إشراقات قرآنية
عبد العزيز مصطفى
كثيراً ما نسأل الله ما يرضينا بلسان حالنا أو مقالنا ولكنْ.. هناك سؤال أهم
ينبغي أن نسائل أنفسنا عنه، بل نحاكمها إليه وهو: هل نقوم بما يرضي الله تعالى
عنا من الأفعال والأقوال والأحوال؟ وهل رضينا قبل ذلك بما يرضي الله عنا..؟
ربما نخدع أنفسنا بالهروب من الإجابة، أو بالهروب من السؤال ذاته، ولكن
ما جدوى التهرب؟ !
إنه لا مفر من يوم يعاد فيه فحوى السؤال، ونعلم فيه حقيقة الإجابة؛ وذلك
عندما يُسأل الواحد منا في قبره عن ربه ودينه والرجل الذي بُعث إليه. فهذا سؤال
للمرء منا عمن رضيه رباً في العبادة، وما رضيه منهاجاً في الدين، ومن رضيه
أسوة وقدوة من الخلق. إنه في حقيقته سؤال عن الرضى، فمن كان راضياً بالله
تعالى حقاً في حياته، وراضياً بالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً؛ استطاع أن
يجيب وإن كان أمياً عامياً، ومن لم يحصّل في هذه الدنيا حقيقة الرضى بالله رباً
وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً فلن يستطيع الإجابة ولو كان عالماً عالمياً، ومن ثبت
على هذا الرضا في الدنيا ثبته الله عليه في الآخرة، أما من ظلم نفسه وزاغ أو ضل
عنه في الدنيا؛ فإن الله تعالى يضله عن الإجابة في الآخرة، كما قال تعالى:
[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] [ابراهيم: 27] قال الشيخ السعدي رحمه الله:
(يثبت عباده المؤمنين الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي، الذي يستلزم أعمال
الجوارح ويثمرها) [1] .
فلا بد لنا من ترويض النفس على تمام الرضا بهذه الثلاثة اعتقاداً وقولاً وفعلاً.
فالرضا بالله يتضمن الرضا بإلهيته، وهذا يعني الرضا بمحبته وحده، وخوفه
والإنابة إليه، وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له. ورضا العبد بربوبية الله
يتضمن الرضا بتدبيره، وإفراده بالتوكل والاستعانة والثقة والاعتماد، والرضى
بكل ما يفعل، ويتضمن أيضاً أن يسخط العبد على عبادة غيره.
والرضا بنبيه: يتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه بحيث يكون
أوْلى به من نفسه.
وأما الرضا بدينه: فإذا جاء الدين بأمر أو نهي أو حكم، رضي العبد كل
الرضا، ولم يبق في قلبه حرج، ولو كان مخالفاً لهوى نفسه أو من يقلدهم) [2] .
ومن جمع هذه الثلاثة جمع في قلبه إيماناً حياً حلواً، له طعم ومذاق. قال:
(ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً) [3] .
ولا شك أن هذا التذوق لطعم الإيمان، يورث إلفاً وأنساً بالله ومَحَابّه، كما أنه
في الوقت نفسه، يورث غربة ووحشة ونفرة من كل ما يبعد عن الله ومَحَابّه.
ولاحتياج النفس إلى تجديد العهد بهذا الرضا؛ علّمنا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أن نردده مع كل نداء للصلاة، وهي أفضل ما يرضي الله من الأعمال، فقال: (من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد
رسولاً: غُفِرَتْ له ذنوبه) [4] .
ولا شك أن كمال الرضا لا يتم إلا برضى العبد عن قضاء الله وحكمه، سواء
كان هذا الحكم والقضاء في الشرع والدين، أو كان حكماً كونياً قدرياً، والأول
أعني الرضى بحكم الله وشرعه أمر واجب، بل هو شرط في الإيمان، كما قال الله
سبحانه: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] . قال ابن القيم رحمه
الله تعليقاً على هذه الآية: (الرضى بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس
الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضياً به بلا حرج ولا منازعة
ولا معارضة ولا اعتراض؛ فقد أقسم الله أنهم لا يؤمنون حتى يُحَكّموا رسوله -
صلى الله عليه وسلم-، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حُكمه، وحتى يسلموا
لحكمه تسليماً، وهذه حقيقة الرضى بحكمه؛ فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء
الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان [5] . وأما النوع الثاني، وهو
الرضى بحكم الله وقضائه كوناً وقدراً، ففي حكْمِهِ تفصيل كما بين ذلك ابن القيم
رحمه الله فقد ذكر له أنواعاً ثلاثة: الأول: قضاء الله فيما يحبه الإنسان، والثاني:
قضاء الله فيما يخالف محبة العبد ومراده كالمرض والابتلاء والفقر. والثالث:
القضاء الجاري بما يكرهه الله شرعاً ولكنه يقضي بوجوده قدراً، كالأفعال والأقوال
والأحوال المحرمة. أما أحكامها فقد بينها بقوله: (الرضى بالقضاء الكوني القدري
الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من الصحة والغنى والعافية واللذة أمر لازم
بمقتضى الطبيعة؛ لأنه ملائم للعبد محبوب له. فليس في الرضى به عبودية، بل
العبودية في مقابلته بالشكر وأن لا يعصي المنعم به، والرضا بالقضاء الكوني
القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته، ولا يدخل تحت اختياره مستحب،
وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي وجوبه قولان؛ وهذا كالمرض والفقر وأذى
الخلق له، ونحو ذلك. والرضى بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله
ويسخطه، وينهى عنه، كأنواع الظلم والفسوق والعصيان: حرام يعاقب عليه،
وهو مخالفة لربه تعالى، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه، فكيف تتفق المحبة
ورضى ما يسخطه الحبيب ويبغضه؟ فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضى
بالقضاء) [6] .
