مجله البيان (صفحة 3018)

العولمة حلقة فى تطور آليات السيطرة

في دائرة الضوء

العولمة حلقة في تطور آليات السيطرة

خالد أبو الفتوح

منذ أن تمت أول جريمة قتل في تاريخ البشرية على يد قابيل بن آدم باستخدام

أكثر الأدوات بدائية (وهي صخرة على ما جاء في بعض روايات التفسير) وسُبل

تطوير آليات العنف بهدف الإخضاع والسيطرة لم تقف عند حد..

فبعد ما كان الإنسان القديم يعتمد بشكل أساس على قواه العضلية اعتبر تمكنه

من تطويع الحديد والمعادن الأخرى خطوة مهمة في الارتقاء بهذه الآليات؛ حيث

أضيفت إلى القوة العضلية الكفاءة التصنيعية والمهارة التدريبية لاستخدام تلك

الأسلحة الجديدة كالسيف والرمح والسهم ... وفي المحاولات العديدة لسيطرة

المجموعات البشرية بعضها على بعض عن طريق المعارك الحربية التي كانت

أقرب ما تكون في العصور الوسطى إلى العركات أو (الخناقات) الكبيرة المنظمة

بقي عنصرا القوة العضلية والشجاعة القلبية ملازمين لهذه الآليات الجديدة، وإن

ظهرت وقتها بعض المحاولات لتحييد هذين العنصرين، باستخدام آليات للرجم

بالحجارة والكرات المشتعلة باستخدام المنجنيق وركوب مركبات تجرها الحيوانات.

وباكتشاف البارود وابتكار المحركات البخارية، ثم النارية، وما ترتب على

ذلك من اختراع الغرب لأسلحة جديدة ذات فاعلية كبيرة في الفتك والتخريب

كالمدافع والطائرات والدبابات والصواريخ.. تقدم الإنسان خطوة كبيرة على طريق

تحييد العنصرين المشار إليهما (القوة العضلية والشجاعة القلبية) ، فبرغم بقائهما

ضروريين في المعارك الحربية إلا أن الحاجة إليهما تأخرت كثيراً؛ لأن الالتحام

التقاتلي المباشر تأخرت أهميته هو الآخر في هذه المعارك؛ حيث أصبح من اليسير

التقاتل مع الأعداء عن بُعد وإيقاع أفدح الخسائر بهم بدلاً من هذا الالتحام أو

الحصار لآماد طويلة.. كما أصبح من اليسير إيقاع أشد النكال بالمدنيين العزل قبل

القضاء على جيوشهم، وأحياناً قبل مواجهة تلك الجيوش، ولكن مع ذلك بقيت

الحروب في وعي الإنسان أحد أساليب السيطرة البشعة والمكلفة بشريّاً وماليّاً.

وبإسقاط أمريكا لأول قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي باليابان

خطا الإنسان خطوات عدة في أكثر من اتجاه على طريق السيطرة والإخضاع:

خطوة على طريق القوة التدميرية الهائلة للأنفس والممتلكات، وخطوة على طريق

التقاتل وإيقاع الخسائر بالعدو بأقل مواجهة تذكر مع استخدام أكثر للذكاء الإنساني

في التخطيط والتنظيم والأدوات والتقنيات، وخطوة على طريق التهديد بالقوة

والبطش كرادع وقائي من أجل السيطرة والإخضاع.

وعلى صعيد آخر ظهرت الرغبة في التدمير الانتقائي للعدو، وذلك باستخدام

الأسلحة الكيماوية والبيولوجية التي تستطيع القضاء على الأحياء مع الإبقاء على

البنى الأساس والمنشآت المهمة يتسلمها الطرف المنتصر بعد دخوله المدن المقهورة! وآخر ما سمعنا عنه في هذا المجال ما تفتقت عنه قريحة الإنسان الغربي من

محاولة ابتكار القنبلة العرقية التي يخطط لها أن تقضي على أناس ينتمون إلى عِرق

محدد لو ألقيت على مكان تأهله مجموعات عرقية مختلفة!

تغير مجالات الصراع وبروز عناصر جديدة للقوة:

غير أن معادلات الصراع أخذت شكلاً جديداً بعد الحرب العالمية الثانية؛

حيث ذاق الإنسان ما فيه الكفاية من ويلات الحروب العائدة على المهزوم والمنتصر، وحيث وجدت هوة كبيرة في التسلح والتقدم التقني في جميع المجالات بين العالم

الأول والعالم الثالث والأخير، حتى أصبح هذا الأخير لا يفكر في مناطحة الأول

الذي لا يحتاج بدوره إلى القضاء على العالم الثالث لضعفه وهامشيته وخضوعه

النفسي له، وبدلاً من القضاء عليه تكرس تفكيره على كيفية استغلاله لصالحه.

وقد أظهرت الحرب الباردة أن التوازن في القوة بين دول العالم الأول كان

أحد عوامل التعقل فيما بينها، نتيجة الوعي بأن الدخول في صراع عسكري

وخاصة لو كان نوويّاً سيؤدي حتماً إلى إفناء وإهلاك الأطراف المتنازعة الذين هم

في المحصلة أبناء تاريخ حضاري واحد، ومن ثم: تُركت ممارسة هذا الأسلوب

لمجتمعات العالم الثالث واستثمار النزاعات بينها لصالح دول العالم الأول.

