في دائرة الضوء
د. عبد الكريم بكاد
إن فطر الله - جل وعلا - لبني الإنسان على التساؤل وحب الاستكشاف أتاح
لهم أن ينمّوا كينوناتهم المعرفية، وأن يندفعوا دائماً نحو معرفة المزيد دون أن
يجدوا أي حدود للتشبع أو الارتواء. كان العلم في القديم، يقوم على (النقل) ، فكان
التعلم والتعليم عبارة عن أفعال مقترنة بالزمان، حيث يتمان وفق تتابع زمني،
وحين يموت العالم، فمن الممكن أن يذهب معه أفضل ما يعرف، وحين صار
للغات أبجديات، وتمتع الإنسان بنعمة الكتابة، انتقلت المعرفة من حيز الزمان إلى
حيز المكان، وصار الحفظ والتوثيق والاسترجاع والنشر مما هو متاح على أوسع
نطاق، وبذلك أمكن للناس أن يطوروا معارفهم على نحو مدهش، وصار للبشرية
بذلك تاريخ جديد.
إن هناك دواعي كثيرة، تفرض على الواحد منا أن يتعلم، ويقرأ، ويكتسب
الخبرات مدى الحياة، منها:
1- إن الذي يدعو الإنسان إلى مزيد من التعلم، هو العلم نفسه، إذ إنه كلما
زادت المعرفة، اتسعت منطقة المجهول، والتقدم نفسه يعمل على زيادة حاجة
الإنسان الشديدة إلى المعرفة، حيث إن التوغل في حقول المعرفة، يتيح إمكانات
ومجالات جديدة، ويولَّد دوافع جديدة للتقدم الأوسع نطاقاً. والمثقف الذي يرغب في
الحفاظ على قيمة ثقافته وكرامتها، مطالب بأن يعيد تكوين ثقافته على نحو مستمر
ومتجدد، وعندما يشعر بالاكتفاء بما لديه من معلومات، سيضع نفسه على شفا
الانحطاط. وإذا كان متخصصاً فإن أمواج القفزات العلمية في تخصصه، ستقذف
به نحو الشاطئ، ليجد نفسه في النهاية خارج التخصص. الوضع الذهني للرجل
متوسط الثقافة - فضلاً عن الضعيف - يسف وينحط بسبب ما يحتشد من النظريات
والأفكار والمذاهب التي لم يعد بإمكانه المساهمة فيها، حتى لو أبدى اهتماماً بها.
إن جهلنا ينبسط مع تقدم المعرفة، كما ينبسط سطح التماس لكرة ما مع العالم
الخارجي عندما يكبر قطرها، وهذا يشكل تحدياً متزايداً لكل قارئ.
2- لم يكن لدى الناس قديماً إحساس قوي بارتباط كسب الرزق بمدى ما
يحصلَّونه من علم، لكن الوضع قد تغير اليوم؛ حيث تتضاءل على نحو متصاعد
المهن والوظائف التي يمكن للأميين ومحدودي الثقافة الاضطلاع بها. وسوف تجد
الأمة التي لا يحسَّن أبناؤها مستوى معارفهم - على نحو مستمر- نفسها مؤهلة لأن
تكون تابعة للأمم الأخرى، ومستغلة لها على كل المستويات!
3- إن ما نمتلكه اليوم من معارف وخبرات، لا يتمتع بقيمة مطلقة؛ فسكان
الأرض يشكلون عالماً واحداً، وأهمية كل جزء من أجزاء هذا العالم، تنبع دائماً
من قدرته على الصمود والمنافسة وحل المشكلات، وما يمتلكه من وزن في
الساحات العالمية. وشيوع الأمية الأبجدية والحضارية، قد جلب على أمة الإسلام
مشكلات هي أكبر مما نظن؛ وليس ذلك على صعيد المعيشة والإنتاج فحسب؛
وإنما على صعيد فهم الإسلام أيضاً؛ فالإسلام بما أنه بنية حضارية راقية، لا
يتجلى على نحو كامل إلا عبر تجربة معرفية وحضارية رائدة؛ مما يعني أن
التخلف الذي نعاني منه قد حال بيننا وبين رؤية المنهج الرباني على النحو المطلوب.
4- إن العقل البشري، يميل دائما إلى تكوين عادات ورسم أطر لعمله، وهي
مع مرور الوقت، تشكل نوعاً من البرمجة له؛ والبيئة - بكل أنواعها - هي التي
توفر مادة تلك البرمجة. وكلما كانت ثقافة الإنسان ضحلة، وكانت مصادر معرفته
محدودة، ضاقت مساحة تصوراته، وأصبح شديد المحلية في نماذجه ورؤاه،
عاجزاً عن تجاوز المعطيات الخاطئة التي تشربها من مجتمعه. والقراءة الواسعة،
والاطلاع المتنوع هو الذي يعظم الوعي لديه من خلال المقارنة وامتداد مساحات
الرؤية، وقد كان علماء السلف، لا يثقون بعلم العالم الذي لم يرحل، ولم يغبِّر
قدميه في طلب العلم، إدراكاً منهم لمخاطر البرمجة الثقافية القائمة على معطيات
محلية محدودة.
5- التدفق الهائل للمعلومات، وتراكم منتجات البحث العلمي في اتساع
مستمر؛ والنتيجة المباشرة لذلك هي تقادم ما بحوزتنا من معارف ومعلومات. وتفيد
بعض التقديرات أن نحواً من 90 % من جميع (المعارف العلمية) قد تم استحداثه
في العقود الثلاثة الأخيرة. وسوف تتضاعف هذه المعارف خلال نحو من 12 سنة. ويقول أحد الباحثين: إن على المتخصص المعاصر أن يضع في حسبانه أن نحواً
من 10 - 20 % من معلوماته قد شاخ، وعليه أن يجدده. ويرى أحد الباحثين أن
أعراض الشيخوخة تعتري المعلومات بنسبة 10 % في اليوم بالنسبة إلى الجرائد،
و10 % في السنة بالنسبة إلى المجلات، و10 % في السنة بالنسبة إلى الكتب.
