه إلى ديار الغرب، أو يظل متأثراً بأفكار

المعتزلة، أو يكون ممن جُمعت هذه كلها في عقليته، فوقع في الاضطراب والخلل

والتناقض.

وكان من هؤلاء مع الأسف بعض رموز العمل الإسلامي الحديث، الذين

نرجو لهم أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يعوا حقيقة المعركة مع العلمانيين وأبعاد هذا

الصراع معهم [1] .

* فما حقيقة التجديد عند هؤلاء العصرانيين؟

لقد زعم أصحاب هذه المدرسة أنهم يريدون التجديد لتنهض الأمة من كبوتها،

ويريدون إعادة كتابة التاريخ الإسلامي من خلال طرح العديد من الدراسات

والأبحاث المتعلقة بالتراث؛ إلا أنهم عمدوا إلى إحياء وتمجيد الاتجاهات الفكرية

المنحرفة، وعرضها في إطار عقلاني تحت مظلة الانتماء إلى التراث الإسلامي.

ثم قاموا بطرح العديد من الشعارات الجديدة التي تصل بين مفهومهم عن

الإسلام والماركسية، أو القومية والاشتراكية، أو بين الإسلام والديمقراطية الغربية.. مما يشتت جهود الانطلاقة نحو الإسلام [2] .

والحقيقة أن هؤلاء ساروا على خطا من سبقهم من المعتزلة الجُدد و (المدرسة

الإصلاحية) بزعامة الشيخ محمد عبده، ورددوا آراء المستشرقين، ونسبوا كل ذلك

إلى أنفسهم، وقلما أشاروا في كتاباتهم إلى هذه الجذور المريبة [3] .

* فما المقصود بالعصرانية وكيف نشأت؟ !

(إنها حركة تحديث واسعة نشطت في داخل الأديان الكبرى، داخل اليهودية، وداخل النصرانية، وداخل الإسلام أيضاً، إن هذه الحركة عرفت في الفكر الديني

الغربي باسم العصرانية (Modernism) وكلمة عصرانية هنا لا تعني مجرد

الانتماء إلى هذا العصر ولكنها مصطلح خاص؛ إذ تعني العصرانية في الدين:

وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة

يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية

السائدة) [4] .

(وهي الحركة التي سعت إلى تطويع مبادئ الدين لقيم الحضارة الغربية

ومفاهيمها والتي هي ربيبة الثقافة اليونانية وإخضاع الدين لتصوراتها ووجهة

نظرها في شؤون الحياة) [5] .

وقد كان للصراع بين الكنيسة والنهضة الحديثة أثر قوي في ظهور العصرانية

لدى النصارى بشكل خاص.

* العصرانية عند اليهود [6] :

بدأت في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي في ألمانيا نزعات جديدة تظهر

بين اليهود، تكونت منها فيما بعد فرقة جديدة عرفت باسم (اليهودية المتحررة) ،

وتسمى أيضاً اليهودية التجديدية أو (الإصلاحية) .

وكان ذلك يتم للملاءمة بين الديانة اليهودية ومعطيات الحضارة الغربية الجديدة.

وكان الدافع لهذه الحركة هو رغبة اليهود في اللحاق بركب العصر، ثم ألف

زعيمها (مندلسون) العديد من الكتب، وكان شعاره في ذلك: (الاستجابة للعادات

وأعراف المجتمع العصرية، مع المحافظة والإخلاص لدين الآباء) .

وكان من شعارات هذه الحركة: (أن الدنيا كلها تتغير من حولنا فلماذا نتخلف

نحن؟ !) .

أخي القارئ: سوف تلاحظ فيما يأتي أن بعض العصرانيين المسلمين

يكررون المقولة نفسها وبأشكال مختلفة. ومما يؤسف له أنك تلاحظ أن هناك قاسماً

مشتركاً بين العصرانيين اليهود والنصارى والمسلمين.

