مجله البيان (صفحة 2999)

قضايا ثقافية

الإسلاميون وسؤال النهضة

من النظرية إلى التطبيق

(3/3)

عبد العزيز بن محمد التميمي

تناولنا في مقالتين سبقتا؛ الحديث عن اجتهادات الإسلاميين والدعاة في

المداخل الصحيحة، والأولويات المناسبة لمعالجة ظاهرة التخلف والانحطاط التي

يعاني منها المسلمون في كل مكان في عصرنا الحاضر.. كما تحدثنا عن الموازين

الصالحة لتمييز الخطأ من الصواب في هذا الميدان الحسّاس الذي يصعب على

المرء فيه التخلي عن تحيّزاته وميوله وانتماءاته وتاريخه العملي الطويل.. ولكن

مهما بلغت درجة الصعوبة في التعاطي مع هذا الموضوع الحسّاس؛ فإنه ليستحق

الجهد الذي يُبذل من أجله؛ إذ يتم من خلاله الاهتداء إلى سواء السبيل في المدارج

التي ينطلق منها الركب الحضاري الإسلامي لاستعادة دوره المنشود أو المفقود.

وفي هذه الحلقة نحاول تقديم اجتهاد حسب الطاقة؛ ولا يكلف الله نفساً إلى

وسعها لتنزيل المبادئ والمقدمات النظرية التي أجملناها فيما سبق على واقعٍ ما ينفك

يتجدد، والتغيير سمة بارزة فيه إن لم تكن هي السمة الأبرز!

في أي واقع نعيش؟

يقول جيمس كارفيل مستشار الرئيس الأمريكي كلنتون:

(في الماضي، كنت أُمنّي النفس وأقول: إذا كبرت فأود أن أكون رئيساً

للجمهورية، أو زعيماً للكنيسة (بابا) أما الآن فقد تغيرت الأحوال، ولذلك فإنني أود

لو كنت مديراً للأسواق المالية؛ إذ بإمكاني أن أهدد من أشاء.. [1] !

تحمل هذه الكلمات الكثير من المعاني.. إنها تشير إلى تبدلات عميقة في

توزيع السلطات في العالم بين أهل العلم (أو من يسمونهم في الغرب برجال الدين) ،

وأهل السياسة، وأهل المال..

إذا كان العهد الحديث، قد شهد للمرة الأولى في التاريخ ميلاد الدولة العلمانية

(state) ، تلك التي تهيمن وتتابع حركات الإنسان، وتدخل عليه من كل باب:

من باب التربية والتعليم، ومن باب الخطاب والإعلام، ومن باب الاقتصاد

والسياسة؛ فهي الحاضرة دائماً، الفاعلة كما لم يحدث من قبل قطّ.. فبميلاد هذه

الدولة العلمانية أفتقد الإنسان في عالم البشرية المعاصر أهم أسباب حريته، وحقه

في التعبير عن ذاته.. وممارسة رغباته وإراداته بعيداً عن جميع صور الضغط

والإكراه..

إنها باختصار كيان أقيم ضد الفطرة.. كيان يؤذي الإنسان ويمزق لحمه

ويشعره بالوحشة والاغتراب. وإذا اعتبرنا أن ميلاد الدولة القومية العلمانية الحديثة

يمكن أن يبدأ مع الثورة الفرنسية في القرن السابع عشر في فرنسا؛ فلنا الحق أن

نتساءل: تُرى من أي نوع كان هذا الوليد الجديد؟ ! وما هي آثاره، وهو الوليد

الذي ظهر كما تزعم القابلات فراراً من هيمنة الكنيسة، وظلمها ووحشيتها وجهلها؟

هل كان هذا الوليد أخف قبضة من باباوات الكنيسة وقساوستها؟ !

هل كان أكثر عدلاً؟ !

هل كان أكثر استنارة وعلماً ورحمة..؟ ! لنترك شاهد التاريخ يتحدث. لقد

ولدت مع ميلاد هذا الوليد الزنيم، الفاشيّات الكبرى كالنازية والموسيلينية، وغيرها، ومضت هذه الفاشيّات في عسفها وظلمها، حتى تسببت في حربين عالميتين لم

يكن لهما نظير في التاريخ أبداً، زاد عدد القتلى فيهما على الخمسين مليوناً..! ! .

