مجله البيان (صفحة 3001)

الورقة الأخيرة

أنت قادر على العطاء

د. شاكر بن عبد الرحمن السروي

العنصر البشري هو الأساس لكل نهضة، وهو العماد لكل حركة، وبدونه

تموت في مهدها أي فكرة. وعندما يشعر الأفراد في أي أمة أنهم غير قادرين على

العطاء، فإنما هم بذلك يصدرون حكماً بالإعدام على أنفسهم ومجتمعهم، شاؤوا أم

أبوا.

وذلك أنهم بتقريرهم هذا الشعور، يعلنون العزم المبيت على تجميد الحركة

والعمل ليصبح ذلك المجتمع بعد ذلك كالجثة الهامدة. إن هذه الظواهر الاجتماعية

التي يعرفها الخاص والعام، قد جاءت نصوص الشريعة بتقرير الحقائق عنها، فهي

ثابتة لا تتغير، وكونية لا تتبدل، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قال الرجل هلك

الناس فهو أهلكهم) [1] رواه مسلم.

لقد كان يقين السلف بقدرتهم على البذل والعطاء نابعاً من استشعارهم

المسؤولية الفردية القائمة على الإحساس بالعزة الإيمانية؛ فجعلتهم مشاعل هداية،

ونماذج فريدة في البذل والعطاء والتضحية، فكان الواحد منهم بأمة. فهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- يقدُمُ المدينة سفيراً للإسلام، فلا يحول الحول إلا وقد

دخل الإسلام أكثر بيوت المدينة.

وهذا نعيم بن مسعود الغطفاني لا يكاد يُسلم حتى يؤدي دوره فيُخذّل جيوش

الأحزاب.

وتأمل دور أبي بكر في الردة، وأحمد بن حنبل في الفتنة، وصلاح الدين في

الذلة، كلهم أفراد غيروا مسار الأحداث، وأعادوا كتابة التاريخ، وهذا غيض من

فيض.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع

إن مما يجدر بنا أن نستحضره في كل حين؛ أنه لا أحد في المجتمع المسلم

يمكن أن يوضع في خانة: (غير قادر على العطاء) ، بل الجميع يملكون شيئاً ما إن

لم يكن أشياء يستطيعون من خلاله خدمة أمتهم. وهذا النسق الاجتماعي، قد قرره

المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعله، والتزمته الأمة الإسلامية منذ

فجرها الأول.

فلو نظرنا إلى حديث الهجرة مثلاً، لتجلّى لنا ذلك في أروع صوره؛

فالصدّيق أمينُ السر ورفيق السفر، والجارية تحفظ السر وترتب الزاد، والصبي

ينقل الأخبار ويعفو الآثار، كل ذلك في صورة مشرقة لتنوع البذل بحسب القدرة.

وفي المدينة يدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس للبذل قائلاً:

(تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره،

حتى قال: ولو بشق تمرة) [2] .

بل وفي قمة أعمال البذل والعطاء في الجهاد في سبيل الله يبرز هذا المعلم

الإسلامي في أجلى صوره؛ فالكل يبذل، والجميع يُضحي، حتى إذا بقي الضعفة

والمساكين الذين لا مال لهم ولا قوة يجاهدون بها، يبقى لهم دورهم الذي ينبه إليه

الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (إنما ينصُر الله هذه الأمة بضعيفها؛

بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم) [3] .

إن خطر وأد الذوات وتحييدها عن العطاء، لا يمكن تجاهله أو تناسيه خاصة

في هذه الحقبة، التي يقبع فيها أهل الإسلام في مؤخرة الركب. وإن هذا الخطر

مما ينبغي تداركه وعلاجه حسماً لداء المُواتِ الذي دبّ في أوصال الجسد الإسلامي

المنهك. ومما يحسن الختام به التنبيه إلى أن صور وأد الذوات تكون من التعدد

وعدم الوضوح أحياناً؛ بحيث يصعب التفطن لها، ومن ذلك:

1- إحجام الفرد عن البذل، أو ممارسة عمل ما بحجة أنه ليس أهلاً لذلك،

لأي عذر يرتئيه.

2- إيهام النفس بأنه لا يُحتاج إليه في هذا المضمار؛ لأنه قد امتلأ بغيره،

في الوقت الذي قد لا يكون الأمر كذلك؛ بل ومن المحتمل أن يكون نفس الوهم

منتشراً بين العديدين؛ فيؤدي ذلك إلى أن الجميع يتركون العمل فيصبح هذا

المضمار خالياً تماماً.

3- التحايل على النفس بأن الإنسان إنما هو فرد لا يملك التغيير أو البذل أو

العطاء؛ لأن (التيار جارف) و (اليد الواحدة لا تصفق) ، متناسياً بذلك أصل

المسؤولية الفردية في الإسلام.

هذه بعض الصور من الأفراد أنفسهم، وقد تحصل صور أخرى ممن يتولى

الريادة والقيادة وذلك مثل:

1- ألا تُستغل المواهب الخاصة والقدرات الفردية لدى الأفراد كل بحسبه،

فتُقتل القدرات ويُخْنَق الإبداع، وقد خلق الله الناس مختلفين: منهم (القادة) ومنهم

(الساقه) و (قد جعل الله لكل شيء قدراً) .

2- ألا يُنْظَر إلى الجميع عند توزيع الأعمال؛ بل تتكرر نفس الوجوه دائماً

لكل الأعمال، وهذا يقتل الفئتين؛ فالعاملة تنهك بالأعمال؛ حتى تصبح غير قادرة

على العطاء المثمر، كما تَفُوتُ الاستفادة منهم فيما لا يحسنه إلا هم، وأما الكثرة

الباقية فتبقى أرقاماً لا رصيد لها في واقع الحياة.

3-الحكم بالإخفاق المؤبد على من يُسند له عمل ما، ثم لا يتقنه، في الوقت

الذي قد يحسن غيرَه، بل ربما كان الخلل ابتداءً في إسناد هذا العمل له وهو لا

يحسنه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015