المسلمون والعالم
غروب الحضارة الأمريكية
القرن الحادي والعشرون قرن الانحطاط الأمريكي
كمال حبيب
عندما كتب (توينبي) في الخمسينيات كتابه الضخم المعنون بـ (دراسة
التاريخ) اعتبر أن تأثير أمريكا في الحضارة الغربية يعتمد على أن القرن العشرين
هو (القرن الأمريكي) أو قرن الرجل العادي، أي: إن البسطاء من الناس
سيحصلون فيه على حقوقهم [1] .
وفي الواقع فإن أمريكا مع نهاية الحرب العالمية الثانية وفي منتصف القرن
العشرين أصبحت قوة عالمية تتمتع بثروة وازدهار لم تعرفهما أي دولة أخرى، كما
وصلت إلى أعلى مراتب القوة، ووسعت من مصالحها وتأثيرها إلى ما هو أبعد
كثيراً من حدودها، وارتبط صعود أمريكا باعتبارها قوة عالمية مهيمنة بإعادة هيكلة
توزيع القوة في العالم لصالحها، حيث سيطرت على (اليابان) القوة الآسيوية
الكبرى، وسيطرت على (ألمانيا) أقوى دولة أوروبية، وكان الاتحاد السوفييتي
(المنهار لاحقاً) لا يزال في مرحلة بناء قوته الاقتصادية، وكانت الدول المستعمَرة
في العالم في مرحلة (فراغ القوة) ؛ أي إن الصعود والهيمنة الأمريكية ارتبطت
بضعف القوى العالمية الأخرى لصالحها، لكن الأمر لم يكن مرتبطاً بانحطاط القوى
العالمية الأخرى وحسب، وإنما كان مرتبطاً أيضاً بتوافر عناصر القوة الأمريكية
الداخلية، فأمريكا في عام 1949م كانت الدولة الأولى في متوسط دخل الفرد،
وكان الفرد الأمريكي هو الأعلى حيازة في العالم للسيارات والتليفونات، واستهلاكاً
للكهرباء، والأكثر نصيباً في الرعاية الصحية، كما كان الأمريكيون يشترون
6أضعاف ما يشتريه غير الأمريكيين من ملابس وأحذية، ويستخدمون 70% من السيارات، و35% من الطرق، و70% من الطائرات المدنية في العالم [2] ،
وتسارع النمو الاقتصادي الأمريكي 40 ضعفاًَ خلال الفترة من 1870م 1950م،
وتزايد عدد السكان من 40 مليوناً إلى 150 مليون، وبعد الحرب العالمية الثانية
أصبحت أمريكا تنتج 50% من مجمل الإنتاج العالمي للسلع والخدمات، وزاد
احتياطي رأس المال لديها من 45 مليار، إلى 895 مليار، واستطاعت أمريكا
تحقيق معجزة اقتصادية خلال الحرب فضاعفت الناتج المحلي الإجمالي لها من
100 مليار سنة 1940م إلى 200 مليار دولار عام 1945م، وحققت أمريكا تفوقاً
لا يضاهى في الإنتاج الصناعي، كما احتكرت تقنية القنبلة النووية [3] . وبدأت
أمريكا بصعودها تعبيراً عما يطلق عليه علماء الحضارات: (التداول الحضاري)
أي إن صعودها ارتبط بانهيار قوى أخرى دولية لصالحها؛ باعتبار أنه لا يوجد
دوام لسيطرة قوة دولية بشكل كامل على العالم، واعتبر أن ذلك أحد الثوابت
والسنن الاجتماعية (صعود وسقوط الحضارات) ، ولم تكن القوة الأمريكية تستند
فقط إلى القوة العسكرية والاقتصادية، وإنما استندت كذلك إلى نموذج حضاري بدا
مثيراً للنظر؛ فعلى سبيل المثال كتب (دانييل بورستاين) : (أن أمريكا لديها شيء
تعلّمه لكل الرجال ليس من خلال التوقع وإنما من خلال نموذج معاش تمثله فكرة
(التراضي العام الأمريكي) [4] .