وتطورت هذه الحركة اليهودية على يد جيل من المفكرين من أحبار اليهود؛

فيرى (هولد هايما) مثلاً، أن الشريعة الإلهية موقوتة بظروفها وينبغي إيجاد

تشريعات بديلة عنها!

ويرى آخرون: (أن جوهر اليهودية ليست أشكالها ولا حتى شريعتها، ولكن

جوهرها هو أخلاقها) .

وقد وجدت هذه الحركة ضجة كبيرة وسط اليهود، حتى إن بعضهم كان يرى

أن موت اليهودية هو تطويعها لمبادئ العصر وإلى هذا التطور المتحرر من كل قيد.

* التجديد العصراني للنصرانية [7] :

في الوقت نفسه الذي كانت تزدهر فيه حركة التجديد في اليهودية، كانت

النصرانية بشقيها: الكاثوليكي والبروتستانتي تشهد تطورات مماثلة تشترك في

الهدف نفسه، وهو إيجاد التآلف بين إيمان الآباء وبين أفكار العالم الحديث

ومنطلقاته المتطورة.

يقول أحد كُتّاب الغرب ممن سجلوا هذه الظاهرة، وهو (جون راندال) في

كتابه: (تكوين العقل الحديث) : (إن الذين دعوا أنفسهم بالمتدينين الأحرار في كل

فرقة دينية سواء بين البروتستانت أو اليهود، أو حتى الكاثوليك قد ذهبوا إلى القول

بأنه وإن كان للدين أن يُشكّل حقيقة حية، وإذا كان له أن يظل تعبيراً دائماً عن

الحاجات الدينية للجنس البشري فلا بد له أن يتمثل الحقيقة والمعرفة الجديدتين،

وأن يتآلف مع الشروط المتغيرة في العصر الحديث من فكرية واجتماعية) [8] .

(فالعصرانية تقيم نظرتها على رفض سلطة المنقول؛ لأنه يناقض ما أثبته

العلم الحديث في نظرها، وتدعي أن المنقول سواء تمثل في الأناجيل أو في

شروحها، ما هو إلا تعبير عن التطور المرحلي للفكر الديني في العصر الذي كتب

فيه ... وبناء على هذا يعتقد أن الحقائق الدينية تخضع لتفسيرات متطورة حسب

تقدم المعرفة البشرية، وكلما تقدمت المعرفة، حدثت تصورات جديدة لحقائق

الدين) [9] .

ويؤكد هذا المفهوم في تطور الحقائق الدينية بلا ضوابط ثابتة قول أحد كتاب

الإنجليز (ثرنون ستور) : (العصرانية هي تلك المحاولات التي تبذلها مجموعة من

المفكرين لتقديم حقائق الدين المسيحي في قوالب المعرفة المعاصرة. إننا الآن لا

نلبس ملابس أجدادنا، ولا نتكلم لغتهم، فلماذا في ميدان اللاهوت نُكرهَ على أن

نفكر بعقول العصور البالية.. الويل للكنيسة التي تغمض عينيها فتعمى عن رؤية

نعمة المعرفة الجديدة) [10] .

وهؤلاء الآباء نقدوا التوراة والإنجيل في إطار ما سمي بالنقد التاريخي؛ إذ

يؤكد الراهب (بلويزيا) (أن الأناجيل في صورتها الحالية تشتمل على مجموعة من

الأساطير والخرافات؛ لهذا لا يمكن أن تكون هي كلمات الله المقدسة، ومن هذه كل

ما هو غيبي وخارق للطبيعة) . وكان من نتائج هذا النقد التاريخي أن دخلت فكرة

التطور في تعاليم الدين، ويتبع ذلك مفهوم نسبية الحقيقة) [11] .

وفي الوقت نفسه سار التجديد في البروتستانتية الحرة، وتوصلوا إلى النتائج

السابقة نفسها عند الكاثوليك الأحرار، وقالوا: إن الكتاب المقدس خليط مما هو

إلهي وبشري، وكان عيسى عليه السلام مجرد بشر.

