مجله البيان (صفحة 2946)

المسلمون والعالم

المقاومة الفلسطينية خلال نصف قرن

1948 1998م مدخل للتقييم

(2/2)

د. محسن محمد صالح

في الحلقة الماضية استُعرضت تجارب المقاومة الفلسطينية عبر مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى (1948 1967) : حيث برزت المقاومة الفلسطينية وظهرت

حركة فتح و (م. ت. ف) .

المرحلة الثانية (1967 1978) : تصاعُد دور فتح العسكري وتوالي عملياتها

الفدائية ضد العدو، ثم ردود الفعل الصهيونية التي توالت حتى احتلال جنوب لبنان، وإضعاف المقاومة، وبروز تيار (السلم) ، وتنامي التيار الإسلامي.

المرحلةالثالثة: (1987 1998) : قيام الانتفاضة الشعبية في الداخل التي

شارك فيها الإسلاميون بقوة، وظهور (حركة حماس) التي قادت الجهاد المسلح. ثم

مسارعة (م. ت. ف) إلى مدريد، ثم اتفاق أوسلو و (الحكم الذاتي) ، ومجابهة

السلطة الفلسطينية والعدو الصهيوني معاً للتيار الإسلامي، ومحاولة تحجيمه

بالاتفاقات الاستسلامية.. ويواصل الكاتب بقية الموضوع ...

- البيان-

ثانياً: تقويم التجربة:

لو حاولنا تقييم تجربة المقاومة الفلسطينية خلال الخمسين سنة الماضية بناءً

على النتائج والأحوال التي وصلنا إليها الآن لوجدنا أن الأمر يدعو إلى القلق

والأسى؛ فقد تجذر المشروع الصهيوني في المنطقة، وتمكن من التوسع واحتلال

أراضٍ جديدة سنة 1967م، وكسر شوكة المقاومة الرسمية العربية والفلسطينية.

ونجح في ضمان دعم الدول الكبرى بدرجات متفاوتة أقلها الاعتراف بشرعية وجوده

واحتلاله لمعظم أرض فلسطين (فلسطين المحتلة سنة 1948) ، وحظي بالرعاية

والحماية الأمريكية، وتمتع بالتحالف الاستراتيجي معها، وقفز عدد اليهود من 650

ألفاً سنة 1948م إلى حوالي أربعة ملايين و700 ألف في 1997م يمثلون 36%

من يهود العالم. وتمكن الصهاينة من صناعة القنبلة النووية، وتجهيز حوالي مائتي

قنبلة تشكل خطراً كبيراً على العالم الإسلامي أجمع. كما استطاعوا تحييد دول

عربية، وإبعادها عن دائرة الصراع بإقامة معاهدات سلام معها (مصر والأردن)

وحققوا معاهدة سلام مع (م. ت. ف.) وفق شروطهم، وهي معاهدة تسهم في

حل مشاكلهم أكثر مما تسهم في الاستجابة لمطالب الفلسطينيين. ووجد الفلسطينيون

أنفسهم يقطفون ثماراً ضئيلة فجة قياساً إلى حقوقهم وآمالهم.

ورغم أن ميزان النتائج والمنجزات يميل بشكل صارخ إلى الجانب الصهيوني

الإسرائيلي، فإن هناك بعضاً من المنجزات التي تحسب للجانب الفلسطيني، أهمها:

* المحافظة على جذوة المقاومة والعداء ضد المشروع الصهيوني طوال الفترة

الماضية.

* الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، وأنه ذو حقوق مشروعة، بعد أن

كادت القضية أن تمحى، وتعالج على أساس أنها مشكلة لاجئين.

* تحقيق تعاطف دولي كبير، ودعم لقضية فلسطين، وعزل الكيان

الإسرائيلي سياسياً خاصة في السبعينيات (ما لبث الكيان الإسرائيلي أن حقق مكاسب

سياسية كبيرة خاصة بعد معاهدات السلام) .

* إخفاق الكيان الإسرائيلي في تحقيق أي اختراق تطبيعي شعبي في البلدان

التي أقام علاقات سياسية معها، واستمرت مشاعر العداء الشعبي العربي والإسلامي

ضده.