الانحطاط الأمريكي:
من منظور حضاري فإنه مع صعود قوة عالمية مهيمنة وحاكمة، فإن هذا
الصعود قد يحمل معه بذرة ضعفه التي لا تظهر للعيان؛ لأن القوة تخفي هذا
الضعف الكامن، وهذا هو ما حدث لأمريكا، وفي الواقع فإنه منذ العام 1971م
كانت هناك تصريحات لمسؤولين أمريكيين تؤكد الضعف الكامن في بنية الهيمنة
الأمريكية، وعلى سبيل المثال: فإن نيكسون قال عام 1971م في خطاب له من
البيت الأبيض: (هناك مشاكل خطيرة تواجه قوة الأمة الأمريكية، هي: البطالة،
وانخفاض إنتاج بعض الصناعات، وتصاعد التضخم، وتراجع الدولار، والعجز
الخطير في ميزان المدفوعات) ، ونشرت النيويورك تايمز على صفحتها الأولى
مقالاً بقلم ماكس فرانك جاء فيه: (الولايات المتحدة قد لا تصبح الدولة المسيطرة في
علاقات القوة عالمياً وإن القوة الأمريكية في انحطاط) ، ونشرت مجلة (لايف) عام
1971م أن النظام العالمي لم يعد به مركز وحيد للقوة، وأن أمريكا أصبحت تواجه
نقص الموارد وانحدار السمعة وضعف الدولار، لقد بدأ انحطاط أمريكا بوصفها قوة
عالمية من أبعد نقطة في نظام الأحلاف الأمريكي، من فييتنام [5] .
الواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت أن تحقق نصراً مطلقاً على
خصومها في معاركها التاريخية الكبرى حتى الحرب العالمية الثانية؛ لكنها منذ
حرب فييتنام لم تستطع أن تحقق نصراً مطلقاً بلا قيد ولا شرط لأول مرة في
تاريخها، وحتى ما أطلق عليه نيكسون: (نصر بلا حرب) أي هزيمة الاتحاد
السوفييتي عبر إرهاقه اقتصادياً من خلال سباق التسلح فإنه لم يكن نصراً مطلقاً،
وكما قال ديجول: (تريد الولايات المتحدة أن تصل بالاتحاد السوفييتي إلى الخراب
والإفلاس عن طريق سباق لا نهاية له في التسلح، وقد تنجح في تحقيق ما تريد
لكنها ترهق نفسها بأكثر مما تستطيع احتماله، وقد تصل هي الأخرى إلى حالة
الإفلاس) [6] . وحاولت أمريكا تجديد ثقافتها الاستراتيجية بصناعة نصر مطلق في
حرب الخليج الثانية على العراق؛ لكن ذلك الانتصار لم يغيّر من واقع سقوط
الإمبراطورية الأمريكية في الداخل، وكتب بول كيندي في الإكسبريس الفرنسية:
(الدولة التي تحتاج إلى مليارات الدولارات من دول أخرى لتمويل الحرب ضد دولة
نامية لا تملك القدرة على فرض نظامها على الكرة الأرضية) [7] .
وكما هو معلوم فإن السقوط المفاجئ للاتحاد السوفييتي ولمنظومة الدول
الشيوعية المرتبطة به في أوروبا الشرقية قاد إلى الحديث عن (نهاية التاريخ) هذه
الصيحة التفاؤلية الممزوجة بسكرة الفرحة بالسقوط غير المتوقع للقوة العالمية الثانية
المناوئة لأمريكا. لكن هذه الصيحة التي أطلقها (فرانسيس فوكوياما) ثبت خطؤها؛
إذ إن التاريخ لا ينتهي بهذه الصورة التي تخيلها، ولا يمكن لقوة واحدة أن تتحكم
وحدها في صناعته.
وبدأت الكتابات الواقعية عن السقوط الأمريكي، وعلى سبيل المثال فإن (بول
كيندي) كتب كتابه الأشهر: (قيام وسقوط القوى العظمى) وفيه حاول الربط بين
القوة الاقتصادية والقوة العسكرية؛ إذ تحدث عن أهمية القوة الاقتصادية للقوة
العسكرية، بيد أن القوة العسكرية إذا اتسعت بشكل يفوق القدرة الاقتصادية على
مساندتها فإن ذلك يشي بتدهور نسبي لقوة الدولة، كما أن قوة الدولة تعتمد أساساً
على ما إذا كان جيرانها يمتلكون أكثر أو أقل مما تملك) ، ومن ثم فإن قوة الدولة
ترتبط صعوداً وهبوطاً بقدر قوة الدول الأخرى التي تشاركها النظام الدولي، وكان
(بول كيندي) يقصد أن أمريكا تواجه فجوة كبيرة بين قوتها الاقتصادية وقدرتها
العسكرية وحجم امتدادها وتوسعها في العالم. كما أن أمريكا تواجه قوى أخرى
تمتلك اقتصاداً متعاظماً بما يمثل خصماً للمكانة النسبية لأمريكا [8] .
