مجله البيان (صفحة 299)

هجر المبتدع

الشيخ بكر أبو زيد

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن

محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم

بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإنه في حال من انفتاح ما كان يخشاه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته

في قوله -عليه الصلاة والسلام-: (أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر

أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم،

فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) [1] .

وانفتاح العالم بعضه على بعض، حتى كثرت في ديار الإسلام الأخلاط،

وداهمت الأعاجم العرب، وكثر فيهم أهل الفرق، يحملون معهم جراثيم المرض

العقدي والسلوكي.

وفي وسط من تداعي الأمم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (يوشك أن

تداعى عليكم الأمم من كل أفق ... ) [2] ، وأمام هذا: غياب رؤوس أهل العلم

حيناً، وقعودهم عن تبصير الأمة في الاعتقاد أحياناً، وفي حال غفلة سرت إلى

مناهج التعليم بضعف التأهيل العقدي، وتثبيت مسلمات الاعتقاد في أفئدة الشباب،

وقيام عوامل الصد والصدود عن غرس العقيدة السلفية وتعاهدها في عقول الأمة.

فى أسباب تمور بالمسلمين موراً، يجمعها غايتان:

الأولى: كسر حاجز (الولاء والبراء) بين المسلم والكافر، وبين السني

والبدعي، وهو ما يسمى في التركيب المولَّد باسم: (الحاجز النفسي) ، فيكسر

تحت شعارات مضللة: (التسامح) (تأليف القلوب) (نبذ: الشذوذ والت طرف

والتعصب) ، (الإنسانية) [3] ، ونحوها من الألفاظ ذات البريق، والتي حقيقتها

(مؤامرات تخريبية) تجتمع لغاية القضاء على المسلم المتميز وعلى الإسلام.

الثانية: فُشو (الأمية الدينية) حتى ينفرط العقد وتتمزق الأمة، ويسقط المسلم

بلا ثمن في أيديهم وتحت لواء حزبياتهم، إلى غير ذلك مما يعايشه المسلمون في

قالب: (أزمة فكرية غثائية حادة) أفقدتهم التوازن في حياتهم، وزلزلت السند

الاجتماعي للمسلم (وحدة العقيدة) ، كلٌّ بقدر ما علَّ من هذه الأسباب ونهل، فصار

الدخل، وثار الدخن وضعفت البصيرة، ووجد أهل الأهواء والبدع مجالاً فسيحاً

لنثر بدعهم ونشرها، حتى أصبحت في كف كل لافظ، وذلك من كل أمر تعبدي

محدث لا دليل عليه (خارج عن دائرة وقف العبادات على النص ومورده) .

فامتدت من المبتدعة الأعناق، وظهر الزيغ، وعاثوا في الأرض الفساد،

وتاجرت الأهواء بأقوام بعد أقوام، فكم سمعنا بالآلاف من المسلمين وبالبلد من ديار

الإسلام يعتقدون طرقاً ونحلاً محاها الإسلام.

إلى آخر ما هنالك من الويلات، التي يتقلب المسلمون في حرارتها،

ويتجرعون مرارتها، وإن كان أهل الأهواء في بعض الولايات الإسلامية هم:

مغمورون، مقموعون، وبدعهم مغمورة مقهورة، بل منهم كثير يؤوبون لرشدهم،

فحمداً لله على توفيقه، لكن من ورائهم سرب يحاولون اقتحام العقبة، لكسر الحاجز

النفسي وتكثيف الأمية الدينية في ظواهر لا يخفى ظهور بصماتها في ساحة

المعاصرة وأمام العين الباصرة.

والشأن هنا في تذكير المسلم بالأسباب الشرعية الواقعية من " المد البدعي،

واستشرائه بين المسلمين، والوعاء الشامل لهذه الذكرى ":

القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، والتبصير في الدين،

وتخليص المنطقة الإسلامية من شوائب البدع والخرافات والأهواء والضلالات،

وتثبيت قواعد الاعتقاد السلفي المتميز على ضوء الكتاب والسنة في نفوس الأمة.