وأخيراً: فقد تغيرت معادلات الصراع بعد الحرب العالمية الثانية من حيث

بروز نتائج الثورة الصناعية في الغرب؛ حيث ظهرت أهمية متزايدة لبعض

عناصر القوة تمثلت في: تبوّؤ الآلة مكان الصدارة في حياة الإنسان العملية،

وسيطرة رأس المال باعتباره قوة اقتصادية محركة لغيرها من القوى، وبروز أهمية

وسائل الإعلام وخاصة الصحافة، ثم بعد ذلك: الأجهزة المرئية والمسموعة،

وشبكات المعلومات باعتبارها أحد المكونات الرئيسة للرأي العام..

وصاحبَ تزايد أهمية هذه العناصر للقوة تعميق أنماط اجتماعية كانت جديدة

ومستغربة منذ عهد قريب؛ فمع انتشار الآلة ازداد طلب الترف والرفاهة، وشاعت

حياة اللذة والمتعة المجردة، وتراجعت القيم والمبادئ والعقائد إلا ما يخدم هذه الحياة

الجديدة، كما تكرس خروج المرأة إلى العمل وتحررها من البيت والرجل، وما

صاحب ذلك من اختلاط وفساد وتحطيم للأسرة بنيةِ المجتمع الرئيسة، وأصبحت

الأخلاق هي أخلاق الآلة والسوق!

السيطرة بالعولمة.. حتمية غربية:

ما علاقة كل ذلك بموضوع العولمة وآليات السيطرة؟

لله علاقته أن الغرب رغم إمكاناته الهائلة وتقدمه التقني الواضح إلا أنه غير

قادر على الاستغناء بنفسه عن بلدان العالم الثالث؛ حيث المواد الأولية الرخيصة،

والأسواق الاستهلاكية الواسعة، كما إنه لا يستطيع غض الطرف عن المشاكل التي

يسببها له هذا العالم، وعلى سبيل المثال: فقد أحس الغرب إبان أزمة البترول

الأولى (1973 1974م) والثانية (1979 1980م) بأن هذا العالم الخارجي أصبح

قادراً على أن يزلزل استقراره الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لو ترك الأمر بيده

وحده لله وعلاقته أن الغرب رغم امتلاكه لناصية القوة العسكرية إلا أنه غير مستعد

باعتباراته المجتمعية لبذل أرواح أفراده إلا في حالة الضرورة القصوى عندما يكون

الموت للإبقاء على الحياة، [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا

يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ... ] [البقرة: 96] ، فهم لا يملكون في حسهم إلا

هذه الحياة الدنيا [وَقَالُوا إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] ...

[الأنعام: 29] ، [وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَاًكُلُونَ كَمَا تَأكُلُ الأَنْعَامُ] [محمد: 12] فماذا يبقى لهم لو فقدوا هذه الحياة؟ وبشهادة مفكري الغرب فإنه بعد الحرب العالمية الثانية انحسر في حس أفراد المجتمع الغربي مدّ الأيديولوجية السياسية ... والمذهبية انحساراً ملموساً [1] ، وحلت محله روح المصلحة التي مثلتها مذهبية البراجماتية (النفعية) في تطبيقها الأمريكي الواضح، كما إن مبادئ نظرية التحليل النفسي التي أشاعها فرويد وتلامذته وآتت أكلها في المجتمع الغربي ربطت الصحة النفسية لدى الأفراد بمدى ما يحققونه من رغباتهم وشهواتهم الشخصية، حتى إن غير الأناني عند أصحاب هذه المدرسة يعتبر غير سوي نفسيّاً، وهذه الأحاسيس لدى الأفراد الغربيين ظهرت جلية أثناء حرب أمريكا في فييتنام، وبعدها خلال المغامرات الغربية في لبنان والصومال؛ حيث يتساءل الرأي العام دائماً: في أي سبيل نرسل أبناءنا للموت؟ وما العائد علينا من ذلك؟ وعندما تكون الإجابة: لمصلحة الوطن العليا، فإنهم يرسلون جيوشهم، مع الأخذ في الاعتبار الحرص على الاقتصاد في الالتحام ونيابة آلة التدمير عنهم فيه، وإدارتهم لها من خلال غرف العمليات المكيفة ما أمكن، وأحياناً: مع تناول نوع شيكولاتة لا يذيبها حر الصحراء، وهذا ما حدث أثناء حرب (فوكلاند) بين بريطانيا والأرجنتين؛ حيث لم تتوان بريطانيا في خوض الحرب دفاعاً عن ترابها الوطني في أقصى جنوب المحيط الأطلنطي، وحدث أيضاً أثناء حرب الخليج الأخيرة عندما شعر الغرب بأن شريان رفاهيته ورخائه تحت التهديد.

لله وعلاقته أن في إدارة الصراع يحرص كل طرف على جذب الطرف الآخر

إلى نطاق قوته وما يحسن استعماله، وفي سبيل ذلك يغري صاحبُ القوة الطرفَ

الآخر بالوقوع في هذا النطاق أو يورطه فيه، تماماً كما يفعل تجار المخدرات

ومروجوها؛ فإنهم إذا لم يجدوا في الشخص المستهدف الظروف الحياتية المناسبة

لاستغلالها فيه، فإنهم يعرضون عليه جرعة المخدرات الأولى مجاناً، والتي تليها

بثمن بخس.. وهكذا، حتى إذا أدمن وأصبح غير مستغنٍ عن هذه المخدرات

طالبوه بما يريدون وابتزوه بما لا يرضى ولا يستطيع!