هذا فضلاً عن الجرحى، والمشردين والمطرودين ...

كما نجم عنها ظاهرة الاستعمار؛ حيث عثرت أوروبا أو اكتشفت كما تزعم

على القارة الأمريكية.. وهي تسمي ذلك اكتشافاً، وكأن السكان المقيمين هناك لم

يكتشفوا القارة قبل وصول (فاسكو ديجاما) إليها بمئات السنين.. وليت أن الأمر

اقتصر على سلب إنسانية الإنسان المقيم في القارة، بل لقد وُصِفُوا بالهنود الحمر

لمجرد أنهم كانوا يتوقعون الوصول عبر خط سيرهم للقارة الهندية، ووصفوهم

بالحمر لمجرد أن لون بشرتهم يختلف عن لون البشرة الأوروبية التي يعتبرونها

بيضاء حيث إن الأبيض سيد الألوان كما يزعمون ...

ولم يقتصر الأمر على نزع صفة الإنسانية عن السكان الأصليين، بل انطلقت

حركة قتل جماعي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً أسفرت عن تدمير حياة ما لا يقل عن

أربعين مليون إنسان ... ولم تقتصر النكبات على قارتي أوروبا وأمريكا؛ بل لقد

عانت إفريقيا هي الأخرى أبشع حركة استعباد في تاريخها، حيث نُقل الملايين من

الرجال والنساء عبر طرق نقل لا تتسم بأي نوع من الإنسانية من تلك القارة إلى

أمريكا، ومات بسبب عمليات الصيد والنقل الوحشي ما لا يقل عن عشرين مليون

إفريقي؛ فأي حضارة هذه وأي رحمة؟ !

ولم يقف الانحراف عند هذا الحد وما أقساه من حدّ بل تجاوز ذلك إلى أن

قامت ولأول مرة في التاريخ دولتان تؤمنان بالإلحاد الصارخ منهاجاً للحياة، هما

روسيا الستالينية، والصين الماويّة ... وارتكبتا في حق الإنسان والإنسانية ما يزيد

في وحشيته وظلمه عن تلك التي مارسها أبناء عمومتهم في أوروبا وأمريكا..

ولذلك فنحن نشهد في هذه الأيام نهاية تاريخ الدولة العلمانية، بعد أن تفجرت

بشكل صارخ أزمة النموذج الشيوعي في روسيا وأوروبا، وانتهت خلال عقد واحد

فقط دولته التي كانت في يوم ما دولة عظمى ذات هيل وهيلمان ... نعم! نحن

نؤمن بنهاية التاريخ لكن لا على الصورة التي يُبشّر بها (فوكو ياما) المفكر

(الياباني/ الأمريكي) تلك التي تعتقد أن أفضل النماذج البشرية في بناء المجتمعات

هو النموذج الغربي، بشقه الليبرالي الرأسمالي الديمقراطي، وإنما على النقيض من

ذلك تماماً.. نحن نعتقد أن الدولة العلمانية الأوروبية في سبيلها للأفول.

إنني أكتب هذه الكلمات وبالأمس فقط أعلن الاتحاد الأوروبي إطلاق عملته

الجديدة (اليورو) ، هذا الحدث هو جزء من الظاهرة التي يمكن أن نسميها (موت

الدولة الحديثة) ، إن هذه العملة الموحدة مجازفة سياسية كبيرة بالنسبة لبلدان الاتحاد

الأوروبي؛ إذ لن يكون لكل واحد منها مصرف مركزي يتمتع بالاستقلالية، بل

سيتعين عليها في المستقبل التنازل عن هذه البقية الممثلة لسيادتها، لمصلحة

مصرف مركزي أوروبي، وقد وصل الأمر بـ (هلموت كول) أن يقول: إنه وبناءً

على هذه الخطوة (فإن الأرض الألمانية لن تكون ثانيةً مصدراً للحرب أبداً..) .