6- إن تقادم المعلومات يتجلى في صور شتى، فتارة في ظهور زيفها أو عدم
دقتها، وتارة يتجلى في عدم ملاءمتها للخطط الجديدة، وأحياناً بتحوّل الاهتمام عنها، لأنها لم تعد ذات قيمة في البناء المعرفي، وأحياناً بقراءتها قراءة جديدة، أي:
إنتاجها مرة أخرى على نحو يبعدها عن مضامينها الأولى ...
والعلاج لذلك كله دوام الاطلاع والمتابعة، حتى لا يتدهور ما لدينا من معرفة، وحتى لا نغرق في الضلالات والأوهام التي تنتشر باعتبارها مفرزات جانبية
للتقدم العلمي.
القراءة ومصادر المعلومات الأخرى:
عصرنا عصر انفجار المعرفة، فالأعداد الهائلة من العلماء الذين يشتغلون
بالبحث العلمي، والوسائل المتطورة في حفظ المعلومات ونقلها وبثها، والتواصل
الكوني الفريد والمتزايد، كل ذلك جعل الناس مغمورين بالأخبار والمعلومات
والمفاهيم التي ترد إليهم كل لحظة من شتى أصقاع الأرض. هذه الوضعية حملت
الناس على طرح سؤال حول ما تبقى من وظيفة للقراءة والكتاب، كما حملت كثيراً
من المثقفين على الجهر بمر الشكوى من هجر الكتاب، والافتتان بما تعرضه
وسائل الإعلام المختلفة من برامج ومواد ثقافية متنوعة. والحقيقة أن لتلك الشكوى
ما يسوغها، إذ إن هناك مؤشرات واضحة إلى إعراض الناس عن القراءة واقتناء
الكتاب، والى إقبالهم على قضاء أوقات طويلة أمام الوسائل الإعلامية المختلفة.
ويكفي أن نعلم أن متوسط ما يطبع من معظم الكتب في البلاد العربية لا يتجاوز
ثلاثة آلاف نسخة للكتاب الواحد.
وهذا العدد المحدود لا ينفد في الغالب في أقل من ثلاث سنوات عادة، على
حين تتجاوز أرقام التوزيع في الدول المتقدمة ذلك بكثير، بما لا يدع أي مجال
للمقارنة!
إن وسائل الإعلام تقدم برامج على درجة عالية من الزخرفة والإتقان؛ مما
يعطيها جاذبية عالية. فاذا أضفنا إلى ذلك انعدام البواعث على القراءة وانعدام
التقاليد الثقافية المحبذة لاقتناء الكتاب واصطحابه - أدركنا وضعية القراءة في عالمنا
الإسلامي!
إن وسائل الإعلام تقدم معلومات متشظية، قلما تتصل بالحاجة المعرفية
الحقيقية للمتابع لها، كما أن المعروف أن المعلومات الكثيفة حول أي شيء قد تقف
حائلاً دون فهمه على الوجه الصحيح، تماماً مثل الحقائق والمعلومات القليلة عنه؟
فللعقل طاقة محدودة على التحليل والتصنيف والغربلة لما يرد عليه، وحين يزيد
على طاقته، فإنه يربكه ويشتته.
من وجه آخر فإن وسائل الإعلام الحديثة، قد سببت أضراراً بالغة للشعور
بالحاجة إلى التفكير، فكتَّابها ومعدُّو برامجها قاموا بذلك نيابة عن المتلقين. إن
مشاهد (التلفاز) ومستمع الإذاعة وقارئ المجلة أو الجريدة.. يتلقى مركَّباً كاملاً من
البيانات والإحصاءات المنتقاة بعناية، والمصوغة بأسلوب بلاغي بارع، مما
يدهش القارئ، ويدفعه إلى نوع من الاستسلام لها، والانقياد إلى توجهاتها دون
القيام ببذل أي جهد شخصي؛ وهذا كله مغاير لمتطلبات التطور العلمي والاجتماعي
الحديث، والذي يتطلب منا القدرة على الإبداع، وترشيد المحاكمة العقلية أكثر من
الانشغال باستيعاب بعض مفردات المعرفة واستظهارها. هذا كله لا يجعلنا ننكر أن
الدفق الإعلامي والمعلوماتي الهائل، قد أوجد نوعاً من الاستنارة العامة، ورفع
درجة الوعي لدى الناس، كما أنه ملكهم الكثير من المعلومات العامة.
إن الهامش الذي يفصل بين التسلية وبين التثقيف الحق هامش ضيِّق، ومن
السهل أن يكون ما نستمع إليه ونشاهده ضرباً من ضروب التسلية، وتزجية الوقت، ونحن نظن أننا نتعلم. واعتقد أن الكتاب ما زال هو الوسيلة الأساسية للتثقيف
الجيد، حيث نستطيع أن نمارس حريتنا كاملة في اختيار ما نحتاج إليه، وهو لا
يحتاج إلى آلات مساعدة للاطلاع عليه، كما أنه رخيص الثمن إذا ما قورن بغيره.
ولست مع هذا أميل إلى التقليل من شأن مصادر المعلومات الأخرى؛ فالمهم دائماً
أن تكون أهدافنا في التثقيف والارتقاء المعرفي واضحة، ثم نبحث عن الأدوات
والوسائل التي تبلغنا إياها.
والله ولي التوفيق،،،