ومن الملاحظ أن (البابا) (بيوس العاشر) كان قد أصدر منشورين عن الحركة

العصرانية عام (1907م) ودمغها بالكفر والإلحاد، ووصفها بأنها (مركب جديد لكل

عناصر البدع والهرطقة القديمة) [12] .

ومن المتناقضات العجيبة أن هذه القصة بكل فصولها نقلت إلينا من الغرب،

فظهرت لها نزعات مشابهة في العالم الإسلامي منذ القرن الماضي عند بعض

المتغربين ... فنادوا بتفسير بعض القضايا الإسلامية تفسيراً عقلانياً، وحاولوا

إخضاع القرآن والسنة للمقاييس المادية حتى تتلاءم مع منهج الغرب وقيم الحضارة

الحديثة التي بهرت كثيراً من الذين كانوا يرونها المقياس الوحيد لكل نهوض وتقدم.

والذي سمى هؤلاء (مجددين) إنما هو الاستعمار وتلاميذه وعملاؤه من

المستشرقين والمنصّرين ... هؤلاء (المجددون) هم الذين سخر منهم الرافعي رحمه

الله حين دخل معركته معهم في كتابه: (تحت راية القرآن) وقال: (إنهم يريدون أن

يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر) [13] .

* خصائص المدرسة العصرانية (الإسلامية) :

يتلخص منهج العصرانيين المتحدثين باسم الإسلام في قاعدتين أساسيتين هما:

أولاً: دعوى تطوير الدين ليساير بزعمهم الحضارات الوافدة:

لقد دأب هؤلاء على محاولات تطويع نصوص الشريعة حتى تساير معطيات

الحضارة المادية، واتبعوا في ذلك آراء المستشرقين من اليهود والنصارى [14] .

وقد سار على نهج العصرانية المتحررة عدد من كُتّاب المسلمين، وظهرت

لهم مؤلفات عديدة في هذا المجال؛ من ذلك كتاب: (الفكر الإسلامي والتطور)

للدكتور محمد فتحي عثمان.

والكتاب كما يقول صاحبه: (محاولة لمناقشة قابلية الإسلام في أصوله للتطور، ورصيد المسلمين التاريخي في التطور، والواقع المعاصر، واحتياجنا للوعي

بحقيقة التطور عندنا وعند غيرنا) [15] .

وتظهر خلفية الكتاب الفكرية فيما يورده الكاتب من أمثلة لتطور الفكر

الديمقراطي في الغرب، والفكر الاشتراكي، وتعدد مدارسه، ... ثم يتساءل:

(لماذا يُكتب على الفكر الإسلامي وحده الجمود؟) [16] .

ويرى الكاتب (أن التطور مسألة حتمية في كل شيء ... ولا تصح التجْرِبة

المثالية للدين في عصر الخلفاء الراشدين ... إنها تَجْرِبة مثالية بالنسبة لظروف

الخلفاء الراشدين السائدة في وقتهم، وبالنسبة لتفكيرهم وزمانهم وأقوامهم!) .

(ويستلزم من أجل ذلك ترجمة جديدة، وإعادة تقدير للحقائق الأساسية للعقيدة،.. ويجب أن نصحح منهجنا للدين كل سنة وكل شهر وكل يوم وكل لحظة وليس كل مائة سنة لأن المعرفة لا نهاية لآفاقها، ولأن التقدم الإنساني لا تَوَقّفَ

لسيره) [17] .

وفي الأقوال السابقة مغالطات كثيرة:

فالعقل الإنساني هو الطريق إلى تلقِّي الدين ومنهجه وتطبيقه، وهو مقيد

بشروط مجمع عليها عند علماء الأمة، كالعلم بالعربية وبمقاصد الشريعة ...

وهناك كُتّاب آخرون ناقشوا قضية التطور وعلاقتها بالتجديد وبالدين عموماً:

منهم: (أمين الخولي) في كتابه (المجددون) إذ يقول فيه: (إننا ننتهي

باطمئنان إلى أن التجديد الديني إنما هو تطور، والتطور الديني هو نهاية التجديد

الحق) [18] .