إن هذا المشروع قد قام من أجل استعادة الدولة لقوتها في مواجهة أسواق المال

التي تغولت.. فلقد تمكن قراصنة المال من إدارة الحرب المالية بصورة شديدة

البشاعة؛ ففي عام 1995م تفجرت أزمة (البيزو) المكسيكي، فقبل سبع سنوات

امتلكت المكسيك سمعة دولية عالية، وثقة كبيرة في اقتصادها حتى تدفقت عليها

رؤوس الأموال، واستثمر فيها كبار الرأسماليين ما يزيد على (50) مليار دولار أي

أكبر من ميزانيات دول الخليج، وظل الاقتصاد في نمو مستمر حتى اضطرت

الحكومة للإعلان عن عزمها خفض قيمة عملتها بنسبة 15%، وتسبب الإعلان في

موجة من الذعر وهرب رؤوس الأموال حتى انخفضت قيمتها بنسبة 30% خلال

ثلاثة أيام من هذا الإعلان ... وفي الثلاثين من يناير من ذلك العام اتصل وزير

المالية المكسيكي (غمو بليرمو أورتيز) بكبير موظفي الرئيس (كلنتون) ، واعترف

له في هذا الاتصال بأن بلاده صارت على حافة الهاوية، وأنها قد استنفدت آخر

احتياطيّها من الدولارات. وهكذا اضطر كلنتون أن يعلن الخبر المثير الذي مفاده

أنه وبمساعدة صندوق النقد الدولي، وبنك التسويات الدولية، والحكومة الكندية،

فسوف تقوم أمريكا وبدون موافقة الكونغرس بتقديم قرض للمكسيك تزيد قيمته على

خمسين مليار دولار لمواجهة ما يعصف بها من أزمة، ولأول مرة ومنذ مشروع

مارشال تقدم الولايات المتحدة قرضاً بهذه الضخامة من أجل إنقاذ أموال حفنة من

المضاربين الكبار؛ إنها غزوة مفضوحة يموّلها الملايين من دافعي الضرائب في

الدول المانحة لمصلحة أقلية عظيمة الثراء، من الذين وصفهم مدير صندوق النقد

الدولي بأن (العالم في قبضة هؤلاء الصبيان) ! إنه صراع يديره كما تقول

الإكونومست (The صلى الله عليه وسلمconomist) (جيش ذو تسليح إلكتروني) ، وحسب تقرير

بنك التسويات الدولية (رضي الله عنهIC) فإن العملات الأجنبية تباع يومياً بمتوسط قيمته

(5. 1 مليار دولار) ، أي أربعة أضعاف ما ينفقه العالم في السنة على النفط.

ماليزيا الأزمة الأنموذج:

عندما تحررت الأسواق المالية وترابطت إلكترونياً، وصارت العمليات تجري

فيها بسرعة الضوء وهو الزمن اللازم لكي يقطع الإلكترون المسافة بين سوق

آسيوية وأخرى أمريكية؛ كي يعطي أمراً بالبيع أو الشراء منذ تلك اللحظة انفلت

المارد المالي من قمقمه، وراح يتحرك بجسارة وخطورة لا توصف؛ وكانت

ماليزيا قد حققت معدلات نمو غير مسبوقة في آسيا، وبدت نمراً آسيوياً واعداً.