وبهذا ترى أن الرضى يكون في القلب أصلاً ويعبر عنه اللسان، ثم تأتي
الأعمال لتكون برهاناً عن توجه القلب وصدق اللسان.
ولا بد لهذا الرضا من ترجمة عملية، تثبت صدق الإنسان في دعوى الرضا
بالله وبدينه ونبيه؛ فالأمر ليس مجرد زعم، أو شقشقة باللسان، ولهذا كان الرسول
يسأل الله تعالى أن يوفقه إلى العمل الذي يرضيه سبحانه فيقول: (أسألك من العمل
ما ترضى) [7] . وكان كليم الله موسى يسارع إلى ما يرضي الله من الأعمال
والأقوال والأحوال فيقول: [وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] [طه: 84] ، أما العبد
المنعم عليه بالملك والنبوة سليمان عليه السلام فكان لا يرى شكر تلك النعم إلا
بالعمل في رضى الله.. [رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ]
[النمل: 19] .
وهكذا كانت صفة جميع الأنبياء في كتاب الله: [إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي
الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] [الأنبياء: 90] .
وهكذا كانت صفة إمام الأنبياء أيضاً صلوات الله وسلامه عليه وصفة أصحابه
في الكتب الكبرى المنزلة، فهي تصف مسارعتهم للأعمال التي فيها رضوان الله
سبحانه كما قال عز وجل: [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وجُوهِهِم
مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] [الفتح: 29] .
قال ابن كثير رحمه الله: وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير
الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل
الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل وهو سعة الرزق عليهم
ورضاه تعالى عنهم) [8] .
فهكذا اصطبغت حياة الصحابة وطريقتهم في الحياة والعبادة بطريقة النبي -
صلى الله عليه وسلم- ومنهاجه؛ فقد كانت حياته تدور حول إرضاء الله عز وجل
ولم يكن يرضى إلا برضاه سبحانه ويدعو بذلك فيقول: (وأرضنا وارضَ عنا) [9] ، وكان يحمد الله الحمد الذي يرضيه فيقول: (الحمد لك حتى ترضى) [10] ولعلمه
بأن البشر عاجزون عن إحصاء الثناء على الله؛ فقد كان يحمد الله على قدر ما
يرضاه فيقول: (الحمد لله رضا نفسه) [11] .
وقد حفل الهَدْي النبوي بالدلالة على ما فيه رضى الله عز وجل، فأرشد
الرسول أمته إلى الارتقاء صُعُداً إلى سلّم الرضا في كل شيء.
* ففي العقيدة بيّن لهم الأساس الذي يُرتضى به إيمان العبد واعتقاده، فقال:
(إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به
شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة
السؤال، وإضاعة المال) [12] .
* وفي العبادات العملية، بيّن أن حرص المؤمن لا بد أن يشمل روح العبادة
إضافة إلى صورتها؛ وهو حرص حريّ بأن يضم صاحبه إلى مصاف المرضيين:
فقال عن الصلاة: (الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو
الله) [13] . وقال عن الصيام: (قال ربكم عز وجل: عبدي ترك شهوته وطعامه وشرابه ابتغاء مرضاتي، والصوم لي وأنا أجزي به) [14] . وعن الذكر قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأرضاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والوَرِق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله) [15] .
وعن الجهاد قال: (أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل الله ابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، ...
وإن قبضته غفرت له ورحمته) [16] .