* بداية بروز المشروع الإسلامي لتحرير فلسطين، والذي يبشر بنتائج طيبة

على المستوى الاستراتيجي البعيد.

لكن تقويم التجربة يجب أن يتعدى دائرة النتائج لنفهم الأسباب والخلفيات التي

أدت إليها، وفيما يلي نقدم مجملاً مختصراً لذلك:

أولاً: إشكالية المنهج:

تميز الخط الأيديولوجي الفلسطيني العربي بأنه خط علماني، راوح بين

دائرتي الوطنية والقومية، كما كان هناك قطاع فلسطيني لا يُنكر حجمه خصوصاً

في الستينيات والسبعينيات تبنى أيديولوجيات يسارية اشتراكية ماركسية (الجبهتان

الشعبية والديمقراطية مثلاً) .

وكان الهدف في البداية الوصول إلى تحرير كامل أرض فلسطين. غير أن

عدم وجود منهج ثابت مبني على مبادئ محددة لا يمكن تجاوزها حتى ولو بحجة

المصلحة، يقدم رؤية سليمة لطبيعة الصراع ضد المشروع الصهيوني، ويستطيع

استنهاض طاقات الأمة وتجنيدها في المعركة؛ قد أدى غياب هذا المنهج إلى

ضبابية الرؤية، والنزوع للاستجابة الدائمة للضغوط و (متطلبات المرحلة) والسعي

للبقاء في الساحة ودائرة الضوء مهما كانت التنازلات.

وقد أثر هذا بشكل كبير على الأهداف التي جرى تقزيمها مع مرور الأيام،

فمن تحرير فلسطين وإخراج الغاصبين، إلى القبول بالدولة الديمقراطية التي تشمل

الجميع بمن فيهم كل اليهود الغاصبين، إلى إقامة الدولة على أي جزء يتم تحريره،

إلى إقامة الدولة على أي جزء ينسحب منه العدو، إلى الاعتراف بالقرار الظالم

(242) الذي يتعامل مع قضية فلسطين باعتبارها مشكلة لاجئين، إلى التفاوض

على الضفة الغربية وقطاع غزة فقط (22%) من فلسطين إلى الوصول إلى إقامة

حكم ذاتي ضعيف يفتقد شروط السيادة على أجزاء ضئيلة من الضفة والقطاع.

لقد كان المنهج الذي تم تبنيه بعيداً عن عقيدة الأمة وتراثها الحضاري؛ حيث

جرى استبعاد المنهج الإسلامي الذي يملك استنهاض طاقات الأمة وتعبئتها، ويعد

الجهاد لتحرير فلسطين عبادة وتقرباً إلى الله، ولا مجال فيه للتنازل عن حقوق

المسلمين في الأرض المباركة مهما طال الزمن وكثرت التضحيات، وهو المنهج

الذي جُرّب تاريخياً فكان فتح فلسطين على يد عمر بن الخطاب، وكان استردادها

على يد صلاح الدين في حروبه مع الصليبيين، وعلى يد قطز في حروبه مع التتار، وكلهم كان لهم الإسلام هادياً ومناراً، وإذا كان المسلمون يؤمنون بأن النصر من

عند الله سبحانه فإن الأوْلى بهم السير على منهجه لينالوا مدده وتوفيقه.

ثانياً: إشكالية القيادة:

من المؤسف أن القيادة السياسية الفلسطينية خلال الثلاثين سنة الماضية افتقدت

التجانس، وعانت من تباين أهداف الأطراف المشاركة في قيادة (م. ت. ف) ،

وسعت بعض القيادات إلى مراعاة مصالح أطراف عربية معينة تتلقى منها الدعم

على حساب أولويات العمل للقضية، كما راعت قيادات أخرى رؤية مصالح روسيا

(الاتحاد السوفييتي سابقاً) باعتبارها طرفاً اشتراكياً ماركسياً.