كيف ستعمل الآلية الجديدة؟

فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان الغرب بقيادة يهود يريد التحول والاستقرار

بأسلوبه في السيطرة من الاستعمار إلى الاستحمار (أي: ركوب الأمم واستغلالها

دون القضاء عليها) : فما هي القوى غير العسكرية التي يملكها الغرب ويستطيع بها

تركيع الآخرين وإخضاعهم له لو استطاع جذبهم إلى نطاقها؟

إنها قوة الاقتصاد الرأسمالي المتوحش؛ فكما يقول إيرازموس (1508م) :

(إذا حاربت بسيف المال فستكون الغالب دوماً) ، وقوة تشكيل الرأي العام؛ فالرأي

العام هو ملك العالم على حد تعبير المفكر الفرنسي بليز باسكال (1670م) ، وقوة

إفساد الآخرين وهدم شخصيتهم الثقافية التي تمثل عائقاً للتمتع بالاستحمار الغربي

للشعوب.

وهذه القوى الثلاث هي التي دار حولها الحديث عن العولمة، وهي كما هو

واضح قوى متضافرة يخدم بعضها بعضاً؛ فالرأي العام مثلاً يمكن تشكيله بحيث

يرحب بل يطالب بما يريده من يشكله، وهو يحتاج إلى أجهزة إعلام قوية، التي

هي بدورها في حاجة إلى رأس مال كبير، وهذه الأجهزة الإعلامية تستطيع

الترويج لنمط اقتصادي معين، كما تستطيع تهيئة الرأي العام لقبول هيكل اقتصادي

جديد وقيم اجتماعية عصرية، ومن خلالها ومن خلال النمط الاقتصادي المروج له

تبث المبادئ الثقافية والأيديولوجية المستهدفة التي ستعمل بدورها على نقص

المناعة الوطنية أو القومية أو الإقليمية أو حتى الدينية لقبول النظام الجديد.

وهنا نأتي إلى بيت القصيد، وهو أن الآلية المتطورة التي نتحدث عنها تتم

عن طريق العقوبات الاقتصادية التي قد تصل إلى الحصار الاقتصادي الجزئي أو

الشامل، وما يصاحبها من إجراءات سياسية ودبلوماسية، بل ورياضية، تعززها

حملة إعلامية منظمة لحشد الرأي العام العالمي لتأييد هذه العقوبات والإجراءات التي

تؤدي النتيجة المطلوبة من هذه الآلية البديلة عن أسلوب الحرب المعلنة، وهذه

النتيجة يمكن التحكم فيها حسب نوع العقوبات وقوتها، فتثمر إزعاج المجتمع

المستهدَف ومضايقته، أو تعويقه، أو شله، أو تدميره تدميراً شاملاً أو جزئياً، إلى

أن يخضع وتتم السيطرة عليه، وهذه الآلية تم اختبارها وما زالت مع دول عديدة:

كجنوب إفريقيا، وكوبا، وفييتنام، وإيران، والسودان، والصومال، وليبيا،

ويوغسلافيا السابقة، والعراق. وبحسب نظرية التطويق فإن مصر وسورية قد

تدخلان في هذا الإطار أيضاً.

ويقفز إلى الذهن سؤال مهم برغم بداهته، وهو: ماذا سوف يحصل لو

افترضنا جدلاً أن الدولة المستهدَفة مستغنية بنفسها عن المجتمع الدولي؟ .. الإجابة

البدهية أيضاً: أن هذه العقوبات التي تحملها الآلية التي نتحدث عنها لن تؤدي

هدفها المرجو من إخضاع هذا المجتمع والسيطرة عليه، بل ستكون عديمة الجدوى

والفاعلية. إذن لا بد من ربط المجتمعات المستهدفة بالإغراء أو بانتهاز فرصة

صعوبة ظروفها بالمجتمع الدولي (الدائر في فلك الغرب) بحيث لا تستطيع

الاستغناء عنه والفكاك منه، ليس ربطه بوجود علاقات تبادلية وتكاملية بينه وبين

الآخرين، بل بالتداخل والمشاركة في المقومات الحيوية له، وهنا تبرز مفاهيم:

حرية التجارة عبر الدول، والسوق المفتوحة، والسماوات المفتوحة، وشبكات

المعلومات، والطرق الدولية، والربط الكهربائي بين الدول، وشبكات الاتصال

المتوافقة والمعتمدة على الأقمار الصناعية، والصناعات التكاملية. وتبرز أيضاً:

خصخصة المرافق الحيوية والشركات الكبرى بعرضها في سوق العرض والطلب

الدولي مع التضييق أثناء التنفيذ على رأس المال الوطني، كما تبرز أهمية دور

الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الأهلية متعددة الفروع وجمعيات حماية

البيئة [2] ، ومنظمات حقوق الإنسان، والثقافة الإنسانية المشتركة.. حيث سيتوارى

إلى الظل دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي لتحل محلها الشركات متعددة الجنسيات

والمنظمات الأهلية ممتدة الفروع، تحت مسوِّغ تجنب التصدي لمسائل سياسية

وأخلاقية أساسية في عملية التنمية، بينما تحتفظ الدولة بالمهام الأمنية والسياسية

التي ستعمل بالطبع في خدمة الأدوار الأخرى، والهدف من ذلك: إيجاد معبر دولي

إلى المجتمع للتحكم فيه بعيداً عن هيمنة الدولة، واستخدام هذا المعبر عند الحاجة

ذريعة للتدخل بحجة حماية الاستثمارات الأجنبية، إضافة إلى الذرائع الأخرى

المطاطة والمعلبة، كحماية الأقليات أو حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو المحافظة

على البيئة، أو التشكك في حيازة أسلحة دمار شامل، ورعاية الإرهاب الدولي،

وتهريب المخدرات ... ، ولكن بالطبع لن يعلن أنه بحجة المحافظة على رخاء

المواطن الغربي والرفع من رفاهيته! وإذا تم فرض عقوبات على دولة يراد

إخضاعها فلن تكون قدرتها على الصمود إلا بدرجة استقلالها عن التبعية والمشاركة، وهو ما تخطط العولمة لعدم وجوده.