كما ظهر كتاب هاري فيجي وجيرالد سوانسون بعنوان: (سقوط أمريكا قادم
عام 1995 فمن يوقفه؟) ، وظهر كتاب (رونالد هوايت) : (القرن الأمريكي،
صعود وهبوط الولايات المتحدة كقوة عالمية) ، وظهر كتاب روجيه جارودي:
(الولايات المتحدة طليعة الانهيار) ، وظهر كتاب بريجنسكي (خارج نطاق السيطرة)
أو (الانفلات) ، وصدرت في الولايات المتحدة مئات الكتب التي تنعيها مجتمعاً
ودولة وتجربة متحدثة عن الأمراض التي تفتك بها، مثل: العنف، وتفشي
الإباحية، والمخدرات، والخواء الروحي، والفردية المفرطة، والتطرف الأعمى،
وضحالة الثقافة، والعنصرية الطاغية، والديون الخارجية الأسطورية، وسقوط
ثلث السود وسدس البيض تحت خط الفقر، والرعب من اقتراب السود وذوي
الأصل الأسباني والآسيوي من تشكيل نصف عدد السكان ... وقائمة طويلة من
الوقائع والأمراض والأزمات المستعصية التي تتراكم تفاعلاتها لتسرع بالانهيار
الشامل [9] .
مظاهر الانحطاط الأمريكي:
هناك مؤشرات متعددة على الانحطاط الأمريكي، نشير إلى بعضها:
العنف:
في شهر مارس الماضي استيقط المجتمع الأمريكي على جريمة بشعة راح
ضحيتها أربعة من التلاميذ ومُدَرّسة، وجرح أربعة عشر تلميذاً آخرون ومدرّسة،
وكان بعضهم في حالة خطرة، نفذ الجريمة طالبان في مدرسة (ويست سايد)
المتوسطة في بلدة (جونسبورو) بولاية (أركنساو) التي كان الرئيس الأمريكي حاكماً
لها، وكان عمر أحد التلميذين أحد عشر عاماً والآخر ثلاثة عشر عاماً، وقد نفذا
جريمتهما بعد تخطيط وتصميم وتهديد مسبق لزملائهما، واستخدم التلميذان في
جريمتهما أسلحة رشاشة وأسلحة أخرى بلغ عددها تسع قطع، وكانا يرتديان ثياباً
أعدوها للتمويه ومن ثم: قرعا جرس الطوارئ في المدرسة، فهرع الطلاب
والمدرسون إلى الخارج حيث كان التلميذان يختبئان في ساحة قريبة وأطلقا النار
عشوائياً على التلاميذ والمدرسين، ثم استسلما بعد خمس دقائق، وقال (كلينتون)
إنها الجريمة الثالثة التي يقوم بها تلاميذ صغار خلال الأشهر القليلة الماضية.
وجاءت الجريمة بعد أسبوع من نشر البيت الأبيض لدراسة قالت: (إن مدرسة من
بين كل عشرة مدارس أمريكية شهدت أعمال عنف خطيرة العام الماضي) [10] .
وفتحت هذه الحادثة المروعة ملف العنف في أمريكا؛ حيث قدم مشروع قانون
لمجلس الشيوخ والكونجرس يطلق عليه: (قانون أمريكا بعد الدوام المدرسي) ،
وهذا القانون يشير إلى أن هناك حوالي خمسة ملايين تلميذ نسبة كبيرة منهم في سن
الثامنة والتاسعة يقضون معظم أوقاتهم بعد الدوام المدرسي وحدهم، وهم بحاجة إلى
المساعدة لإبعادهم عن مصادر المشاكل وإشغالهم بما هو مفيد، وذكرت دراسة
البيت الأبيض السابقة (أن الوقت الطويل الذي يقضيه التلاميذ في مشاهدة التلفزيون
وما يقدمه من أفلام ومسلسلات عنف يلعب دوراً رئيساً في انتشار العنف بينهم
خصوصاً الصغار منهم) [11] .