ولم تحترم القيادة العمل المؤسسي، وتمكن الرجل الأول من جمع كل

الصلاحيات الممكنة بيده، وأمسك تماماً بعصب القرار السياسي وبعصب الإنفاق

المالي، وبعصب الأجهزة الأمنية والعسكرية. وأصبح العديد من القضايا الحساسة

المهمة تخضع لمبادرة وقرار (الزعيم) وهذا أعطى فرصة كبيرة لنمو الخلالات [*]

والمحسوبيات، وأسهم في تفكك البناء الداخلي للثورة الفلسطينية بقيادة (م. ت. ف) وإضعاف أجهزتها، وخروج وتحييد الكثير من الكفاءات والطاقات، وقد كشفت

تحقيقات عديدة عن فساد إداري ومالي كبير، كان أبرزها مؤخراً ما كُشف عن

تورط العديد من قيادات سلطة الحكم الذاتي في الضفة والقطاع في ذلك [1] .

ويمكن ضرب مثال على المبادرات الفردية بمفاوضات أوسلو السرية التي لم

تكن معظم القيادة الفلسطينية تعلم عنها شيئاً، كما لم يكن يعلم عنها الوفد الفلسطيني

الرسمي المفاوض الذي تشكل إثر مؤتمر مدريد سنة 1991م.

كما لم تنجح القيادة الفلسطينية في التفاهم والتعاون مع التيار الإسلامي

المتنامي في المنطقة، وسعت إلى تحييده وعزله فضلاً عن محاولات ضربه

وتصفيته.

وهكذا، فإن القيادة خسرت مع مرور الزمن الكثير من قواعدها وجماهيرها،

وأصبحت أضعف قدرة في مجالات التعبئة والتأثير، وصار الارتباط بالمنصب

ودوائر الأضواء أهم لدى البعض من استمرار التضحية والكفاح.

ثالثا: إشكالية المؤسسات:

يوفر العمل المؤسسي المبرمج إمكانيات أفضل لاستغلال الطاقات، وتوفير

الجهود وترسيخ العمل واستمراره دون الارتباط بالأشخاص، كما توفر المؤسسات

السياسية البرلمانية إمكانات أفضل للمراقبة والمحاسبة وضبط المسيرة.

غير أن ما حدث في العمل الفلسطيني خلال الفترة الماضية يثير الحزن، فمنذ

الستينيات تشكلت مؤسسات مهمة مثل المجلس الوطني الفلسطيني، والصندوق

القومي، ومركز الأبحاث، ومؤسسات رعاية أسر الشهداء، ودائرة التخطيط،

وغيرها؛ غير أن هذه المؤسسات لم تتمكن من تنمية دورها؛ بل على العكس فإن

الخط البياني لأنشطتها وتأثيرها شهد هبوطاً كبيراً خصوصاً خلال العشرين سنة

الماضية.

وقد أُفرغ المجلس الوطني الفلسطيني من محتواه بتجاوز الكثير من قراراته،

وعدم دعوته للانعقاد إلا في فترات متباعدة، وبإدخال عناصر كثيرة بقرارات القيادة

السياسية بحيث مالت الكفة إلى الاتجاهات التي تريدها القيادة، فضلاً عن أن هذا

المجلس هو مجلس غير منتخب، وبالإضافة إلى ذلك لم يشارك الإسلاميون في هذا

المجلس، وهم يمثلون بالتأكيد قطاعاً عريضاً من الشعب، ومع تجمع الصلاحيات

في يد الرئيس فقد تم تهميش أدوار الصندوق القومي والتخطيط وغيرها.

إن إضعاف العمل المؤسسي أسهم كثيراً في حصر دائرة العمل الفلسطيني في

يد حفنة من الناس جعلوا لأنفسهم حق تقرير مصير قضية هي أخطر قضية تواجه

العالم الإسلامي في الواقع المعاصر.

رابعاً: إشكالية تضييق دوائر الصراع:

إن طبيعة التحدي المتمثلة في المشروع الصهيوني المدعوم عالمياً تقتضي

مواجهة تستجيب لمستوى التحدي وتتمكن من تجنيد كافة القوى الممكنة، وإذا كان

المشروع الصهيوني لا يستهدف الفلسطينيين وحدهم، وإنما إضعاف وتمزيق العالم

الإسلامي، فإن البديل المقابل هو تعبئة كافة طاقات العالم الإسلامي لمواجهة التحدي.

