ملفات
(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)
أنور الجندي
إن نظرية فصل واقع الأمة وحاضرها عن التراث هي أكبر مؤامرة تواجه
الفكر الإسلامي الذي لم تنقطع مسيرته خلال أربعة عشر قرناً، أما دعاة التغريب
فهُم يريدون فصله عن الإسلام وربطه بالعصر السابق كما حدث للفكر الأوروبي
الذي انفصل عن العصر المسيحي، وربط نفسه بالعصر الهلّيني. أما المسلمون
فيؤمنون بضرورة وصل حاضر الأمة بماضيها، وأهمية إضاءة الطريق إلى
التراث لتكون الخطوات القادمة متصلة.
ولقد حرص النفوذ الأجنبي على الفصل بين الحاضر والماضي عند بدء كُتّاب
(الرواد والقمم الشوامخ) من العصر الحاضر، ووقفوا بماضيهم عند الحملة الفرنسية، وأخذوا في معالجة التراث على أساس إخضاعه للنظريات الغربية المعاصرة
القائمة على:
1- نظرية دارْوِن واعتبار الإنسان حيواناً ناطقاً.
2- إعلاء شأن العنصر والدم، وتجاهل الحقيقة الواضحة من أن الإسلام هو
الذي وضع أسس العقل الغربي الحديث، وأن وحدة الفكر الإسلامي قامت على
أساس العقيدة لا العنصر أو الدم.
ولقد كان أول من هاجم التراث الإسلامي وأثار الشبهات حوله الدكتور طه
حسين في (مسألة الشعر الجاهلي) ودعا إلى تطبيق منهج الشك الديكارتي عليه.
ولقد تبين فساد منهج الشك الذي اصطنعه طه حسين، ووضح اختلافه مع منهج
ديكارت.
كما حاول الغربيون تطبيق المنهج الغربي (المادي) في دراسة التراث
الإسلامي، وهو منهج تشكّل في ضوء الصراع مع النصرانية، وحاولوا به
معارضة التوراة والإنجيل، وقد كان الغربيون في مواجهة الفكر الديني الأوروبي
يصدرون عن خصومةٍ وهوى، فلما جاؤوا به يواجهون التراث الإسلامي كانت
خصومتهم أشد عنفاً؛ فقد أرادوا بمكرهم إطلاق لفظ (التراث الديني) على تراث
النصرانية واليهودية والفرعونية والإسلام وهو محض افتراء؛ فالتراث الإسلامي لا
يمكن أن يوصف بأنه تراث ديني فحسب؛ وهو يشتمل على الآداب والعلوم
والاجتماع. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فهناك فصل كامل بين تراث الإسلام
وتراث الأمم قبل الإسلام، ولا يمكن الجمع بينهما على النحو الذي يدعو إليه بعض
التغريبيين؛ ذلك لأن الإسلام حين جاء أحدث فاصلاً عميقاً بين ماضي البشرية
وحاضرها أطلق عليه المؤرخون اسم: (الانقطاع الحضاري) ، فقد قامت
الحضارات الكبرى السابقة للإسلام اليونانية والرومانية والفرعونية والهندية
والفارسية على أساس الوثنية وعبادة الفرد والرق، وقد جعلت الرقيق عنصراً
أساساً في بنائها؛ بينما جاء الإسلام لهدم كل عبودية لغير الله تعالى.
ولقد كان من أوضح أهداف الغزو الفكري أن يرتاب المسلمون في تراثهم
الأصيل، وأن يتحولوا عنه إلى فكر مطبوع بالطابع الغربي الوافد على النحو الذي
قدمته دائرة المعارف الإسلامية التي حاول بها الاستشراق أن يكسب ثقة القارئ
المسلم، وأن تكون كتاباته في مجال الصدارة والمحل الأول بين مراجع الجامعات،
فيعتمدوها ويكتفوا بها على ما فيها من خلطٍ وتحريف، وينسوا مع الزمن مراجعهم
الأصلية. لذلك كان ينبغي لنا أن نسجل مجموعة من الحقائق الأساسية المتعلقة
بالتراث الإسلامي:
أولاً: تميز تراثنا الإسلامي المتصل خلال أربعة عشر قرناً عن تراث هذه
المنطقة قبل الإسلام (الفرعوني والفارسي واليوناني والروماني) . هذا التميز يمثل
في أزمنتنا المعاصرة تياراً أساسياً في مواجهة القومية والماركسية والليبرالية.
