دراسات تربوية
أثر القرآن في تقوية الإحساس بالأخوة
د.أحمد بن شرشال
الاشتغال بفهم القرآن وتفسيره والتفقّه فيه يرقق إحساس المسلم ويقوي شعوره، وينمي فيه حب الآخرين؛ بحيث يتألم لآلامهم، ويفرح لفرحهم، ويسعد لسعادتهم.
ومن الأساليب القرآنية في التعبير عن هذا الإحساس أن جعل قتل الرجل
لغيره قتلاً لنفسه، وجعل إخراج الرجل من داره إخراجاً لنفسه، وجعل ظن السوء
بالغير ظناً بنفسه، وجعل لمز الغير لمزاً لنفسه، والسلام على الغير سلاماً على
نفسه؛ وكل ذلك ذكره القرآن. قال الله تعالى في سياق أخبار بني إسرائيل: [وَإذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ
تَشْهَدُون ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ] [البقرة: 84، 85] . فجعل دم كل فرد من
أفرادهم كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه قتل نفسه وانتحر ذاته.
قال القرطبي: (ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً، وكانوا كالشخص
الواحد جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها) [1] .
ومثل هذا السياق قوله تعالى: [فَاقْتُلُواً أََنفُسَكُمْ] [البقرة: 54] ومعناه:
فليقتل بعضكم بعضاً بأن يقتل من لم يعبد العجل عابديه؛ فإن قتل المرء لأخيه كقتله
لنفسه.
قال القرطبي: (وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عَبَدَة العجل بأن يقتل
نفسه) ثم نقل عن الزهري قوله: (أن يقتل من لم يعبد العجل من عبد العجل) [2] .
وقال الله تعالى في سياق هذه الأمة: [وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] [النساء: 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، فجعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، قال القرطبي:
(أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم
لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه) [3] . قال الحافظ ابن كثير: (وهو
الأشبه بالصواب) [4] ، قال الزمخشري: (شبّه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير
بالنفس في الأصل أو الدين؛ فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه) [5] ، وقال الحافظ ابن كثير: (إن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة) [6] . وقد
بيّن الله أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، فقال: [.. كَتَبْنَا عَلَى
بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأََرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعاً] [المائدة: 32] .
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله تعالى: [يَا أََيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ] [المائدة: 105] . حكى
الفخر الرازي مقالة لعبد الله بن المبارك أنه قال: (هذه أوْكد آية في وجوب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه سبحانه قال: [عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ] يعني عليكم
أهل دينكم، ولا يضركم من ضل من الكفار، بأن يعظ بعضكم بعضاً، ويُرغّب
بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات) [7] لأن المؤمنين إخوة في
الدين. ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الغير قوله تعالى: [فَإذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً
فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً] [النور: 61] والمعنى:
فليسلم بعضكم على بعض، وهم أهل البيوت التي يدخلونها؛ لأنهم بمنزلة أنفسهم
في شدة المحبة والمودة والألفة، ولأنهم منهم في الدين، فكأنهم حين يسلمون عليهم
يسلمون على أنفسهم. وقد أنكر الشيخ ابن عاشور على من فهم من الآية أن الداخل
يسلم على نفسه فقال: (ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقه، فظنوا
أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً، وهذا بعيد من أغراض التكليف
والآداب) [8] . وهذا هو المأثور عن سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة
والزهري؛ حيث قالوا: (فليسلم بعضكم على بعض) [9] .
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله تعالى: [وَلا تَلْمِزُوا
أَنفُسَكُمْ] [الحجرات: 11] والإنسان لا يلمز ولا يعيب نفسه، وإنما اللامز يلمز
غيره إشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم فكأنما عاب نفسه، فنزّل البعض الملموز
منزلة نفس الإنسان لتقرير معنى الإحساس بالأخوة وتقوية الشعور بها.
ومن تعبيرات القرآن عن الغير بالنفس قوله تعالى: [لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً] [النور: 12] .
المراد بأنفسهم هنا إخوانهم في الدين والعقيدة، والمعنى: فهلاّ وقت أن
سمعتم حديث الإفك هذا ظننتم بأنفسكم أي: بإخوانكم وأخواتكم ظناً حسناً جميلاً؛ إذ
لا يظن المرء بنفسه السوء، وفي هذا التعبير عن إخوانهم وأخواتهم في العقيدة
بأنفسهم أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبة والمودة والإخاء والإحساس
الصادق؛ حتى لكأن الذي يظن السوء بغيره إنما يظنه بنفسه [10] . قال الرازي:
(فجعل الله المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور؛ فإذا جرى على
أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم) [11] .
فهذا الأسلوب القرآني، وهذا الخطاب الرباني يؤكد معنى وحدة الأمة،
ويُحدِث في النفس أثراً وإحساساً يبعثها على الامتثال؛ فالمسلم الذي يُربى على هذه
المعاني، وهذه الدقائق القرآنية، لا شك في أنها تؤثر فيه وتغرس في أعماقه هذا
الإحساس وهذا الشعور.
ومن تدبر هذا الأسلوب القرآني علم أنه لا قوام لهذه الأمة إلا بمثل هذا
الشعور وهذا الإحساس، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه
دمُ الآخرين، وظن السوء بهم ظنّ بنفسه، والسلام عليهم سلامٌ على نفسه، وعيبهم
عيبٌ لنفسه؛ لا فرق في المحافظة على الروح التي تجول في بدنه والدم الذي
يجري في عروقه، وبين الأرواح والأبدان التي يحيا بها إخوانه قال تعالى: [يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ] [النساء: 1] وقال: (مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [12] ، وكل هذه المعاني كامنة في القرآن
والتفسير يكشفها ويجلّيها.