لقد جرى مع الزمن تقزيم قضية فلسطين وتضييق دائرة الصراع مع العدو،

فبعد أن كانت قضية تعني كل المسلمين أي أكثر من ألف ومائة مليون تم حصرها

في الدائرة القومية العربية في خمسينيات وستينيات هذا القرن؛ بحيث أصبحت

تعني 260 مليون عربي (حسب عددهم الآن) ، ثم تم حصرها أكثر فأكثر لتصبح

قضية للفلسطينيين وحدهم؛ أي حوالي سبعة أو ثمانية ملايين فقط، وكانت الحجة

أن (أهل مكة أدرى بشعابها) وأن للفلسطينيين أن يقرروا في شؤونهم ما أرادوا!

غير أن هذا الطرح الذي حمل ظاهراً بريئاً لدى البعض أراد أن يغسل من يده

مسؤولية العرب تجاه قضيتهم الأولى، وإلقاء العبء على الضحايا الحاليين

للمشروع الصهيوني، دون توفير أدنى الشروط اللازمة للنجاح.

إن أرض فلسطين أرض إسلامية وهي أرض مقدسة ومباركة بنص القرآن

الكريم، وإليها أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيها قبلة المسلمين

الأولى (المسجد الأقصى) وهي الآن أرض محتلة مغتصبة، وحكمها في الإسلام:

أن كافة المسلمين مطالبون بالجهاد للدفاع عنها، ومسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى

عن القيام بواجب تحريرها.

إن تضييق دائرة الصراع واكتفاء الآخرين بالتمنيات والدعاء لا يمكن أن يحل

القضية، وسيبقى الخطر جاثماً متصاعداً ما لم يتم رد هذه القضية إلى الدائرة

الإسلامية الأوسع.

خامساً: إشكالية الدور العربي والإسلامي:

كما أشرنا سابقاً فإن الخط البياني للأنظمة العربية وخصوصاً دول المواجهة

كان يسير باتجاه التسوية وليس باتجاه (التحرير) ، وأن الأنظمة سعت بشكل أساسي

لضمان أمنها وبقائها وعدم تعريضها لمخاطر الانتقام الصهيوني، كما سمحت

بالعمل الفدائي للحركة لأسباب تكتيكية مرحلية. ولم تتبن هذه الأنظمة أية

استراتيجيات ومناهج جادة دؤوبة للتعبئة الشعبية وتجهيز الجيوش، وتبني اقتصاد

الحرب، بل أغلقت حدودها معظم الفترة الماضية منعاً لأي عمل فدائي جهادي

محتمل.

وقد انتهت حرب 1948م التي شاركت فيها الجيوش العربية بكارثة ضياع

معظم فلسطين، كما انتهت حرب 1967م بكارثة ضياع ما تبقى من فلسطين، أما

حرب 1973م فقد فتحت المجال للتحرك نحو التسوية خصوصاً مع مصر، وليس

باتجاه التحرير.

وهكذا فمنذ حوالي 25 عاماً لم تشكل الأنظمة العربية أي مخاطر محتملة على

الكيان الصهيوني. بل تركت (م. ت. ف.) تواجه وحدها الاجتياح (الإسرائيلي)

على لبنان سنة 1982م مما أدى إلى تدمير معظم البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية

هناك.

ولقد أخفقت معظم مساعي الوحدة السياسية بين البلاد العربية، كما أخفقت

الجامعة العربية في تحقيق أهدافها، وأصبح الهم القُطري المحلي يتجاوز الهموم

الأخرى، وأخذت قضية فلسطين تتهمش في واقع الاهتمام الرسمي العربي. كما

فتحت الخلافات العربية العربية الباب واسعاً لإضعاف الجبهة العربية ودورها في

محاربة الصهيونية، ومن ذلك: النزاع حول الصحراء الغربية في المغرب العربي، واحتلال العراق للكويت، والحرب اليمنية، والنزاعات المزمنة بين سوريا

والعراق، وبين مصر والسودان.. وغيرها.