ولقد تقرر أن الإسلام بوصفه ديناً ربانياً عالمياً جامعاً للروح والمادة لا يمكن
أن يوضع في مجال المقارنة بالأديان أو المذاهب العقائدية الأخرى.
كذلك فإن الإسلام لا يقبل بالعلمانية التي تهدف إلى أن تفرغ المسلم من عقيدته، وأن يترك بعض أحكام دينه أو يتجاوز عنها، فضلاً عن أنها تعمل على تحويل
الدين من نظام مهيمن إلى نظامٍ وضعي.
ثانياً: أن التراث الإسلامي يتميز بخصوصية ذاتية في تكوينه تجعله مختلفاً
عن التراثات الإنسانية بماضيها الأوروبي؛ فهو تراثٌ تتصل منابعه الأولى بوحيٍ
إلهي؛ فيكفل حفظ مضمون الحياة، وكل فروعه دائرة في فلك الإسلام الروحي
والثقافي. وهو بهذا المفهوم ليس مماثلاً للحوادث التاريخية تحت أي ظرفٍ كان.
ثالثاً: القرآن والسنة لا يدخلان في مقولة التراث؛ بل هما من الثوابت. أما
التراث فيبدأ بعمل العلماء والفقهاء والمؤرخين. ويلتزم العمل الفكري والأدبي
بالتحرك في إطار الثوابت. وعند النظر إلى التراث يجب أن تكون القواعد
الأساسية التي قررها القرآن والسنة قائمة؛ فإن النظريات الكلامية والاعتزالية
والنصوص الفلسفية يجب أن يُنظر إليها في ضوء مفهوم أهل السنة والجماعة
ورفض ما يتصل بالفلسفة اليونانية أو الفكر الغنوصي أو مذاهب الإشراق والباطنية.
رابعاً: كشف علماء الإسلام زيف منهج الفلسفة اليونانية وحذروا من مخاطره
على مفهوم التوحيد الخالص، وذلك منذ اليوم الأول لترجمة الفلسفات في القرن
الثاني الهجري، وكان أبرز العاملين في هذا المجال جمعٌ من الأئمة؛ منهم على
سبيل المثال: الشافعي وابن حنبل وابن تيمية وابن القيم.
الإمام الشافعي: أعلن أن اللغة العربية لها منهج يختلف عن آجاثون اليونان.
الإمام أحمد: هاجم القول بخلق القرآن وقال: إنه منقول من الفكر اليهودي.
الإمام الغزالي: دحض مفاهيم الفارابي وابن سينا، وكذّب مقولتهم في ثلاثة
مواضع.
شيخ الإسلام ابن تيمية: نقض منطق أرسطو وأعلن منطق القرآن.
خامساً: أن اتخاذ الإسلام مصدراً للهوية هو اتجاه طبعي، وهو عودة إلى
المنابع، وهو التماس للطريق الذي سلكه المسلمون خلال أربعة عشر قرناً، فهو
ليس غريباً ولا جديداً ولا خاطئاً؛ بل الخطأ هو عكس ذلك: من الاستمرار في
التقلب بين الليبرالية والماركسية والقومية التي أخفقت في اتخاذها أطراً للتقدم. إن
النكسة قد كشفت عن إخفاق هذه المفاهيم، ودفعت المسلمين إلى العودة إلى المنابع
على أنها الطريق الوحيد.
سادساً: أن المسلم المتعلم في الغرب ليس له قدرة استيعاب ما في التراث؛
ذلك أنه كثيراً ما ينهزم أمام استغلاق التراث في أول الأمر مما يدفعه بقوة إلى
الإعراض واليأس والظن بأنه ليس في التراث شيء حول موضوع بحثه، مع أن
الحقيقة أنه هو الذي لا خبرة له بتصنيفات التراث التي تندرج تحتها مثل تلك المادة
الملائمة لموضوعه.
سابعاً: من الخطأ أن يطالب البعض بالتمسك الحرفي بكل التراث أو ممارسته
ككل، أو بالنظر إلى الماضي كله على أنه مقدس، أو أنه ينبغي أن نعيد التاريخ
بحذافيره؛ لأن التراث وفق مفهومهم يدخل فيه اللوثات والانحرافات الدخيلة على
حضارتنا.