في عام 1988م كانت سياسات ريجان الاقتصادية قد أدت لارتفاع عظيم في

سعر صرف الدولار، الأمر الذي دفع المصارف المركزية الأمريكية والبريطانية

والألمانية إلى لقاء سري في فندق بلازا، والاتفاق على العمل على خفض سعر

صرف الدولار، الأمر الذي أدى إلى انخفاضه السريع بمقدار 30%، الأمر الذي

ألحق أبلغ الضرر باحتياطي ماليزيا من الدولارات.. لذلك خطط رئيس الدولة مع

رئيس المصرف المركزي الماليزي: سري داتو حسين جعفر على إشعال حرب

عصابات مالية ضد عملات مجموعة الدول الصناعية الكبرى مستخدماً كل امتيازات

مصرفه المركزي.. وكانت أعنف معاركه تلك التي شنها ضد الجنيه الإسترليني

عام 1990م، فقد رمى مقاتلو (مهاتير محمد) الماليون في خلال دقائق مليار جنيه

استرليني في السوق، مسببين انخفاضاً في سعر صرفه بلغ خمس سنتات للجنيه

الواحد. لكن المصارف البريطانية أخذت استعدادها لأي هجوم مماثل، ولم يكن

التوفيق حليفاً دائماً لحسين؛ فعندما انهار نظام النقد الأوروبي، لم يكن يتوقع أن

ينسحب البريطانيون منه، الأمر الذي كلف مصرفه خسارة بلغت ستة مليارات

دولار في العامين 1992 1993م؛ مؤدياً بذلك لأكبر فضيحة مالية لماليزيا الأمر

الذي أفقده منصبه، ومن ثم ترنح الاقتصاد الماليزي من جراء هذه المغامرات وما

زال.

رجل موديز يحكم العالم:

في ظلال برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك الذي حظي بشهرة كبيرة إثر

محاولة تفجيره من قِبَل إرهابيين شرق أوسطيين كما وصفتهم وسائل الإعلام يرقد

أشهر مكتب لوكالات تقييم الاستثمارات رواجاً في العالم: (مؤسسة مودي لخدمات

الاستثمار (Moody) في هذا المكتب يعمل ثلاثمائة محلل وخبير اقتصادي،

ويتم تصنيف دول العالم بناءً على قوتها الاقتصادية، فدرجة (صلى الله عليه وسلمaa) لا تحظى بها

إلا دول عملاقة اقتصادياً كالولايات المتحدة واليابان، بينما يتعين على بلد نفطي

كالنرويج قبول تصنيف من درجة (صلى الله عليه وسلمa) ، أما إيطاليا فيكفيها درجة (صلى الله عليه وسلم) أما بولندا

فلم تحصل إلا على (رضي الله عنهaa) ، والمجر (رضي الله عنهa) .

يظهر هذا التصنيف بأنه وجهة نظر لمؤسسة مالية، لكنه في الواقع يلعب

دوراً خطيراً حتى في الاستقلال السياسي والمالي لبلدان كبرى.. ذلك أن الموظفين

المكلفين بشراء الأوراق المالية لصناديق الاستثمار، سوف يطالبون بأسعار فائدة

أعلى على سندات الدّيْن الحكومي؛ كلما كان تصنيف ذلك البلد أدنى درجة..

فالأرجنتين برغم التحسن الملحوظ في اقتصادها لا تزال مطالبة بسعر فائدة يزيد

بمقدار (3. 8%) عما تدفعه ألمانيا؛ لأن الأرجنتين تحتل الدرجة (رضي الله عنه) في هذا

التصنيف، بل حتى اقتصاديات الدول القوية مثل السويد لم تسلم هي الأخرى من

تدخل رجل (موديز) ، فعندما أراد رئيس وزرائها الاشتراكي (جوران برسون)

زيادة المساعدات الحكومية للضمان الاجتماعي بنسبة (80%) ؛ قدمت (موديز)

تقريراً علنياً يؤكد أن برامج الإصلاح المالي السويديّة غير كافية، وفي اليوم التالي

لهذا الإعلان انخفضت أسعار السندات (30) نقطة، وأسعار الأسهم (100) نقطة،

وأخذ سعر الكرونة يترنح، وليت الأمر اقتصر على هذا؛ إذ وصل الأمر إلى

درجة التدخل السياسي.

فعندما انخفضت قيمة الدولار الكندي في عام 1995م إلى درجات متدنية،

حاول رئيس الوزراء (جين كرتين) التصدي لهروب الأموال بتقديم موازنة جديدة

تعتمد على تخفيض الإنفاق، وقبل مناقشة المشروع في البرلمان أعلنت (موديز) أن

القدر الذي سيُخفض به الإنفاق الحكومي غير كافٍ؛ مما جعل حكومة كرتين في

مهب الريح. وكذلك حدث في أستراليا عام 1996م؛ فقبيل إجراء الانتخابات

أعلنت الوكالة أنها بصدد مراجعة تصنيف أستراليا المالي؛ وهو الأمر الذي أدى

إلى خسارة الحكومة العمالية للانتخابات؛ ولذلك كتبت صحيفة (النيويورك تايمز)

قائلة: (إن رجل (موديز) يحكم العالم) .