وإذا كان قد تم تهميش الدور العربي، فمن باب أوْلى أنه قد سبقه تهميش

الدور الإسلامي منذ مراحل مبكرة؛ حيث أصبح العالم الإسلامي في موقع المتفرج

الذي فقد فاعليته لأداء أي دور إيجابي حقيقي في قضية فلسطين؛ فالأنظمة في

العالم الإسلامي لا تختلف كثيراً عن الأنظمة العربية؛ إذ إن معظمها يلتزم

التوجهات العلمانية، ومشغول بهمومه المحلية، ومشاكله الاقتصادية.

وقد كان إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1969م إثر حادثة إحراق

المسجد الأقصى بادرة أمل بتوحيد جهود المسلمين لدعم قضية فلسطين وقضايا

المسلمين، وقد قامت هذه المنظمة بعقد الكثير من الاجتماعات، وأصدرت عشرات

القرارات بدعم قضية فلسطين سياسياً ومالياً وعسكرياً وإعلان الجهاد، وغير ذلك،

غير أن كل قراراتها بقيت حبراً على ورق؛ لأنها تفتقر إلى أي آلية حقيقية ملزمة

لتنفيذ القرارات [2] . بل إن بعض البلاد الإسلامية بقي على علاقة قوية

(بإسرائيل) مثل تركيا. كما أن النزاعات بين المسلمين أنفسهم أثرت سلباً على دور

العالم الإسلامي؛ ومثال ذلك الحرب العراقية الإيرانية التي استنزفت طاقات

وثروات البلدين خلال ثماني سنوات من الحرب 1980م 1988م.

وفوق ذلك كله فإن كثيراً من الأنظمة العربية والإسلامية تفتقر إلى الاستقرار

السياسي، وتعاني من أزمات داخلية، ويعاني الكثير من شعوبها من قمع للحريات

وكبح للطاقات، كما تعاني التيارات الإسلامية في كثير من هذه البلدان من المنع

والملاحقة.

وهكذا، ففي مثل هذه الأوضاع، من الصعب أن تقوم الدول العربية

والإسلامية بدورها المأمول.

سادساً: إشكالية التحدي الصهيوني:

يمثل التحدي الصهيوني حالة فريدة وسط التحديات التي تواجه العالم الإسلامي، فقد وجد هذا المشروع أساساً في قلب العالم الإسلامي، وفي المنطقة التي تفصل

شطره الآسيوي عن شطره الإفريقي؛ بحيث تبقيه ممزقاً ضعيفاً، وتمنع أي وحدة

محتملة له أو ظهور أي قوى إسلامية كبرى في المنطقة بعد سقوط الخلافة العثمانية. لقد كان هذا المعنى واضحاً في توصيات مؤتمر لندن 1905 1907م التي رُفعت

إلى رئيس الوزراء آنذاك (كاميل بنزمان) ، وكان قد ناقش سيلاً من تحقيق المصالح

الغربية والهيمنة على المنطقة الإسلامية. ومما جاء في توصياته أن إقامة حاجز

بشري قوي وغريب في المنطقة شرقي البحر المتوسط وعلى مقربة من قناة

السويس، قوة عدوة لشعوب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية، هو التنفيذ العملي

العاجل للوسائل والسبل المقترحة [3] .

إن طبيعة المشروع الصهيوني لا تستهدف استعماراً (كلاسيكياً) للمنطقة،

وإنما الاستيلاء على الأرض المباركة وفق ادعاءات دينية وتاريخية، وطرد السكان

الأصليين وإحلال اليهود مكانهم، ثم التوسع والتمدد في المنطقة.

غير أن هذا المشروع يكتسب خطورة خاصة عند إدراك دعم وتحالف القوى

الكبرى معه، والتي لا يعنيها الفلسطينيون بشكل خاص، وإنما إبقاء المنطقة

الإسلامية كلها في دائرة الضعف والتبعية. وبذلك، تصبح (إسرائيل) شرطي

المنطقة والعصا التي يتم (تأديب) الآخرين بها.