فبعد الحصار والعقوبات قد لا يتوفر الغذاء إن كان مستورداً، وحتى لو كان

محليّاً فسيتأثر الإنتاج الزراعي سلباً إن كانت بذوره أو أسمدته أو آلاته مستوردة،

وكذا: حال الدواء، وقد تتوقف الصناعة إن كانت المواد الأولية أو الآلات

مستوردة، أو إن كانت الصناعات تكاملية تصنع بعض الأجزاء في الخارج؛ حيث

تعمل العولمة على أن تكون عبارة (صنع في ... ) مجرد خرافة، وإن كانت الدولة

تعتمد في دخلها على تصدير مواد أولية أو زراعية أو صناعية فبوقف التصدير

توقف معظم مدخولات الدولة، وإذا كانت للدولة وفي بعض الحالات الخاصة

للأفراد استثمارات وأرصدة في الخارج، فتجميد الأرصدة كفيل بحذف هذه الأرصدة

ولو مؤقتاً، وهكذا تشل قدرة الدولة على الحياة الطبيعية لترتد إلى الخلف عشرات

السنين وربما مئات في السلم الحضاري، كما إن وسائل الإعلام المفتوحة ومروجي

الثقافة الإنسانية سيعملون على دفع الرأي العام للتذمر من هذا الوضع والانقلاب

عليه.

ما وراء العولمة:

ونتساءل الآن: إذا تجاوزنا تعريف العولمة والتناقضات التي تحملها طبيعتها، والإيجابيات والسلبيات المنتظرة منها، فما هو هدف العولمة؟

إن الهدف المعلن من العولمة هو إزالة الحواجز وتذويب الفروق بين

المجتمعات الإنسانية المختلفة؛ لسيادة آلية رأس المال التي تأبى أي قيود، وآلية

المعلومات التي تأبى أي رقابة، وكذلك إشاعة القيم الإنسانية المشتركة التي يراد لها

أن تجمع البشر وتكون أرضية لإنفاذ آلية رأس المال وآلية المعلومات المشار إليهما، فإجراءات العولمة الحالية تحاول أن تشمل الاقتصاد والسياسة والاجتماع

والاستراتيجية والثقافة، من خلال نظرية ليبرالية شاملة، جاعلة شعارها:

(المصير الواحد للبشرية) ..

وقد يبدو هذا الشعار براقاً من حيث إنسانيته، ولكن الإشكال في أن الإنسانية

ليست مجرد إطلاقات منفصلة عن مفاهيم ومصالح الإنسان الذي يضعها ويروج لها، فمن هو الإنسان المستفيد من العولمة؟ ومن هو القادر على إملاء مفاهيمه على

الآخرين؟ إنه الطرف الأقوى؛ فهو الذي سيحدد المعايير، وهو الذي سيدفع

الهيئات والدول نحو ما يريد، وهو الذي سيعمل بانتقائية لخدمة مصالحه، إنه

الغرب وعلى رأسه أمريكا ... الغرب الذي لم يعرف في تاريخه ولا حاضره إلا

العمل لمصلحته وترويج مفاهيمه.

وعلى ذلك: فالقوى العظمى ذات المصلحة الحالية لن تفرط بمكاسبها، على

أساس أن الذي يسيطر حالياً هو الذي سيبقى مسيطراً في عصر العولمة إلى درجة

العمل على إفناء الآخرين؛ فالمعركة التنافسية لن ترحم الضعفاء، وبدهي أن

إجراءات العولمة تفترض الاعتماد على اقتصاد قوي وأنظمة سياسية واجتماعية

مستقرة وبنى تحتية غير محدودة، وخاصة في نطاق الاستثمارات التي تتطلب

رؤوس أموال باهظة، وهذا ما لا يتوفر لدول هشة لا تملك القدرة بذاتها على تأمين

الضرورات الحيوية لشعوبها، فاختارت أو اضطرت للانجذاب إلى الأقطاب القوية

كما في الحقيقة الفيزيائية في التجاذب المغناطيسي.

وأمريكا وحدها هي التي لا تقع في منطقة نفوذ لغيرها، وهي التي تملك

استراتيجية قادرة، وقوة عسكرية سهلة الانتشار عالمياً لحماية مصالحها، ولمراقبة

الحصارات المتوقعة بعد العولمة، وهي التي تحاول السيطرة مالياً بجعل الدولار

القاعدة النقدية الدولية، وهي الأكثر قدرة على رسم خطوط التقسيم، سواء مباشرة، أم بواسطة البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، أو تنظيمات تجارية إقليمية، أو

تنظيمات عسكرية قارية.

