مجله البيان (صفحة 2941)

تأملات دعوية

أيها المربّون: لكل مقام مقال

عبد الله المسلم

لقد كان رحيماً رفيقاً. يحدثنا عن رأفته ورحمته أحد الشباب من أصحابه؛

فعن مالك بن الحويرث قال: أتينا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن شببة

متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألَنا عمن تركْنا

بعدنا فأخبرناه، قال: (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر

أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة

فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) [1] .

لكن حين يتطلب الأمر الحزم فإن الحال يختلف؛ وقد كان -صلى الله عليه

وسلم- كذلك، ففي موقف آخر يأتيه شاب من أصحابه شاكياً له ما أصابه من

المشركين، وقد بلغ به الأذى والشدة كل مبلغ وهو خباب بن الأرت فها هو يروي

الموقف فيقول: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو محمر وجهه، فقال: (لقد

كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب، ما يصرفه

ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك

عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما

يخاف إلا الله) [2] .

وها هو في موقف آخر أيضاً مع أحد الشباب، فعن أسامة بن زيد بن حارثة

رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة من

جهينة، قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً

منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته

برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:

فقال لي: (يا أسامة! أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟) قال: قلت: يا رسول الله! إنما كان متعوّذاً، قال: (أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟) قال: فما زال يكررها

عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم [3] .

لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يضع لكل موقف ما يناسبه؛ ففي الموقف

الأول: شاب يأتي إليه من أصحابه، وهو في آخر أيامه -صلى الله عليه وسلم-

فإن غادره لن يلقاه أخرى حتى يموت، وهي فرصة للتعلم والاستزادة لن تتكرر في

حياته، لكنه لرحمته ورفقه -صلى الله عليه وسلم- لم يؤكد عليه البقاء والاحتساب

لطلب العلم بل لصحبته ومجالسته.

بل إن الأمر يتجاوز ذلك كله ليبادر هو، ويدرك ما في نفوسهم دون أن

يطلبوا هم منه ذلك، فيبادرهم آمراً إياهم أن ينصرفوا إلى أهلهم.

وفي الموقف الثاني: يأتيه شاب غض الشباب يشتكي إليه شدة الأهوال التي

لقيها من المشركين، فيحمر وجهه ويغيّر جلسته.

ولربما يتصور بعض الناس أنه كان من الأوْلى في الموقف الأول الحزم،

وتعويد الشاب على الجدية في طلب العلم، وتحمل الغربة وشدتها، والتعاطف في

الموقف الثاني مع هذا الذي تعرض للأذى وجاء يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-

الدعاء.

لكنه -صلى الله عليه وسلم- الحكيم والمربي، الذي يضع لكل مقام ما يناسبه. فما أجدر من يقتدي به من المربين أن يضع الحزم في موضعه، وأن يضع

التعاطف والرفق في موضعه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015