هل نعيش حقاً في (نظام) عالمي جديد؟

بعد كل ذلك يحق لنا أن نتساءل بجدية: هل هذا هو النظام العالمي الجديد

الذي بشر به الرئيس الأمريكي (بوش) بعد سقوط الكتلة الشرقية، ونهاية الحرب

الباردة؟ !

أم أن الأصح أننا نعيش في فترة (اللانظام) ... حيث يدير العالم حفنة من

المستثمرين الأثرياء؛ يملك (358 بليونيراً) منهم ثروة تعادل ما يملكه (2. 5

مليار) إنسان!

مؤلم حقاً أن تكون كلمات (بطرس غالي) الأمين العام السابق للأمم المتحدة

صادقة؛ حيث يقول: (إن التاريخ يشهد على أن أولئك الذين يعيشون في غمرة

التحولات الثورية؛ نادراً ما يفهمون المغزى النهائي لهذه التحولات) .

نعم.. نحن نعيش فترة نهاية الدولة، وبداية إمبراطوريات رجال المال

والأعمال؛ فهم الذين يُعيّنون رجال السياسة؛ حيث يحتاج عضو الكونجرس

الأمريكي على سبيل المثال إلى أن ينفق نصف مليار دولار كي يحتل مقعداً داخل

المجلس، ولن يفعل ذلك إلا بدعم من كبار الرأسماليين الذين يعتبر اليهود من

أنشطهم وأكثرهم تنظيماً..

هؤلاء الرأسماليون يملكون وسائل الإعلام والمحطات الفضائية أيضاً،

ويقدمون ما يناسبهم من الثقافة والمعلومات، ويرسمون القيم والأخلاق وأنماط

السلوك والاعتقاد. وفي ظل هذا (اللانظام) الذي لا يزال يتشكل تتم مواجهة كل

القوى التي تحاول التمرد على قيمه وموازينه، وفي ظله تدمر كل القيم

والحضارات والثقافات غير الغربية، ويحدث هذا تلقائياً وببطء شديد المفعول.

والقلة المكافحة التي ترفض الترويض والخضوع يتم معالجتها بوسائل أخرى

صارمة ودموية أحياناً؛ كما جرى في البوسنة والهرسك وكوسوفا وألبانيا، وكما

يجري عن طريق الوكلاء في مناطق التوتر الدولي.

باختصار ... إنه عالم جديد.. عالم تحكمه قيم اللذة والمنفعة والأنانية

الشخصية والاحتكار.. عالم يزداد يوماً بعد يوم تفسخاً وانحلالاً ودماراً.. عالم

تُلَوّث بيئته، وتُدمّر غاباته النباتية من أجل الوصول إلى بقاع استثمار جديدة..

عندما سأل الوفد المرافق للرئيس الأمريكي كلينتون في زيارته للصين السوق

الآسيوية الظامئة التي بدأت تفتح ذراعيها للوافد من الغرب عندما سألوا كبار

المنظّرين الشيوعيين الصينيين عن انطباعهم عن التحولات العالمية الجديدة، أجاب

هؤلاء بحسرة: (لقد أضعنا وقتاً طويلاً في الانشغال بقضايا لا قيمة لها! كم نحن

نادمون على أن لم نخطط منذ وقت بعيد لامتلاك سيارة ومنزل مريح، وعمل

مجزٍ..) .

إنها قيم الرأسمالية تغزو بلدان العالم أجمع ومنها عالمنا الإسلامي، ولا ترى

إلا قلة مكافحة من العقديين الإسلاميين هنا وهناك يسعون بمثابرة وإصرار وصبر

يدعو للإعجاب لمواجهة كل ذلك؛ فأي (نظرية في العمل) يمكن أن تختارها هذه

القلة لمواجهة الطوفان؟ !