* وفي العبادات القلبية، بيّن الرسول، أن رضى الله يُجتلب بأحوال في
داخل القلب تعبر عن امتنان المؤمن لربه على السرّاء وإن قلّت، وتركه الجزع
على الضرّاء وإن عظمت. قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليرضى عن العبد
يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها) [17] وقال عليه الصلاة
والسلام عندما مات ولده إبراهيم: (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما
يرضي ربنا؛ إنا بك يا إبراهيم لمحزونون) [18] .
* وفي المعاملات: دلّ الرسول على أن رضى الله تعالى يُدرك بكلمة حسنة
يلقيها المؤمن على أخيه المؤمن، فتدل على حسن أخلاقه ومعاملاته قال: (إن العبد
ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات) [19] .
وأوْلى الناس بحسن الكلام والمعاملة هم الوالدان، فرضى الأم والأب، يقترن
برضى الرب، قال: (رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط
الوالد) [20] .
جود الله وكرمه في إرضاء أوليائه:
ما يقابل الله تعالى وهو الجواد الكريم أن يقابل صنيع المقبلين على رضاه،
إلا بما يقر أعينهم من عظيم عطاياه؛ وأعظم عطائه سبحانه أن يحل عليهم
رضوانه، فيسكنهم دار الكرامة، ويقعدهم مقعد الصدق، ويهبهم الخلد في جنات
النعيم. ولقد جاءت نصوص الوحي مبشرة هؤلاء بالفوز، ومخبرة عن تلكم
المسارعة من الإله الأعلى لإرضاء أوليائه وأحبابه، بما يرضيهم، وفوق ما
يرضيهم.
ففي الحياة يرضى عنهم كما قال: [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ
حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] [المجادلة: 22] .
* وعند الممات يرضيهم: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي] [الفجر: 27 30]
* ويوم البعث يرضيهم: [وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (?) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (?) فِي
جَنَّةٍ عَالِيَةٍ] . [الغاشية: 8 10]
* وعند الحساب يرضيهم [فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (?) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ] [القارعة: 6، 7] .
وإذا كان القرآن قد أشار في هذه الآيات البينات إلى بُشريات عامة لأصناف
المؤمنين ترضية لهم، فإن هناك نصوصاً أخرى من الوحي كتاباً وسنة تدل على
بشارات خاصة لأصناف معينة، شاء الله سبحانه أن يجعلهم أعلاماً على المرضيّ
عنهم، وقد جاءتهم البشريات ولمّا يغادروا هذه الحياة الدنيا، وعلى رأس هؤلاء
المرضيين من الأمة: الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، لقد رضي الله عنهم،
وجعل الترضي عليهم شارة المؤمنين، وشعار أهل الدين.
قال سبحانه: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] [التوبة: 100]
وقال: [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] [الفتح: 18] .
أما معلمهم وهاديهم، وهادي الناس جميعاً إلى كل ما يحبه الله ويرضاه عليه
صلوات الله وسلامه فقد كان إكرام الله تعالى له فياضاً بالعطاء، وموصولاً إلى
منتهى الإرضاء في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فقد أعلى شأنه، ورفع ذكره وقرن
اسمه باسمه حتى قال: [وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ] [الشرح: 4] وأما في الآخرة فقال:
[وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى] [الضحى: 5] قال الشيخ السعدي: (وهذا أمر لا
يمكن التعبير عنه إلا بهذه العبارة الجامعة الشاملة) [21] . وزيادة في رفعته أرضاه
بأن جعل الصلاة عليه موجبة لصلاة الله على العبد. كما جاء في الحديث القدسي:
(أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه) [22] ، بل أرضاه في كل
أمته كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (إنا سنرضيك في أمتك ولا
نسوؤك) [23] .
كل هذا وذاك من أصناف الرضا الإلهي عمن عملوا برضاه، ولا شك أن
منتهى أمل المؤمنين، أن ينجيهم الله من العذاب الشديد بالمغفرة، وأن يدخلهم بعد
ذلك جنة الرضوان تفضلاً منه ورحمة كما قال سبحانه: [وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ] [الحديد: 20] .
ولكن؛ هل هناك رضوان فوق الجنة..؟ ! لا تعجل في الإجابة فتقول: لا.. بل تمهل.. تذكر.. ثم اتل قول الله تعالى: [وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ
مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] [التوبة: 72] .
نعم ... رضوان الله أكبر، أكبر من الجنة ونعيمها وأنهارها ومساكنها! قال
ابن كثير: (رضا الله عنهم أكبر وأجلّ وأعظم مما هم فيه من النعيم) .
وقد ورد بهذا المعنى الجميل في الآية، كلام جليل في الحديث؛ فعن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن
الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك،
فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من
خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب! وأي شيء أفضل من
ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) [24] .
فاللهم رضّنا وارضَ عنا.. (ارض عنا رضىً لا تسخط بعده) [25] ... آمين.