لكن الكيان الصهيوني لم يعد مجرد (أداة) بيد الآخرين (كما أنه لم يكن

بالضبط كذلك في الفترة الماضية) إذ إن دوائر التأثير والمصلحة هي دوائر متبادلة

بين الطرفين. كما مكّن الكيان الصهيوني لنفسه عبر وجود (لوبيات) قوية له في

أمريكا وأوربا تؤثر في صنع القرار السياسي هناك، فضلاً عن قوتها الاقتصادية

والإعلامية. وقد نجح الكيان الصهيوني في تكوين جيش حديث مسلح بكافة الأسلحة، حتى النووية منها والكيماوية والجرثومية؛ بحيث يمكنه نظرياً هزيمة جميع

الجيوش العربية مجتمعة.

إن قصف الطيران الصهيوني للمفاعل النووي العراقي وتدميره سنة 1981م، وتدريب ومساعدة الانفصاليين في جنوب السودان على الثورة، ومشاريع

السيطرة على منابع النيل في هضبة الحبشة، ومحاولة تدمير المفاعل النووي

الباكستاني، كل ذلك يشير إلى حقيقة الدور (الإسرائيلي) في المنطقة وخطورته

على العالم الإسلامي.

إن الكثير من المسلمين لم يفهموا طبيعة هذا التحدي، ولم يدركوا مخاطره،

ولم يقوموا بأعمال مكافئة لمواجهته، وستبقى أعمال المسلمين هامشية محدودة ما لم

يرتفعوا إلى مستوى الصراع.

سابعاً: إشكالية الأداء الدولي المتحيز:

رغم كل ما تشير إليه المواثيق الدولية من حقوق الإنسان وحقوق تقرير

المصير للشعوب، ورغم ما تدعيه الدول الكبرى من حماية للحقوق والديمقراطيات

إلخ، إلا أنها أسهمت بنفسها في تكريس الظلم في الأرض المقدسة، فتولت بريطانيا

التي استعمرت فلسطين (1917 1948م) رعاية إنشاء الكيان الصهيوني حتى

أقيمت (إسرائيل) رسمياً في مايو 1948م، وتبنت القوى الكبرى بما فيها الاتحاد

السوفييتي مشروع تقسيم فلسطين في نوفمبر 1947م، وأصبحت الولايات المتحدة

الحليف الاستراتيجي الأول للكيان الصهيوني بعد ذلك، وحتى الآن ما تزال توفر له

الدعم المالي والعسكري والسياسي والغطاء الدولي لكل ظلم وعدوان يمارسه في

فلسطين وغيرها، وتسارع إلى استخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار لا يصب

في مصلحة الكيان الصهيوني. ولم يمارس المجتمع الدولي أي ضغوط حقيقية

لإجبار الكيان الصهيوني على الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة

الجولان وجنوب لبنان رغم أنه من الناحية القانونية الدولية احتلال لأراضي البلاد

المجاورة بالقوة، وهو عمل غير مشروع وفق الأنظمة الدولية وأنظمة الأمم المتحدة؛ بينما سارعت الولايات المتحدة وحلفاؤها سنة 1990م 1991م لإجبار العراق

على الانسحاب من الكويت حماية لمصالحها في المنطقة.

وهكذا فإن فهم الإشكاليات السابقة يعين في فهم خلفية النتائج والأحوال التي

وصلت إليها قضية فلسطين في واقعنا المعاصر وهي نتائج مؤلمة ومؤسفة.

وأخيراً:

إن دراسة تجربة المقاومة خلال الخمسين عاماً تشير إلى بقاء جذوة المقاومة

في نفوس المسلمين وعدم الرضا بالظلم والاستسلام، وإن دراسة عوامل الضعف

والقصور ووضع اليد على الجروح يفيد في معرفة الطريق الأفضل للمقاومة

وتحرير الأرض المباركة.

وإن ظهور التيار الإسلامي بقوة في فلسطين وفي العالم الإسلامي يعطي بشائر

مبكرة باتجاه إحداث تحولات إيجابية في سلوك الطريق الصحيح لاسترجاع أرض

الإسراء والمعراج.. أرض فلسطين، وما ذلك على الله بعزيز.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015