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد قطع الأسلحة المنتشرة بين أيدي
الأمريكيين تبلغ حوالي 200 مليون قطعة بين مسدس وبندقية، أي بمعدل قطعة
سلاح لكل أمريكي رجل أو امرأة باستثناء الأطفال، وفي عام 1996 استخدم
السلاح في ارتكاب 9390 جريمة قتل في أمريكا بينما لم تُرتكب سوى 30 جريمة
مسلحة في بريطانيا، و15 جريمة مسلحة في اليابان، وتزيد نسبة ارتكاب الجريمة
بين الأطفال دون سن الخامسة عشرة أكثر 16 مرة في أمريكا عما هي عليه في 25
دولة صناعية مجتمعة، وكل عام تشهد أمريكا 135 ألف جريمة قتل أو انتحار أو
حادث مسلح [12] . وتجارة السلاح مباحة في الولايات المتحدة باعتبارها تعبيراً
عن الحرية وحق الإنسان في الدفاع عن نفسه؛ لكن الحقيقة هي أن لوبي صناعة
السلاح هو الذي يقف وراء فلسفة الترويج لحق الإنسان في امتلاك السلاح للدفاع
عن نفسه وأمنه. وفي الواقع فإن انتشار الأسلحة وتفجر العنف داخل الولايات
المتحدة الأمريكية هو جزء من ثقافة العنف التي قامت على أساسها الحضارة الغربية
وارتبطت بسحق الآخر وقتله، بيد أن تغلغل العنف في عصب النفسية الأمريكية
يجعله لا يستخدمه ضد الآخر فقط، وإنما يستخدمه ضد مواطن مجتمعه أيضاً، إنها
شهوة ممارسة العنف النابعة من الثقافة الغربية اليهودية الصليبية التي يعد العنف
أحد أبرز تجلياتها.
التطرف:
أحد التحديات التي تواجه الأمن القومي الأمريكي احتمال تصنيع المتطرفين
الأمريكان لأسلحة (بيولوجية) يستخدمونها ضد المراكز الحيوية والاستراتيجية في
أمريكا، وكان المجتمع الأمريكي يظن أن التطرف يأتي من العالم العربي
والإسلامي فقط، لكنه عاين في 15/4/1995حادثة ضخمة قام بها شاب أمريكي
راح ضحيتها 159 شخصاً، هذه الحادثة هي نسف المبنى التجاري في (أوكلاهوما) . وفي الواقع فإن بعض الكتاب الأمريكان بدؤوا الكتابة عن خطر التطرف الأمريكي
على المجتمع خاصة فيما يتصل بقدرته على استخدام الهندسة الوراثية في تصنيع
الأسلحة البيولوجية، واجتمع (كلينتون) فعلاً مع مجموعة من المتخصصين في
الهندسة الوراثية وناقش معهم ومع كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية التحديات
التي تواجه الأمن القومي الأمريكي إذا استطاعت العناصر المتطرفة الأمريكية صنع
أسلحة جرثومية. وفي تقرير لمركز (قانون الفقر) ذكر أن مؤامرات المتطرفين
اليمينيين الرامية إلى إخراج قطارات عن القضبان واغتيال شخصيات عامة ونسف
جسور زادت زيادة حادة في أمريكا في السنوات الثلاث الماضية، وأورد تفاصيل
24 مؤامرة رصدها منذ حادث (أوكلاهوما) واستهدفت هذه المؤامرات نسف مبانٍ
حكومية وجسور ومكاتب صحف ومصارف.
وهناك مجموعات دينية أمريكية تؤمن بحلول نهاية العالم عام 2000م وأنها قد
تستخدم الأسلحة البيولوجية لتحقيق ذلك [13] ، وهناك منظمات متطرفة في أمريكا
تستخدم السلاح لوقف ما تراه علمنة للمجتمع الأمريكي، وهذه المنظمات تقاوم
الإجهاض كما تقاوم إباحة الشذوذ والمثلية الجنسية، وهناك منظمة أعلنت عن نفسها
تسمى: (جيش الله) نفذت فعلاً عدة حوادث في مدينة (أتلانتا) (أبرزها الانفجار
الذي حدث في أتلانتا عام 1996م في الألعاب الأولمبية، وهذه المنظمة تطرح فكرة
المقاومة بدون قيادة، أي: تطرح فكرة اللامركزية في التصدي لما يرونه معارضاً
لأفكارهم ولو بالقوة، وينتمي منفذ حادث أوكلاهوما إلى جيش الله الذي يرى أن
هناك مؤامرة على أمريكا تقودها السلطة الفيدرالية والنظام العالمي الجديد، وأنه ما
لم يتم الإنقاذ الروحي والجسدي لأمريكا فإنها إلى زوال [14] .