الدور المرتقب للعالم الثالث في العولمة:

أما العالم النامي فهو في نظر الغرب مجرد حشو دولي! يمكن الاستفادة منه،

ولكنه غير مؤهل لدخول لعبة العولمة، أي إنه ليس بلاعب ولكنه ملعوب عليه،

وهذا ما يظهر إذا أردنا توضيح المفارقات في الوزن الاقتصادي لبعض الأطراف

التي يراد لها دخول عالم العولمة: فالشركات متعددة الجنسيات التي يتوفر لها رأس

مال ضخم بالتهامها شركات صغرى اشترتها بأبخس الأثمان، أو قيامها على أنقاض

شركات كبرى أفلست في صراع المنافسة، أو باعتمادها على شركات فرعية تابعة

لها، هذه الشركات هي التي تستطيع خوض المنافسة في الأسواق وكسب رهان

الأرباح الطائلة، وحسب (عبد الهادي بو طالب) (1998م) فقد كان يوجد في العالم

منها نحو مئة شركة عام 1970م، وفي الثمانينيات ارتفع عددها إلى عدة مئات،

بينما تجاوز عددها منذ سنة 1995م الأربعين ألفاً بقليل، منها ألف شركة عملاقة

موجودة اليوم، وتملك وحدها 25% من إنتاج العالم، في قمتها (191) شركة

تتوزع جغرافياً كما يلي: (62) شركة في اليابان، (53) شركة في أمريكا، (23)

شركة في ألمانيا، (19) في فرنسا، (11) في بريطانيا، (?) في سويسرا، (?)

في كوريا الجنوبية، (?) في إيطاليا، (?) في هولندا.. وهذه الشركات لا تساهم

إلا بنسبة 0. 75%من مجهود التشغيل العالمي، ولا تؤدي إلا 9% من مجموع

الضرائب العالمية، بينما تحتكر 80% من حجم التجارة العالمية.

وفي المقابل نجد أن الدول العربية كإحدى المناطق المستهدفة بالعولمة بلغت

ديونها الخارجية عام 1995م: (250) مليار دولار [3] ، وتتفاقم ديونها بما مقداره

(50) ألف دولار في الدقيقة الواحدة (?) ، ولا شك أنه كلما ارتفعت وتيرة الديون

كلما ترسخت التبعية ووُجدت الذريعة للتدخل، فعن طريق القروض احتلت إنجلترا

مصر واحتلت فرنسا تونس في القرن الماضي ... وبسبب هذه الديون التي بدأت

بتشجيع من الغرب عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين يعملان

على إغراق الدول المستهدفة بالديون أصبح اقتصاد معظم هذه الدول متخبطاً،

يستطيع وبصعوبة بالغة ملاحقة خدمة الديون وفوائدها المتراكمة، فهي في الحقيقة

وسيلة لبسط النفوذ على البلاد تماماً كما كانت في الماضي.

فبين من ستكون المنافسة في ظل العولمة؟ وكيف ستكون مكانة مثل هذه

المجتمعات النامية في العولمة؟ إنها مكانة البقرة الحلوب التي يراد لها ألا تخرج

من الحظيرة.

وحتى لا يتضح دور العالم الغربي وعلى رأسه أمريكا في الهيمنة العالمية

فسيكتفي الغرب بدور الموجه والمشرف فقط، تاركاً تتميم الإجراءات وفرض رؤى

العولمة للمجتمعات المستهدفة نفسها عن طريق المؤتمرات الدولية والإقليمية

والمنظمات الدولية، كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة

العالمية (Wto) والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومنظمة الأغذية والزراعة

(Fao) ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة اليونسكو....

فمعظم الأنشطة الإنسانية بدءاً من مولد الأفراد، وشكل المحاضن الاجتماعية لهم،

وشرعيتها، وتعليمهم، وعملهم، والقوانين التي يجب أن يسيروا عليها، والنظام

السياسي والاقتصادي الذي ينبغي أن ينخرطوا فيه، والإعلام الذي يوجههم.. كل

ذلك وغيره أصبح موضع اهتمام دولي أو إعلام عالمي أو منظمات أممية، حتى بدا

أن هذه المنظمات تريد أن تعمل بين البشر عمل الوزارات المختلفة بين أبناء الدولة

الواحدة، فإذا استطاعت ألا يكون لأي رؤى أخرى مجال في تكوين رأي آخر أو

سيطرة فلن تتوانى في ذلك.

مشاهد من مسيرة السيطرة بالمشاركة والتداخل:

وهذا التفسير الذي قد يحلو لبعض المتغربين وصفه بالتآمري للعولمة، وهو

أنها آلية متطورة للسيطرة على الشعوب واستغلالها، بحيث لا تستطيع الفكاك من

الفلك الغربي التآمري، وإذا فعلت ذلك فسيسهل إخضاعها وتركيعها بغير حرب

معلنة.. هذا التفسير يوضح لنا عدة ظواهر غير مترابطة في الظاهر وغامضة في

المدلول عند كثير من الناس:

لله يوضح لنا دور مؤتمرات القمة الاقتصادية للشرق الأوسط التي انعقدت في

الدار البيضاء وعمان والقاهرة والدوحة..، وسبب الإصرار على ربط السلام

بالتطبيع، حتى تكاد تكون استراتيجية اليهود في المرحلة الراهنة: (من المحيط إلى

الخليج.. التطبيع قبل التوقيع!) ، فسيطرة الأداة الاقتصادية لا تتم إلا بقدر وجود

فراغ سياسي وثقافي وضعف انتماء ديني ووطني، مما يهيئ المناخ لقبول تركيبة

العلاقات الجديدة، وهنا يبرز التفسير العولمي للصراعات والنزاعات إقليمية كانت

أو دولية فمضمون هذا التفسير: أنها يجب أن تؤخذ من منظور اقتصادي، ويكون

حلها من خلال هذا المنظور الاقتصادي أيضاً، فبالتطبيع الاقتصادي ستكون مصالح

جميع الأطراف متداخلة ومتشابكة، فيقودهم ذلك المصير الواحد إلى المعايشة

والسلام، وبه أيضاً ستدار الحرب بالآلية الجديدة المتمثلة في الاقتصاد والاجتماع

والإعلام، وهذا ما أكده (شمعون بيريز) عند تسويقه لمشروع السوق الشرق

أوسطية؛ حيث (برهن على أن الحروب هي أسوأ وسائل السيطرة، بل إن

السيطرة الحقيقية تكون بالاقتصاد والتكنولوجيا والعلم، إن دول الشرق الأوسط قد

أنفقت الكثير على الحروب والدمار، ولا بد أن نكسر الحواجز النفسية لوضع

منظومة اقتصادية يرتبط بها الجميع) (?) .. وهذه الحواجز النفسية يقوم بكسرها

التطبيع الثقافي والإعلامي، الذي يعمل على الوصول إلى نوع من الانفتاح العقلي

والنفسي على الآخر، بل يعمل على تعميق القابلية للذوبان في هذا الآخر وعدم

التفكير في الانفصال عنه، ولكن يهود لم يتوانوا في جمع غنائم هذه الحرب مبكراً، وذلك عن طريق: رفع بعض درجات المقاطعة الاقتصادية العربية النظرية، مما

وفر لها (?) مليارات دولار سنويّاً، (أي: أكثر من المعونة الأمريكية السنوية

لإسرائيل) ، وزيادة حجم التجارة الخارجية الخام بنسبة 20%، كما بدؤوا الحرب

الاقتصادية الفعلية حتى مع المجتمعات التي وقّعت معهم اتفاقات سلام، وذلك باتباع

سياسات الإغراق، وشراء الأصول الاقتصادية، وتدمير الصناعات والزراعات

الوطنية، ولأن اقتصاد هذه الدول (وهي لا تختلف كثيراً عن بقية الدول المستهدفة

إقليمياً وعالمياً) غير مؤهل للدخول في هذا النظام الشرق أوسطي لأسباب عديدة.

بل بدأت الحرب الاقتصادية الفعلية والواضحة تظهر آثارها على الاقتصاد

العربي، فقد ذكرت معلومات نشرتها مؤسسات أمريكية متعددة أمنية واقتصادية أن

السبب الرئيس وراء إفلاس وخسارة 39% من الشركات العربية كان (التجسس)

الصناعي، إضافة لإفساد صفقات بمليارات الدولارات، كما أشارت إلى أن هذه

المؤسسات لا تعلم سبب خسارتها حتى الآن [6] ، وجدير بالذكر أن أشهر قضايا

التجسس مؤخراً في مصر كانت من قضايا التجسس الصناعي، إضافة إلى قضايا

التجسس الاجتماعي ذات البعد السياسي، كالتجسس على بعض الجماعات

والتيارات الإسلامية.

لله وهذا التفسير يوضح لنا ما وراء الإلحاح على حشد المجتمع الدولي في

مؤتمرات دولية أشبه ما تكون بالتظاهرات، والتركيز على دور المؤسسات غير

الحكومية في صنع قراراتها، هذه القرارات التي يراد لها أن تكون بمثابة القوانين

الصادرة عن البرلمانات.

ويوضح لنا أيضاً لماذا الإصرار على مناقشة قضايا أخلاقية واجتماعية في

هذه المؤتمرات، كمؤتمر السكان بالقاهرة، ثم بلاهاي، ومؤتمر المرأة ببكين،

ومؤتمر الإسكان بإسطنبول، فهي نوع من العولمة لقيم اجتماعية غربية محددة،

ووضع المجتمع الدولي برمته على قدم المساواة مع الانهيار الأخلاقي والاجتماعي

الذي انحدر إليه الغرب؛ فالأسرة مثلاً تعتبر الركيزة الاجتماعية الباقية على قدر

كبير من التماسك والقوة في المجتمعات الشرقية وخصوصاً الإسلامية بينما هي في

الغرب تعتبر عملياً من مخلفات الماضي، وإن بقيت لها أهمية نظرية عند بعض

المفكرين وبعض المؤسسات الدينية، ويراد هدم هذه الركيزة في المجتمعات غير

الغربية عن طريق إخراج المرأة من تميزها النوعي والإنساني.