أما الشيخ عبد الله العلايلي: مفتي لبنان الأسبق، فيقدم لنا في كتابه: (أين

الخطأ؟) مجموعة من الأخطاء يريد تصحيحها مثل: إباحة التعامل المصرفي،

وأنه لا رجم في الإسلام، وأن الزواج المختلط بين المسلمين والكتابيين رجالهم

ونسائهم حلال شرعاً) [19] .

وللدكتور حسن الترابي آراء في مجال تطوير الدين نقتطف منها بعض أقواله، يقول الدكتور حول موقفه من أفكار السلف: (فأفكار السلف الصالح ونظمهم قد

يتجاوزها الزمن، من جراء قضائها على الأمراض التي نشأت من أجلها،

وانتصارها على التحديات التي كانت استجابة لها) .

ويتساءل بعدها: (ولكن المرء لا يعرف اليوم تماماً كيف يعبد الله في التجارة

أو السياسة أو يعبد الله في الفن) ويؤكد الدكتور آراءه بقوله: (ومهما كان تاريخ

السلف الصالح امتداداً لأصول الشرع، فإنه لا ينبغي أن يوقر بانفعال يحجب تلك

الأصول، فما وجد في تراث الأمة بعد الرسول ابتداءً بأبي بكر فهو تاريخ يستأنس

به؛ فما أفتى به الخلفاء الراشدون مثلاً، والمذاهب الأربعة في الفقه، وكل التراث

الفكري الذي خلفه السلف الصالح في أمور الدين، هو تراث لا يُلتزم به، وإنما

يُستأنس به في فهم سليم لشريعة تنزّلت في الماضي على واقع متحرك، وهي تُنزّل

اليوم عى واقع متحرك) [20] .

والدكتور الترابي يخالف بأقواله هذه ما كان عليه علماء الأمة..

ومعلوم بالضرورة أنه على المسلمين أن يقتدوا برسول الله -صلى الله عليه

وسلم- في أقواله وأفعاله، وأن يقتدوا بأصحابه رضي الله عنهم لقوله: (عليكم

بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضّوا عليها بالنواجذ) [21] .

* وقفة مع دعاة التطور:

إن التطور يعتبر طبيعياً إذا كان اجتهاداً في الفروع وما يسع الخلاف فيه،

وليس في الأصول المعلومة من الدين بالضرورة، أما إذا استجاب الدين لكل تفسير، فذلك يعني تجاوزه إلى عقول البشر ويعني العلمانية، أي فصل الدين عن الحياة

باسم التجديد والتطوير.

ولو صدق هذا الأمر على اليهودية والنصرانية بسبب ظروف تاريخية،

وبسبب ما حصل فيهما من تحريف؛ فإن هذا لا ينطبق على الإسلام أبداً، حتى

يرث الله الأرض ومن عليها.

والتطور التشريعي نوعان: منه ما هو إداري بحت، يراد به ضبط الأمور

وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ومن ذلك ما عمله عمر

رضي الله عنه في ديوان الجند، وشراؤه دار صفوان بن أمية وجعلها سجناً في مكة

المكرمة، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتخذ سجناً ولا أبو بكر؛ فهذا

النوع من الأنظمة لا يخرج عن قواعد الشرع ومراعاة المصالح العامة) [22] .

وهذا مما يدخل تحت أحكام الشريعة عن طريق المصالح المرسلة، وهي

أحكام تقرها الشريعة السمحة بضوابط معتبرة.

أما النوع الثاني من الأنظمة، المتمثل في القوانين الوضعية، التي تحرم ما

أحل الله، وتحل ما حرم الله، فإن إقراره كفر بخالق السموات والأرض وذلك

بإجماع المسلمين، وإذا كان التطور على حساب العقيدة والشريعة فذلك خروج على

الدين ولا شك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015