الإعلام والإعلان:

تحرص الشركات الاقتصادية على الإعلان عن نفسها.. ويقول أحد خبراء

الاقتصاد: (لو كان لديّ ألف دولار للاستثمار، فسوف أنفق تسعمائة منها على

الإعلان وأستثمر الباقي) الشفافية العلنية، الوضوح، شعارات الحقبة الاقتصادية

الراهنة.. تلك هي سمات دعوة الانبياء؛ ولذلك فهم في الذروة من أقوامهم،

ونطاق دعوتهم ظاهر، كذلك فمنذ المرحلة المكية، يُعلّم الله نبيه -صلى الله عليه

وسلم- أنه عالمي الرسالة [لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً] [الفرقان: 1] . ويحدد عدوه

الأول [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً مِّنَ المُجْرِمِينَ] [الفرقان: 31] ويحدد هدفه

الأول.. ألا يعبد إلا الله [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا

الطَّاغُوتَ] [النحل: 36] ويتحرر من الأهداف الدنيا [قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ

المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى] [الشورى: 23] . [قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ]

[سبأ:47] . ويحدد مراحل الدعوة كذلك.. ففي مكة لا سلاح ولا قتال: [كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] [النساء: 77] . ثم الهجرة بعد أن أضحت مكة عقيماً عن أن تلد مؤمنين جدداً، ثم بناء الدولة بعد الهجرة وبداية المواجهة للشرك وأهله [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] [الحج: 39] .

العلنية والوضوح مطلوبان في كل شيء.. ذلك أن الناس لا يتعاطفون مع

المؤسسات والأعمال الغامضة والمبهمة؛ فالوضوح فضيلة كما يقول التربويون

والمصارحة والعلنية أساس الإصلاح الإداري وبداية المنطلق الصحيح للإنجاز

التاريخي المأمول على مستوى الأمة ... وحدهم الملوثون وعملاء الأفكار الذين

يحتاجون للعمل بصورة (باطنية) كالقرامطة والحشاشين والإسماعيلية.. أما

المجددون والمصلحون والرواد فهم (على الحق ظاهرون لا يضرهم من خذلهم ولا

من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) كما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-،

ولذلك حذر المجدد الأول (عمر بن عبد العزيز) من السريّة والتخفي لأتباع مدرسته

التغييرية، فعندما كتب لعلماء المدينة النبوية كأبي عمرو بن حزم، أوصاهم بتدوين

السنة، وقال لهم: (أعلنوا هذا العمل، وانشروه في المساجد؛ فإن العلم لا يهلك

حتى يكون سراً) !

هذا لا يعني بالطبع السذاجة وكشف الأوراق للأعداء كما يرى البعض.. فلقد

بقي النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة يورّي بالغزو في اتجاه، وهو يريد

الاتجاه الآخر ... ولا يزال التجار يعتقدون أن سرية خطواتهم القادمة ضمانة من

ضمانات نجاحهم، رغم حرصهم الملهوف على الإعلان عن أنفسهم ومؤسساتهم

على أوسع نطاق.

إن وسائل الاتصال، والحوار، والفهرسة، والتنظيم للمعلومات، قدمت

للدعوة الإسلامية فرصة قليلة المثال للتوجه بخطابها نحو أوسع فئة من المتلقين

بتكاليف ليست كبيرة وعلى قدر كبير من الإتقان ... بقي فقط أن يمتلك الصف

الإسلامي ناصية خطاب راقية، ومؤسسات بناء متكاملة، ونماذج تربوية تثير

الإعجاب.