كما يراد من هذه المؤتمرات أن تكون معولاً بيد ضحاياها لهدم ما تبقى من

عناصر قوة في مجتمعات العالم الثالث، والذي يقع العالم الإسلامي في نطاقه، بعد

أن وضع الغرب يده على الموارد الطبيعية، وهي القوة البشرية الكثيفة التي يتمتع

بها هذا العالم، وذلك ما يمثل هاجساً للغرب، الأمر الذي عبر عنه بصراحة رجل

المخابرات الأمريكي صامويل هنتنجتون صاحب كتاب (صراع الحضارات) ، حيث

قال: (إن زيادة عدد السكان المسلمين وبصورة خاصة في منطقة البلقان والشمال

الإفريقي وآسيا الوسطى كانت أكبر بصورة ملحوظة مما حدث في البلدان المجاورة

لهذه المناطق وفي العالم بصورة عامة، ونما السكان في البلاد الإسلامية بمعدل

عشرة أضعاف النمو السكاني في بلدان أوروبا الغربية، ويغير هذا التطور بصورة

أساسية (التوازن الديني في العالم) ، وعلى سبيل المثال: تدل التقديرات على أنه

في حين أن المسلمين شكلوا 18% من سكان العالم في عام 1980م فإنهم سيشكلون

نحو 23% من سكان العالم في عام 2000م، و31% في عام 2025م، ومن ثم

يزيد عددهم على السكان المسيحيين!) . ويتابع قائلاً: (وستكون الغالبية العظمى

من الشباب من سكان المدن، كما سيكون معظمهم قد تلقى تعليمه الثانوي، وتشكل

هذه التركيبة من حيث السكن في المدن ومستوى التعليم ظروفاً سياسية هامة، وهذا

الجيل هو الذي سيوفر العناصر التي يجند منها أعضاء المنظمات الإسلامية

والحركات السياسية) [7] .. فهل تنجح جهود الأمم المتحدة في إعادة التوازن

السكاني في العالم؟ .. وهل ستتخلى البلاد الإسلامية عما تبقى لها من عناصر القوة؟

لله وهذا التفسير يوضح لنا سبب الإلحاح المستمر على تعدد صور السيطرة

الاقتصادية، والتي منها: حشد الدول نحو الانخراط في المنظومة الاقتصادية

الغربية تحت مظلة العولمة، والترهيب من التخلف عن هذا الانخراط، وفي هذا

السياق تظهر قمة (دافوس) الاقتصادية مكملة لمؤتمرات اتفاقية التجارة الدولية،

فهدف اتفاقيات التجارة الدولية الذي تحققه من خلال شروطها هو فتح الأسواق

العالمية أمام المنتجات الغربية بدون عوائق أو ضوابط، وعليه: فلن تستطيع

المنتجات المحلية مواجهة المنتجات المستوردة ومنافستها، مما يعني تعثر العديد من

الأنشطة الاقتصادية الوطنية، ويكون البديل المتاح هو: إما الاقتصار على

الاستيراد، وهذا البديل قصير الأمد؛ حيث ستنضب أرصدة السيولة المالية ويزيد

التضخم نتيجة الركود الاقتصادي، وإما بيع الأصول الاقتصادية إلى الشركات

العالمية بحجة الإصلاح الاقتصادي واللحاق بركب المنافسة العالمية.. وهذا هو

المطلوب.

ومن صور السيطرة الاقتصادية أيضاً: ظاهرة التزيين الإعلامي لحصول

الشركات المحلية على شهادة الأيزو، هذه الشهادة التي تنفرد بمنحها منظمات غربية

دولية، بحجة أنها شهادة منها بتحقيق الشركة الممنوحة لها للجودة، وعلى ذلك يحق

لها حرية التعامل في الأسواق الدولية دون قيود من الدول الأخرى [8] .

لله وأخيراً: فإن هذا التفسير يوضح لنا أيضاً الجهود المحمومة لتهيئة الرأي

العام نفسياً وثقافياً للعولمة، بدءاً من انتشار سراويل الجينز، وأزياء المودات

العالمية، ومطاعم الوجبات السريعة الأمريكية ومشروباتها الغازية..، التي يعتبر

افتتاح محلاتها ومصانعها تمهيداً للفتح الأمريكي وشعاراً عليه.

ومروراً بمحاولات محو ذاكرة الأمم والتلاعب في تراثها لمصلحة إزالة

الحاجز النفسي الذي بناه الغرب بممارساته الفجة في القديم، وتجميل وجه المستعمر

القبيح لنسيان إرث العداء التاريخي للغرب، وانتهاءً بمحاولات عولمة الدين وإيجاد

ثقافة أممية مشتركة؛ فالعولمة في صورتها النهائية ستشمل الاقتصاد والسياسة

والاجتماع والاستراتيجية والثقافة؛ حتى لا يكون هناك أي عائق لآلية الاختراقات

الغربية.

وفي هذا الإطار نستطيع فهم بروز دعوات تحاول تقديم المستعمر القديم في

صورة صاحب إنجازات حضارية في البلاد التي احتلها، ومن أبرز تلك التوجهات

مؤخراً: الجدل حول دعوة بعض المثقفين العلمانيين إلى الاحتفال بمرور 200 سنة

على الحملة الفرنسية في مصر، هذه الدعوة التي لم نسمع بها طوال مئتي عام

مضت وقد تأخذ هذه الدعوات شكل التدخل القانوني، كما رأينا في قانون مراقبة

الحريات الدينية والاضطهاد الديني الذي شرعه الكونجرس مؤخراً.

وأيضاً نستطيع فهم رعاية منظمات سياسية كالاتحاد الأوروبي لحوارات دينية

وثقافية، كمؤتمرات الحوار بين المسيحية والإسلام، والدعوة إلى ما يشبه الدين

العالمي، أو إلى ما يطلقون عليه: الحوار بين الحضارات، والهدف من وراء ذلك

هو اختراق الهويات والخصوصيات، وقد أشار إلى ذلك صامويل هنتنجتون في

كتابه وبحثه المشار إليهما، فقال: (الأصولية الإسلامية ليست هي مشكلة الغرب

الخطيرة، المشكلة هي الإسلام، الثقافة المختلفة التي يقتنع أصحابها بتفوق ثقافتهم، وهم مهووسون بتدني قوتهم، ومشكلة الإسلام ليست وكالة الاستخبارات المركزية

الأمريكية أو وزارة الحرب الأمريكية، المشكلة هي الغرب. وهو حضارة مختلفة

يقتنع أصحابها بعولمة ثقافتهم ويعتقدون بأن قوتهم المتفوقة وإن كانت في حالة

تدهور فإنها تفرض عليهم واجب نشر ثقافتهم في كل أنحاء العالم، هذه هي

العناصر الرئيسة التي تغذي النزاع بين الغرب والإسلام) ..