ومن أبرز معالم التميز العقدي فيها، وبالغ الحفاوة بالسنة والاعتصام بها،

وحفظ بيضة الإسلام عما يدنسها:

نصب عامل " الولاء والبراء " فيها، ومنه: إنزال العقوبات الشرعية على

المبتدعة، إذا ذكروا فلم يتذكروا، ونهوا فلم ينتهوا، إعمالاً لاستصلاحهم وهدايتهم

وأوبتهم بعد غربتهم في مهاوي البدع والضياع، وتشييداً للحاجز بين السنة والبدعة، وحاجز النفرة بين السني والبدعي، وقمعاً للمبتدعة وبدعهم، وتحجيماً لهم ولها

عن الفساد في الأرض، وتسرب الزيغ في الاعتقاد، ليبقى الظهور للسنن صافية

من الكدر، نقية من علائق الأهواء وشوائب البدع، جارية على منهاج النبوة وقفو

الأثر، وفي ظهور السنة أعظم دعوة إليها ودلالة عليها، وهذا كله عين النصح

للأمة.

فالبصيرة إذاً في العقوبات الشرعية للمبتدع: باب من الفقه الأكبر كبير،

وشأنه عظيم، وهو رأس في واجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصل

من أصول الاعتقاد بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، ولهذا تراه بارز المعالم في

كتب الاعتقاد السلفي " اعتقاد أهل السنة والجماعة ".

كل هذا تحت سلطان القاعدة العقدية الكبرى (الولاء والبراء) [4] التي

مدارها على الحب والبغض في الله تعالى، الذي هو (أصل الدين) وعليه تدور

رحى العبودية.

وهذه العقوبات الشرعية التي كان يتعامل بها السلف مع أهل البدع والأهواء،

متنوعة ومتعددة في مجالات:

الرواية، والشهادة، والصلاة خلفهم وعليهم، وعدم توليتهم مناصب العدالة

كالإمامة والقضاء، والتحذير منهم ومن بدعهم وتعزيرهم بالهجر، إلى آخر ما تراه

مروياً في كتب السنة والاعتقاد، مما حررت مجموعه في " أصول الإسلام لدرء

البدع عن الأحكام ".

وما في هذه الرسالة هو في خصوص (الزجر بالهجر للمبتدع ديانة) [5]

لأهميته في: التميز، والردع، وعموم المطالبة به، ولأنه أصبح في الغالب من

(السنن المهجورة) ، تحت العوامل المذكورة في صدر هذه المقدمة، لهذا رأيت إفراده بهذه الرسالة إحياءً لهذه السنة، ونشراً لها بضوابطها الشرعية التي تحفظ للمبتدع كرامته مسلماً، وتكشف بدعته بوصفه مبتدعاً، ما لم تكن مكفرة كبدعة: القدر [6] ، والباب، والبهاء ... وتحفظ على أهل السنة والجماعة كف بدعته ومداخلتها في صفوفهم، وهذا واجب باتفاق المسلمين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في بيان وجوب النصح

لصالح الإسلام والمسلمين:

ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في

أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل

البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل، فبيَّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من

جنس الجهاد في سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم

على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر

هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن

هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم

يفسدون القلوب ابتداءً ا. هـ. [7] .

هذا وما سيمر نظرك عليه في هذه الرسالة، فإنه ينتظم في جملته: أحكام

الهجر الشرعي للكافر والمبتدع الضال ببدعته والعاصي المجاهر بمعصيته، لكن

صار نسج الكلام وجلب الروايات والنقول في " هجر المبتدع "، لأن ضرره أعظم

وخطره أشد، كما مر بك في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-،

ويأتي له نظائر إن شاء الله تعالى.

وتجد رؤوس المعتبرات في هذه الرسالة على ما يلي:

1 - مقاصد الإسلام في الهجر.

2 - أنواعه.

3 - شروطه.

4 - صفته.

5 - منزلة هجر المبتدع من الاعتقاد.

6 - الأدلة العلمية من الكتاب والسنة والإجماع.

7 - إعمال الصحابة فمن بعدهم له في مواجهة المبتدع.

8 - ضوابط الهجر في الشرع.

9 - عقوبة من والى المبتدعة.

10 - التحذير من إشاعة البدعة.

فاللهم (ارزقنا هدياً قاصداً) [8] و (جنِّبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء) .

المبحث الأول

مقاصد الإسلام في الهجر:

فوائد الهجر للمبتدع التي قصدها الشرع كثيرة، منها ما يعود إلى الهاجرين

القائمين بهذه الوظيفة الشرعية العقدية، ومنها ما يعود إلى المهجور وإلى عامة

المسلمين، وإلى حماية السنن من البدع والأهواء، فالهجر الشرعي ومنه (هجر

المبتدعة) : عقوبة زجرية متعددة الغايات والمقاصد الشرعية المحمودة، وهي على ما يلي:

1 - أن (الزجر بالهجر) عقوبة شرعية للمهجور، فهي من جنس الجهاد في

سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وأداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، تقرباً إلى الله تعالى بواجب الحب والبغض فيه سبحانه وتعالى.

