فتاوى أعلام الموقعين
النظرة سهم من سهام إبليس
شيخ الإسلام ابن تيميةِ
قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
نحن في عصر مليء بالشهوات المحرمة والمغريات الفاتنة، ومن ذلك
الصورة المحرمة المنتشرة في كل ناحية وزاوية، فلا تكاد تقع عينك على مجلة أو
جريدة أو تلفاز أو سوق إلا وقد مرض قلبك وتكدّر إيمانك بسبب نظرة محرمة.
والله المستعان.
إن الكثيرين منا لا ينفكون عن النظر المحرم أو بعبارة أخرى لا يكاد يسلم
الكثير من سهم مسموم من سهام إبليس، وقد سطر يراع شيخ الإسلام ابن تيمية
جواباً موجزاً وبلسماً شافياً في علاج هذا الداء العضال.
ولما كانت السيئة تقول: أختي أختي.. فإن النظرة الأولى تتبعها النظرة
الثانية وهكذا ... وقد يلبّس الشيطان على البعض؛ فإذا فُتِن بالنظرة الأولى وزيّن
له التداوي بنظرة أخرى فهل يسوغ ذلك؟
لقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الشبهة من عدة أوجه.
سئل الشّيخ الإمَام العَالم العَلاّمة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه
عمن أصابه سهم من سهام إبليس المسمومة؟
فأجاب: من أصابه جرح مسموم فعليه بما يُخرج السم ويبرئ الجرح بالترياق
والمرهم؛ وذلك بأمور:
منها: أن يتزوج أو يتسرى؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا
نظر أحدكم إلى محاسن امرأة فليأت أهله؛ فإنما معها مثل ما معها) وهذا مما ينقص
الشهوة، ويضعف العشق.
الثاني: أن يداوم على الصلوات الخمس، والدعاء، والتضرع وقت السحر.
وتكون صلاته بحضور قلب وخشوع. وليكثر من الدعاء بقوله: (يا مقلّب القلوب
ثَبّتْ قلبي على دينك! يا مصرّف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك) فإنه متى أدمن
الدعاء والتضرع لله صرف قلبه عن ذلك، كما قال تعالى: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] [يوسف: 24] .
الثالث: أن يبعد عن مسكن هذا الشخص، والاجتماع بمن يجتمع به؛ بحيث
لا يَسمع له خبراً، ولا يقع له على عين ولا أثر؛ فإن البعد جفاء، ومتى قلّ الذكر
ضعف الأثر في القلب. فليفعل هذه الأمور، وليطالع بما تجدد له من الأحوال.
والله أعلم) [1] .
وسئل ابن القيم رحمه الله:
ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرةً فعلق حبّها بقلبه، واشتدّ
عليه الأمر، فقالت له نفسه: هذا كله من أوّل نظرةٍ فلو أعَدْتَ النظرَ إليها لرأيتَها
دون ما في نفسك فسلوتَ عنها، فهل يجوز له تعمّدُ النظر ثانياً لهذا المعنى؟
فكان الجواب: الحمد لله. لا يجوز هذا لعشرة أوْجُهٍ:
أحدها: أن الله سبحانه أمر بغضّ البصر، ولم يجعل شفاء القلب فيما حرّمه
عَلى العبد.
الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن نظر الفَجْأَة، وقد علم أنه
يؤثّر في القلب فأَمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر.
الثالث: أنه صرّح بأن الأولى له وليست له الثانية، ومحالٌ أن يكون داؤه
مما له ودواؤه فيما ليس له.
الرابع: أن الظاهر قوةُ الأمر بالنظرة الثانية لا تناقُصُهُ؛ والتجربةُ شاهدةٌ به، والظاهر أن الأمر كما رآه أولَ مرّةٍ فلا تحسنُ المخاطرة بالإعادة.
الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه فزاد عذابُه.
السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه فيزين له ما
ليس بحسنٍ لِتَتِمّ البلية.
السابع: أنه لا يُعَانُ على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع وتداوى
بما حرّمه عليه، بل هو جديرٌ أن تتخلف عنه المعونة.
الثامن: أن النظرة الأولى سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، ومعلومٌ أن الثانية
أشدّ سمّاً؛ فكيف يتداوى من السمّ بالسمّ؟
التاسع: أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عزّ وجلّ في ترك
محبوبٍ كما زعم، وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبيّن حال المنظور إليه، فإن لم
يكن مرضيّاً تركه، فإذاً يكون تركُهُ؛ لأنه لا يلائم غرضَه لا لله تعالى فأين معاملةُ
الله سبحانَهُ بترك المحبوب لأجله؟
العاشر: يتبين بضرب مَثَلٍ مطابقٍ للحال وهو أنك إذا ركبتَ فرساً جديدة
فمالت بك إلى درْبٍ ضيق لا ينفذُ ولا يمكنها تستدير فيه للخروج، فإذا همّت
بالدّخول فيه فاكبحها لئلا تدخل، فإذا دخلت خطوةً أو خَطوتين فَصِحْ بها ورُدّها إلى
وراء عاجلاً قبل أن يتمكّن دخولُها، فإن رَدَدْتها إلى ورائها سَهُل الأمر، وإن
توانيت حتى ولَجَت [2] وسُقْتَهَا داخلاً ثم قمت تَجْذِبها بذَنبها عَسُر عليك أو تعذّر
خروجُها، فهل يقول عاقل: إن طريق تخليصها سَوْقها إلى داخل؟ فكذلك النظرة
إذا أثّرت في القلب، فإن عَجِل الحازمُ وحَسَم المادّة من أوّلها سَهُل علاجُه، وإن
كرّر النظر ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلبٍ فارغٍ فنقشها فيه تمكنت
المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة؛ فلا تزال شجرة
الحب تَنْمى حتى يفسد القلب ويُعْرضَ عن الفكر فيما أُمِر به، فيخرج بصاحبه إلى
المحن، ويوجب ارتكابَ المحظورات والفتن، ويلقي القلب في التلَف. والسببُ في
هذا أن الناظر التذّت عينُه بأوّل نظرة فطلبت المعاودة، كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول
منه لقمة، ولو أنه غضّ أوّلاً لاستراح قلبُه وسَلِم، وتأمّل قول النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (النظرةُ سهْمٌ مَسْمُومٌ مِن سِهَامِ إبْلِيسَ) [3] فإن السّهْمِ شاًنُه أن يسريَ
في القلب فيعمل فيه عمل السمّ الذي يُسْقَاه المسمومُ، فإن بادر واسْتَفْرَغَه وإلا قتله
ولابدّ) [4] .