صراع الأعراق:
نشأت الولايات المتحدة أمةً متعددة الأعراق ولكنها استندت أساساً في بنائها
الاجتماعي إلى ما يعرف باسم الـ.... أي: البيض الأنجلوساكسون البروتستانت
وهذه القاعدة الاجتماعية هي المسيطرة والمتحكمة، لكنه حدث تبدل في الخريطة
الاجتماعية والعرقية في أمريكا يؤكد نشوب نزاعات عرقية بين عناصر المجتمع
الأمريكي؛ فبحلول عام 2050م ستنخفض نسبة الـ.... من 5، 72% إلى ما
بين 49% 53%، فالسكان ذوو الأصول الإسبانية والآسيوية يتزايدون بسرعة قد
تصل بهم ليصبحوا حوالي 35%من السكان عام 2010م؛ بينما ستبقى نسبة السود
في حدودها الحالية وهي حوالي 12% 15% [15] . وهذا التبدل في الخريطة
العرقية يفتح الباب على مصراعيه لنشوب نزاع قومي وعرقي قد يؤدي إلى تفكيك
أمريكا. ولدينا ولاية (بورتوريكو (وهي الولاية الواحدة والخمسون في الاتحاد
الأمريكي تسعى الآن للانفصال عن أمريكا [16] . وكانت أمريكا قد استولت عليها
من إسبانيا عام 1898م، ولا يزال سكانها يتكلمون الإسبانية ويقاومون محاولات
الإدماج الأمريكية بجعل الإنجليزية لغة رسمية، وبشكل عام: فإن ما أطلق عليه
في الستينيات بوتقة الصهر للدلالة به على نجاح إدماج الأقليات في النظام الأمريكي
ثبت إخفاقه اليوم؛ ويتصاعد الحديث عن تنامي نزوع الأقليات ليصل إلى تأكيد
الذات والاستقلال. وإذا واجهت الولايات المتحدة الأمريكية مشاكل حقيقية فيما
يتصل بالانهيار الاقتصادي فإن احتمال تصاعد تفككها سيكون كبيراً؛ لأن المشكلة
الاقتصادية تفجر بدورها مشاكل الأقليات وتعزز مطالبها بالاستقلال، وهناك كتاب
مهم لآرثر شليزينجر) بعنوان: (تفكيك أمريكا) يتحدث فيه عن مشاكل الأقليات
خاصة السود ونزوعهم نحو الاستقلال، وأن هذا سيؤدي إلى تفكيك أمريكا.
الانهيار الأخلاقي:
يبين كتاب بريجنسكي (الانفلات) Out of Control بوضوح أن الخطر
على أمريكا يتمثل في الأبعاد الأخلاقية والثقافية وانحدار مركزية المعايير الأخلاقية
مع مضاعفة الانهماك في الإشباع الذاتي المادي الحسي، ويستخدم تعبير: (استباحة
الإباحة) Premissive Corrucopia للتعبير عن وضع المجتمع الأمريكي الذي
تستبد به قيم الاستهلاك وإشباع الغرائز بشكل مجنون، وارتبط إشباع الغرائز
بغياب أي معايير أخلاقية؛ ولذا: انتشر الفساد والمخدرات وجرائم الشوارع،
ويذكر بريجنسكي أن انتصار الشعار القائل بأن الله قد مات سبحانه وتعالى عما
يقولون علواً كبيراً لم يحدث في الدول الشيوعية الإلحادية وإنما في المجتمعات
الغربية الديمقراطية الليبرالية التي عدت التساهل الأخلاقي تقدماً ثقافياً. وتحدث
بريجنسكي عن الفساد الأخلاقي والانحلال الثقافي الذي تقدمه وسائل الإعلام خاصة
التلفزيون، حيث تقضي ربة البيت الأمريكية ثماني وعشرين ساعة ونصف الساعة
أمام التلفزيون أسبوعياً، ويقضي الشباب المراهق عشرين ساعة أمام التلفزيون
أسبوعياً، ويقضي 20% من أطفال أمريكا خمساً وثلاثين ساعة أسبوعياً أمام
التلفزيون، وبرامج التلفزيون تدعو للإباحية وإشباع الشهوات الفردية والقسوة،