2 - بعث اليقظة في نفوس المسلمين من الوقوع في هذه البدعة وتحذيرهم.

3 - تحجيم انتشار البدعة.

4 - قمع المبتدع وزجره، ليضعف عن نشر بدعته، فإنه إذا حصلت

مقاطعته والنفرة منه بات كالثعلب في جحره.

أما معاشرته ومخالطته، وترك تحسيسه ببدعته: فهذا تزكية له، وتنشيط

وتغرير بالعامة، إذ العامي مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالباً، فلابد إذاً من

الحجر على المبتدع استصلاحاً للديانة وأحوال الجماعة، وهو ألزم من الحجر

الصحي لاستصلاح الأبدان.

وبعد أن نقل الشاطبي -رحمه الله تعالى- بعض الآثار في النهي عن توقير

المبتدع، قال:

(فإن الإيواء يجامع التوقير، ووجه ذلك ظاهر، لأن المشي إليه والتوقير له تعظيمٌ له لأجل بدعته، وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو أشد من هذا، كالضرب والقتل، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام.

وإقبالاً على ما يضاده وينافيه، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما

ينافيه.

وأيضاً فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان بالهدم على الإسلام:

أحدهما: التفات العامة والجهال إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنه

أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على

بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم.

والثانية: أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على

انتشار الابتداع في كل شيء.

وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه اهـ[9] .

5- إعطاء ضمانة للسنن من شائبة البدع ومداخلتها لصفاء السنن. والله أعلم.

المبحث الثاني

أنواع الهجر: وهى ثلاثة:

الأول: الهجر ديانة، أي: (الهجر لحق الله تعالى) وهو من عمل أهل

التقوى، في: هجر السيئة، وهجر فاعلها، مبتدعاً أو عاصياً.

وهذا النوع من الهجر للفجار على قسمين:

1 - هجر ترك: بمعنى هجر السيئات، وهجر قرناء السوء الذين تضره

صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة.

قال الله تعالى: [والرُّجْزَ فَاهْجُرْ] ، وقال سبحانه: [واهْجُرْهُمْ هَجْراً

جَمِيلاً] . وقال تعالى: [وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى

يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ

الظَّالِمِينَ] [10] .

وقال تعالى: [وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا

ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذاً مِّثْلُهُمْ] ، وفي

الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) .

2 - هجر تعزير: وهذا من العقوبات الشرعية التبصيرية التي يوقعها المسلم

على الفجار كالمبتدع، على وجه التأديب، في دائرة الضوابط الشرعية للهجر،

حتى يتوب المبتدع ويفيء.

وهذا القسم هو الذي تدور عليه الأبحاث في هذه الرسالة المباركة.

وهذا النوع بقسميه من أصول الاعتقاد، والأمر فيه أمر إيجاب في أصل

الشرع، ومباحثه في كتب السنن والتوحيد والاعتقاد وغيرها.

تنبيه: في هجر الكافر:

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:

(قال الطبري: قصة كعب بن مالك أصل في هجران أهل المعاصي، وقد

استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعاً ولا يشرع هجران الكافر، وهو

أشد جرماً منهما لكونهم من أهل التوحيد في الجملة.

وأجاب ابن بطال: بأن لله أحكاماً فيها مصالح للعباد وهو أعلم بشأنها وعليهم

التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه.

وأجاب غيره: بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران

باللسان، فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر لا سيما إذا كان

حربياً، وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف

العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالباً، ويشترك كل من الكافر والعاصي في

مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما

المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها " اهـ[11] .

والظاهر ما قاله النووي -رحمه الله تعالى- من أن للمسلم هجر الكافر من

غير تقييد [12] ، لما هو معلوم من الأصل الشرعي العام من تحريم موالاة الكفار،

والتحذير من موادتهم وتعظيم ما يؤدي إلى ذلك، ونصب الأسباب الموصلة إلى

ظهور المسلم عليهم كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم

في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " رواه أحمد ومسلم وغيرهما. والنصوص في

تحريم موالاة الكافرين من الكتاب والسنة وآثار السلف كثيرة مشهورة، والله أعلم

[13] .

- يتبع -

طور بواسطة نورين ميديا © 2015