الافتتاحية
النقاء الدعوي
لم يشهد التاريخ مثلاً في نقاء الدعوة الإسلامية ووضوحها كما كانت في
صدرها الأول: نقاء في الغاية، ونقاء في الوسيلة، نقاء في المنهج، ونقاء في
الأسلوب، نقاء في المشروعية، ونقاء في الارتباطات والولاءات.. وهذا ما جعل
هذه الدعوة متميزة واضحة لأتباعها وأعدائها، لتمضي في طريقها رغم كيد الأعداء.
فمن أول يوم أعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدعوة كان واضحاً:
(إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) [1] ، وهكذا كان كتاب الله واضحاً: [إنَّا
أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً] (فاطر: 24) ، وغاية إرسال الرسل ومنهم محمد -
صلى الله عليه وسلم- واضحة: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ
أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء: 25] ، [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ
بِإذْنِ اللَّهِ] [النساء: 64] ، تتسق مع غاية خلق الثقلين الواضحة أيضاً: [وَمَا
خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات: 56] ، وتحقق العبادة في هذا الدين
بتفرد الله عز وجل بالهيمنة الكلية على حياة الإنسان ظاهراً وباطناً: [قُلْ إنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] [الأنعام: 162] . لقد ظلت هذه
الغاية واضحة، وظلت الدعوة إليها نقية لا يخالطها غايات أخرى، ولا تداخل معها
ما يشوبها، لا تنازل عنها، ولا مساومة عليها، ولا التقاء في منتصف الطريق،
ظلت مصلحة الدعوة هي الأوْلى بنقاء واضح، فلا تداخل للمصالح والأهواء حتى
ولو لبست مسوح مصلحة الدعوة؛ فعندما عرض المشركون على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- مقابل أن يترك هذا الأمر: ( ... إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً
جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا فلا
نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ... ) جاء الرد قاطعاً لا مجال
فيه لعروض أخرى، وعندما عرضوا استجابتهم الجزئية مقابل التنازل الجزئي منه- صلى الله عليه وسلم- نزل قوله تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (?) لا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ
مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] [الكافرون: 1- 6] يقطع على المشركين آمالهم
وييئسهم من هذه السبيل.
ولم يختلط عليهم أيضاً أن صاحب هذه الدعوة وأتباعه لا يتاجرون بها ولا
ينتفعون من ورائها، بل العكس هو الصحيح تماماً، يضحون من أجلها بالنفس
والمال، ويبذلون في سبيل نشرها وتحقيقها كل غالٍ ونفيس.. [أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًاً
فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ] [الطور: 40] ، [ ... قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ هُوَ إلاَّ
ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] [الأنعام: 90] .
ولم يكن النقاء الدعوي في الغاية والإصرار عليها والبذل من أجلها فقط، بل
كان أيضاً في الوسيلة: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] ، [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن
دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت: 33] ، وفي
الأسلوب: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ] [النحل: 125] .
والآن.. يحارب أعداء الصحوة وخصومها الدعوة الإسلامية بتلويث نقائها؛
فيعملون جاهدين على تداخل الغايات وطمس الحقائق والتباس المفاهيم، ويعملون
جاهدين على تشويه أصحابها أو مساومتهم أو الضغط عليهم ليحملوهم على تقديم
التنازلات أو الانزواء والانكفاء.. هكذا يعملون وهذا ديدنهم من قديم، ولا ينتظر
منهم غير ذلك إلا مخدوع موهوم.
ولكن.. هل أعداء الصحوة فقط هم الذين يقومون بذلك؟ .. يجب أن نعترف
أن بين صفوف الصحوة من يساعد خصومها على تحقيق مآربهم، بجهل أو غفلة أو
سوء تقدير أو.. هوى وشهوة! .. فلقد اختلط في أذهان كثيرين من أبناء الصحوة
هدف الدعوة وغايتها وخرجت في أحيان كثيرة من إطارها الكلي إلى دوائر جزئية
كثيرة منفصلة عن إطارها، يدور الصراع حولها، وباسم المصلحة والحكمة تنازل
بعض دعاة الإصلاح عن بعض الثوابت أو شوهوها أو هزوا مكانتها في النفوس،
وخرجت قلة تنتفع من وراء الدعوة؛ مما شوه نقاءها رغم ندرتها، وضلت الحكمة
عن بعض أبناء الصحوة، واختلطت الوسائل والأساليب، فحدث تنفير بدل إنذار،
وتمييع بدل تبشير..
إننا لا نحط من الإنجازات التي حققتها الصحوة ولا نتهم أحداً بعينه من أبنائها، ولكن ندرك أنه لكي ينجح أي عمل فلا بد أن يكون له تمحيص ومراجعة وتدقيق، وهذه المثالب والأخطاء لا تؤثر على أصحابها فقط، بل تؤثر على جموع
العاملين بالدعوة وعلى الدعوة نفسها.. لذا نقول: ما أحوجنا إلى الرجوع بالدعوة
إلى نقائها.. والله المستعان.