وجعل بريجنسكي مفهوم الأنانية وإشباع الرغبات الذاتية وتحقيق المتعة الفردية يهدد
أمريكا من الداخل [17] . وعلى سبيل المثال: فإن جرائم القتل تمثل العامل
الرئيس للوفاة في أمريكا؛ حيث يأتي ترتيبها متقدماً على مرض خطير كالسرطان،
وتواجه أمريكا ما يطلق عليه (أبارتيد اقتصادي) حيث يوجد طفل واحد من بين كل
8 أطفال لا يأكل ما يشبعه، وموت الأطفال في أحياء السود الفقيرة يجاوز المعدلات
التي تحدث في بلد مثل سيريلانكا وبنما وشيلي، كما أن المفاهيم التي يرفعها الغرب
عن حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية هي مفاهيم زائفة، وتكفي الإشارة إلى أن
الثروة هي التي تشتري الإعلام والسلاح، وهذا ما يفرض على بقية المواطنين
الذين لا يملكون وسائل السيطرة إكراهاً يسميه البعض (بالرق الحديث) . وإن تكلفة
مقاعد الكونجرس في أمريكا تصل إلى 500 مليون دولار. وتنتشر المخدرات بين
الشباب كما ينتشر الشذوذ والمثلية الجنسية. وفي الواقع فإن المبالغة في (استباحة
الإباحة) هي التي ستؤدي إلى تفكيك أمريكا؛ فهي أكثر خطراً من الصين أو غيرها
كما قال بريجنسكي.
الانهيار الاقتصادي:
في كتابهما: (سقوط أمريكا) يوضح المؤلفان أن أمريكا هي الدولة المدينة رقم
واحد في العالم؛ حيث لا يكفي دخلها القومي لتغطية نفقاتها، وحذر الكتاب من أن
الديون الأمريكية وفوائدها ستصل إلى درجة يعجز معها النظام عن السيطرة عليها
مع نهاية العقد الحالي.
وتنفق أمريكا على الديون وفوائدها أكثر مما تنفقه في قطاعات التعليم
والتطوير الحضاري والزراعة والعمل والعدل والمواصلات الداخلية مجتمعة،
وأشارت الدراسة إلى أن فوائد الديون الأمريكية بلغت 400 مليار دولار بينما بلغت
الديون 4 تريليون دولار عام 1992م، وتشير التقديرات إلى أن فوائد الديون
وصلت 517 مليار دولار عام 1994م، ومع قرب نهاية القرن العشرين فإن أمريكا
ستبدو كأنها دولة مفلسة، وبالطبع فإن الوضع الاقتصادي المنهار سيؤدي إلى
تراجع الهيمنة الأمريكية والعودة إلى أدراجها، وهناك تراجع في نسبة الإنتاج
الأمريكي بالنسبة إلى الإنتاج العالمي؛ فنسبة قوة أمريكا من الإنتاج العالمي كانت
50% بعد الحرب الثانية، وبحلول عام 1971م أصبحت تنتج ما يمثل 30%،
وأصبحت تستهلك أكثر مما تنتج مما جعلها تعتمد على البترول العربي، ومع بداية
السبعينيات واجهت أمريكا لأول مرة في تاريخها تدهور قدرتها التنافسية في العالم؛
إذ أصبحت وارداتها أكثر من صادراتها (45 مليار دولار للواردات مقابل 42 مليار
صادرات) ولم يعد الدولار قاعدة للتحويل إلى الذهب، ومنذ عام 1985م أصبحت
أمريكا مدينة لأول مرة [18] .
وأخيراً: فإن مظاهر الانحطاط الأمريكي تؤكد أن أمريكا كبقية
الإمبراطوريات إلى زوال، ولا شك أن انهيارها سيؤدي إلى تعديل جديد في
موازين القوى السياسية يكون لصالح المسلمين بإذن الله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ] [آل عمران: 140] فالسنة الحضارية تؤكد انحطاط قوى
الإمبراطوريات بعد صعودها، وأمريكا ليست استثناءً من ذلك.