فما هو الأمل إذن؟ ! .. يجيب هو نفسه: (عندما تكبر أعمار الأجيال الحالية، فقد تخبو نار الإسلام في شمال إفريقيا، وإفريقيا، ومنطقة البلقان، وغيرها،

وعندما يحدث ذلك سيفتح الطريق أمام تعايش أكثر بين الإسلام والغرب، وإلى ذلك

الحين: يحتاج الغربيون والمسلمون إلى إجراء حوار بين الحضارات مثل الذي

نجريه، وذلك لاحتواء الخلافات الموجودة بينها..) [9] أي: إنه حوار للاحتواء

تفادياً للوصول إلى تصادم الحضارات الفعلي..

ما الذي يراد بالضبط من وراء العولمة؟

يُراد لف رباط عنق حريري ومتين حول أعناقنا برغبتنا وأيدينا ليتولى الغرب

شده وقت الحاجة.

* هل ستكون حكومة عالمية تحرك العالم؟

- هذا ما يعملون على تحقيقه.

* وما هو هدفهم إذن؟

- 1999.. نصر بلا حرب.

* ولكن ألا يمكن أن يعاود الغرب استعمال أسلوب السيطرة المتخلف؟

ربما، ولو حدث فقد يكون بصورة انتقائية، ولأهداف محددة، أو عن طريق

وكيل إقليمي.

وبعد:

فهذه أبعاد الجريمة التي تحاك ضد البشرية لمصلحة حفنة منهم، أردت

توضيحها حسب ما اتضح لي من رؤية، ولا بد أنه سيلح في ذهن القارئ سؤالان

مهمان:

- هل ستستطيع بعض المجتمعات الانفكاك من شَرَك العولمة؟

- وما العمل؟

أما الإجابة عن السؤال الأول: فإن الصورة القاتمة التي ظهرت خلال

العرض السابق هو تقدير الغرب وتخطيطه وليست بالضرورة قضاء الله وقدره،

[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] ، والغرب بقدر ما فيه

من قوة بقدر ما فيه من ضعف، والعالم الإسلامي بقدر ما فيه من وهن واضمحلال

بقدر ما فيه من قوة وإمكانات، ولكن الفارق أن الغرب الآن يعرف كيف يستغل

قوته ويسد خلته، بينما لا يدرك الآخرون كيف يدارون عورات ضعفهم ويبرزون

مواطن قوتهم، بل يمكن القول إنهم يساهمون في كثير من الأحيان في إضعاف

أنفسهم وتقوية الغرب بإلقاء عناصر قوتهم في المعسكر الغربي لتزيده قوة وتزيدهم

ضعفاً؛ فالعالم الإسلامي تبلغ مساحته حوالي ربع مساحة اليابسة، وإضافة إلى

توسطه الجغرافي الاستراتيجي وتحكمه في كثير من الممرات والمضايق الملاحية

فإن رقعته تمتلئ بالثروات والخيرات، على رأسها أكثر من 80% من احتياطي

البترول العالمي عصب الحياة العصرية..، والعالم العربي الذي تتفاقم ديونه بمقدار

(50) ألف دولار في الدقيقة الواحدة هو نفسه الذي تبلغ حجم استثماراته في أوروبا

وحدها (465) مليار دولار عام 1995م، بعد أن كانت (670) ملياراً عام 1986م، فنتيجة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والتبعية النفسية للغرب تصب هذه

الأموال هناك لتدار حسب المنظومة الغربية، وكذلك الأمر إذا نظرنا إلى هجرة

العقول الإسلامية إلى الغرب مع حاجة بلادهم إليهم.

وأمريكا التي توصف بأنها أغنى وأقوى بلد في العالم هي أيضاً أكبر بلد مدين

في العالم، وكما يقول مؤلفا كتاب (الإفلاس 1995م الانهيار القادم لأمريكا) : (من

الجدير بالذكر أن ديون أمريكا بلغت (?) تريليون دولار في العام 1992م، أما

الفوائد فقد بلغت (300) مليار دولار، أي أكثر من المبلغ الذي تنفقه البلاد على

قطاعات التعليم والعدل والإسكان والبيئة مجتمعة) [10] .

والإسلام الإسلام وحده هو الذي يملك في صراع الحضارات الإجابة عن

الأسئلة الكبرى حول الإنسان والكون والحياة، وهو الذي تتسق فيه روح الإنسان

مع جسده ومع عقله، هذا البعد لا يملكه الآخرون، وهو ما دعا نيكسون إلى

الصراخ أكثر من مرة في كتابه (1999 نصر بلا حرب) إلى ضرورة أن تهتم

أمريكا بالبعد الروحي في خطابها للآخرين.

فالمقصود أن في العالم الإسلامي مصادر قوة، كما إن في العالم الغربي نقاط

ضعف؛ فالمسألة ليست فقط مجرد إمكانات، ولكنها أيضاً توجه وإرادة وحكمة

وصبر، فيستطيع العالم الإسلامي استغلال مراكز قوته وسحب الآخرين إلى مجالها

إذا توافرت القوة الإيمانية الباعثة على التحدي والصبر على تحمل تبعات الحرية.

أما السؤال الثاني، وهو: ما العمل؟ فإنا نطرحه على جميع المخلصين

والمختصين لتقديم رؤى عملية تشمل الأفراد والمجتمعات للخروج من المأزق الذي

يعد باسم العولمة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015