كما أنه من الخطأ أيضاً الخلط بين الموروث والوافد من الأفكار؛ فتلك نظرية
عجزت عند التطبيق أن تقدم شيئاً.
ثامناً: مقولة أن التراث الإسلامي يخلو من تنظيم العلاقة الاجتماعية بين
الناس مقولة خاطئة، قال بها الذين ظنوا أن الفلسفة وعلم الكلام وتراث الفرق
الإسلامية هو كل تراث الإسلام، ومن ثَم يُزعم أنه يخلو من تنظيم علاقة الإنسان
بالمجتمع حيث تنتظم علاقة الإنسان بالله تبارك وتعالى؛ ذلك أنه ليس في الإسلام
فصل بين العلاقتين، والفقه يعالج العبادة كما يعالج المعاملات.
تاسعاً: يجب أن يظل تراث الإسلام الأصيل هو نقطة انطلاقنا في جميع
العلوم والثقافة نحو الارتباط بالإسلام في أصوله (القرآن والسنة) وفي تطبيقاته
خلال أربعة عشر قرناً على أيدي العلماء والمؤرخين.
إن الذين أسهموا في تطوير التراث الإسلامي وانتشاره ونهضة الحضارة
الإسلامية كانوا جميعاً يعبرون عن الأمة الإسلامية؛ سواء منهم الذين آمنوا بالإسلام
أم لم يؤمنوا؛ فقد أوجد الإسلام نهضة فكرية جمعت كل العناصر تحت لوائها.
وكانت اللغة العربية هي منطلقها الأصيل. إن الإسلام وحده هو الذي شكّل
عقلية العلماء سواء أكانوا فُرساً أو هنوداً أو تركاً أو عرباً؛ لأنهم قد شاركوا بعقيدة
الإسلام وعقليته ومفاهيمه، ولم يكن لاعتبار قومياتهم أثر، وإنما كانوا مسلمين،
كتبوا باللغة العربية، ودليلهم القرآن.
أما القول بأن التخفف من التراث مطلب من أجل اللحاق بالحضارة فتلك
دعوى مضللة وباطلة، بل العكس هو الصحيح؛ فقد أكد العلماء التجريبيون أن
النهضة الإسلامية لا يمكن أن تُستأنف إلا بالاتصال بنهاية التراث الإسلامي الذي
توقف من قبل للبناء عليه؛ فالذين يدعوننا إلى التخفف من التراث إنما يدعوننا إلى
التيه حتى نفقد طريقنا ومنطلقنا الحقيقي إلى النهضة المرتقبة؛ ذلك أن أبرز مظاهر
تراثنا الفكري والحضاري الصالحة لنهضة إسلامية عربية جديدة هي ذاتها العناصر
الأساسية للمنهجية العلمية والتقنية التي ارتكز عليها الانبعاث في أوروبا بعد عصر
النهضة وانطواء العصور الوسطى التي ظلت قرابة ألف عام الإطار الزمني
لازدهار الحضارة الغربية في مختلف مجالاتها الإنسانية؛ حيث برهن المسلمون
خلال ذلك على أصالة نادرة وروح خلاّقة واستعداد للتكيف؛ فقد أعدوا منهجاً
تجريبياً رصيناً لم يكن للإنسانية عهد به، وطوروا الاختصاص التقني، وحرروا
الفكر، وعززوا شمولية الكشف العلمي بربط الماضي بالحاضر.
يقول الدكتور أحمد سعيدان: إن المهمة الفريدة للبحث في هذا التراث هي أنه
يمكّننا من إقامة بنيان المعرفة العلمية لدى أجيالنا القادمة على خلفية من إنجازاتنا.
إن عرض مسيرة العلم كما لو كان قاصراً على الإنجازات الغربية لا يخلق حافزاً
للأجيال الصاعدة، ولا يقيم في أذهانهم قيماً ومُثلاً بقدر ما يضع في نفوسهم ألا
يعرفوا أن لأجدادهم إنجازات واكتشافات واختراعات. إن قصر البحث على
الإنجازات الغربية يفقدهم شخصيتهم ويشعرهم بالنقص، وهو يعوق استقلالهم
الفكري ويحول دون الأصالة والإبداع. إن موضوعية البحث لا تتناقض بتنشئة
المواطنين تنشئة فيها الاعتزاز بماضيهم والانتماء إلى أصولهم والثقة بقدراتهم دون
تهويل إلى حد الادعاء الأجوف.