إنني أعتقد مخلصاً وبيقين.. أنه آن الأوان للدعوات والدعاة المسلمين أن

يعلنوا بلا مواربة أنهم غير قادرين منفردين بالغة ما بلغت جهودهم من القوة

والإتقان على تحمّل التبعات والأعباء التي تتطلبها ضراوة المعركة، إن طاقات هذه

التيارات والجماعات لا يجوز أن تُهدر في مواجهات داخلية بينما ينفرد الشيطان

بتوجيه دَفّة العالم.. إذا كان هذا واضحاً. فإن من الواضح كذلك أن كل طاقة

إسلامية بالغة ما بلغت من الضعف هي كنز لا يجوز التفريط به، ولقد آن الأوان

حقاً للتخلي عن عقلية (الجماعة الأم) والفئة التي يجب على الجميع التخلي عن

راياتهم والانخراط تحتها ... وفي ظل الشّرذمة السياسية التي تعاني منها بلدان

المسلمين لا يمكن تصور وحدة عضوية للعمل الإسلامي؛ والمهم الآن هو تكامل

الجهود لا تآكلها.. وعلى كل راية دعوية أن تراجع خطها وتعيد النظر في مسلّماتها، وتُحسّن من أدائها وُتجوّد من فعالياتها.. عليهم جميعاً أن يدركوا أنهم مثل مصانع

الطوب.. تحسن إنتاج وحدات البناء، لكنها لا تملك مخططاً هندسياً لتشييد البنايات

والدور..

إن الظهور والاستخلاف والتمكين في الأرض يحتاج لظروف بيئية ودولية

وذاتية لا يملك أحد أن يفرضها.. إنها شروط (الانطلاقة الكبرى) كما يحب البعض

أن يسميها.. نحن نستطيع أن ندرس هذه الشروط، أن نبلورها، أن نشخّص

واقعنا وندرك قربه أو بعده من هذه الشروط.. لكننا لا نستطيع بحال أن ننتج هذه

الشروط. إنها شروط خارجة عن طوعنا وإرادتنا.. لا بل إنني أقول إنها شروط

خارجة حتى عن إرادة اللاعبين الكبار..

عندما أطلق الرأسماليون المارد الاقتصادي من قمقمه، لم يعودوا قادرين على

إعادته مرة أخرى إلى داخل القمقم. المجتمعات الغربية ذاتها التي أطلقت ذلك

المارد هي أول من يعاني من استبداد الرأسماليين وجشعهم وأنانيتهم وهي معاناة

تتفاقم يوماً بعد يوم.. وعندما أطلق كلنتون وعوده الرئاسية بالضمان الصحي

وتخفيض الضرائب.. إلخ، وجد أن كل هذه الوعود تتحطم على صخرة الواقع

القاسية؛ ولذلك تخلى عنها بصمت وهدوء. الرأسماليون الكبار اليوم هم الذين

يهدرون كرامة رئيس الولايات المتحدة في ولايته الثانية كل يوم على شاشات العالم

كله.. يذكّرونه دائماً.. حذارِ أن تتمرد على إرادتنا.

هل هذه ملامح (نظرية مؤامرة) اسطورية مدعاة؟ ! لا، ليس الأمر كذلك..

إنها ليست نظرية مؤامرة بالمعنى المباشر والساذج والبسيط، لا، إن ذلك ليس

صحيحاً على هذا المستوى. إنها سنة الله الكونية التي لا يستطيع أحد الوقوف

بوجهها إذا وجدت ظروفها ومسوّغاتها التاريخية.

[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ]

[هود: 102] .

إنه قدر الله حيث بدأت تقوم مملكة الشيطان في العالم، فكان لا بد للإنسانية

من أن تنال مجتمعة ويلات مخالفتها للأمر الإلهي، حتى لو وُجدت فئة صالحة لكنها

غير مصلحة، كما قال النبي: (يخسف بهم جميعاً ويصدرون مصادر شتى) .

وإنه لمما يؤسف له حقاً، أن نكون نحن أبناء هذا الجيل شهوداً على هذه

النهاية الأليمة للعالم.. لكن عزاءنا أن أملنا في الله كبير أن يكون بعد هذا الشر

المطبق خير كثير [حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ

قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا] [يونس: 24] .

[فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا

أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ] [الأنعام: 44] .

(المهدي مني من ولد فاطمة، أجلى الجبهة اقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً

وعدلاً، بعدما ملئت جوراً وظلماً) .

[قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ

تَعْمَلُونَ] [الأعراف: 129] .

وعلى الله قصد السبيل والحمد لله رب العالمين [*] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015