مجله البيان (صفحة 2928)

حقوق الإنسان فى ضوء التجليات السياسية للعولمة

قضايا ثقافية

حقوق الانسان في ضوء التجليات السياسية للعولمة

عولمة حقوق الإنسان أم عولمة الفهم الغربي لها؟

محمد فهيم يوسف

نعلم أن مفهوم العولمة Globalization ينطوي على تجليات اقتصادية قد

تكون استأثرت إلى حد ما باهتمام الباحثين والخبراء، لكن ذلك لا يعني اقتصاره

عليها، فثمة تجليات أخرى سياسية وثقافية واتصالية ترتبط بهذا المفهوم، وتشكل

في مجملها مضمونه. وقد لوحظ أن الجوانب السابقة على اختلافها تشترك في ذلك

التأثير الذي تحدثه على موضوع حقوق الإنسان ووضعيته على المستوى التطبيقي.

وسأحاول خلال هذه المقالة الموجزة إلقاء الضوء على البعد السياسي للعولمة الذي

من تجلياته سقوط الشمولية والسلطوية، والاتجاه نحو الديمقراطية واحترام حقوق

الإنسان، لا سيما وأنه يطرح أسئلة كثيرة للنقاش من أبرزها:

هل تعني عولمة حقوق الإنسان أن يشيع في العالم احترام كافة الصكوك

الدولية لحقوق الإنسان (الفردية منها والجماعية) دون تمييز أو مفاضلة، وأن يستفيد

العالم من منجزات التطور التقني في نشر الأفكار الرامية إلى إحداث نوع من

التقارب بين البشر، محوره كرامة الإنسان الذي لن يصبح في معزل عن أخيه

الإنسان وآلامه في شتى بقاع الأرض؟ أم أنها تعني الفرض الانفرادي لفهم يستند

إلى مرجعية تخص حضارة معينة، باعتباره المفهوم الأسمى لحقوق الإنسان الذي

ينبغي أن يسود العالم؟

في الواقع لقد ورد في مقالة حديثة للدكتور محمد عابد الجابري إشارة للتفرقة

على درجة من الأهمية بين ما أسماه (بالعالمية - Universalism) التي تمثل وفقاً

لتصوره طموحاً نحو الارتقاء بالخصوصية إلى مستوى عالمي، ومن ثم فهي تفتح

العالم على ما هو عالمي وكوني، وبين (العولمة) التي تمثل في نظره إرادة الهيمنة، وبذلك فهي تعني القمع والإقصاء لكل ما هو خصوصي.

وبينما اعتُبرت الأولى (أي العالمية) مشروعاً طموحاً؛ لأنها تعني الانفتاح

على الآخر ورغبة في الأخذ والعطاء، اعتُبرت الثانية إرادة لاختراق الآخر وسلبه

خصوصيته [1] .

وفي اعتقادنا أن التفرقة التي جاءت بها هذه الأطروحة بين ما هو عالمي

وعولمي هي مما ينطبق على واقع التعاطي مع حقوق الإنسان منذ مطلع التسعينات

الذي يشهد تسارع الانتقال من المحور الأول المتعلق بالعالمية (أي عالمية حقوق

الإنسان) ، إلى المحور الثاني المتعلق بالعولمة، الذي تحاول من خلاله بعض

الأوساط الدولية طرح فهمها لصيغة التفاعل مع حقوق الإنسان، وحث المجتمع

الدولي على تبنيه باعتباره المفهوم الأصلح والأقدر على البناء، ولعل ذلك مما نلحظ

بوادره فعلاً من خلال ما يلي:

تراجع دور الجدل التقليدي المتمحور حول العالمية بالنسبة لحقوق الإنسان.

اتجاه الأوساط الغربية نحو محاولة تعميم (الفهم الغربي لحقوق الإنسان)

مستخدمة في ذلك شتى الوسائل:

أولاً: تراجع الجدل التقليدي حول مفهوم ومعايير حقوق الإنسان عقب الحرب الباردة:

إذ لم تكن التجمعات الدولية أيام الحرب الباردة تحمل الرؤية نفسها في الدعوة

لحقوق الإنسان وحمايتها أو حتى الاعتراف بها:

فبالنسبة للدول الرأسمالية المتقدمة: نجد أن تبنيها نمط الديمقراطية الليبرالية

الغربية المغرقة في تقديس الفرد وحريته بما اعتبر لديها نتيجة لطبيعته الإنسانية لا

لوجوده كمواطن داخل دولة قد جعلها تبدي تعلقاً واضحاً بحقوق الإنسان ذات الطابع

الفردي وتحديداً (الحقوق المدنية والسياسية) التي ارتبطت باستقلال الولايات المتحدة

وظهور مبادئ الثورة الفرنسية، أما فئة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أو

ما يسمى (بالجيل الثاني من حقوق الإنسان) فقد قوبلت برفض وتعنت شديدين؛ لأن

ارتباطها التاريخي بانتصار المذهب الماركسي حينها قد جعلها في نظرهم مرتبطة

بالشيوعية.

وهذا ما ينطبق لديهم بوضوح على الحقوق المدنية والسياسية، كالحق في

الحياة، وعدم الخضوع للتعذيب، وحق الانتخاب.. إلخ، أما فئة الحقوق

الاقتصادية والثقافية؛ كالحق في العمل، والحق في التعليم والصحة، والحق في

الضمان الاجتماعي ... الخ. فهي مما يخرج عن هذا النطاق؛ لأنها تستلزم تدخلاً

من جانب الدولة لكفالتها، هذا فضلاً عن كون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية

ستصبح بلا معنى ما لم يسبقها الإعمال التام للحقوق المدنية والسياسية؛ على اعتبار

أنه لا قيمة لحق العمل أو التعليم إذا كانت حرية المواطن أو حياته عرضة

للتهديد [2] .

وبالنسبة للدول الاشتراكية: فإننا نجد أن تبنيها لنمط الديمقراطية الاشتراكية

التي تجعل حقوق الإنسان من حق من يعمل وينتج فقط في المجتمع الاشتراكي، فقد

أبدت تعلقاً واضحاً بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع تجاهل واضح

للحقوق المدنية والسياسية التي اعتبرت لديهم حقوقاً شكلية ما لم يسبقها الإعمال التام

لحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية. وخلافاً للدول الرأسمالية الغربية التي ترى

أن الدولة العدو الأول للحرية، فقد اعتبر تدخلها حيوياً لدى الدول الاشتراكية ليس

فقط في الدفاع عن الحقوق والحريات، بل وأيضاً في إنتاجها؛ فتحقيق الحرية في

المذهب الماركسي لا يتأثر إلا من خلال الجماعة أو طبقة البروليتاريا التي تعمل

على التخلص من قيود الطبقة المستغلة.

وهكذا فقد اتجه الفريقان انطلاقاً من هذا الخلاف الأيديولوجي نحو استخدام

حقوق الإنسان في الصراع الذي كان دائراً بينهما، فكانت الدول الرأسمالية تحرص

على إبراز انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية في الدول الاشتراكية، وكانت هذه

الأخيرة تحرص على إبراز انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدول

الرأسمالية، واستمر الأمر على هذا المنوال إلى أن كان انهيار المعسكر الاشتراكي

بقيادة الاتحاد السوفييتي، ومنذ ذلك الحين لم يعد لمقولة الصراع الأيديولوجي بين

الشرق والغرب أي معنى، وهذا ما انعكس إيجاباً على خطاب الإنسان وعالميته،

بحيث بات يسود الاعتقاد لدى غالبية الدول أن العالمية ينبغي أن تبقى ملازمة

لحقوق الإنسان؛ لأنها صفة أصيلة فيها، فتضاءلت تبعاً لذلك استعمالات التعابير

التي توحي بمعنى التعاقب أو حلول فئة من حقوق الإنسان محل الأخرى، فكما أن

للإنسان حقوقاً مدنية وسياسية فإن له وبالدرجة نفسها حقوقاً اقتصادية وثقافية.

ومن دلائل هذا التحول أن الولايات المتحدة قد اتجهت منذ عام 1992م نحو

المصادقة رسمياً على الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (وهي التي

كانت قد أصدرت بياناً عام 1986م استبعدت فيه هذه الفئة من حقوق الإنسان من

قائمة الحقوق التي تحظى باعتراف الحكومة الأمريكية، ومن نشرتها عن حقوق

الإنسان في الدول النامية، وأمرت ممثليها الدبلوماسيين والقنصليين في الخارج

بحذف هذا الجزء من تقاريرهم السنوية عن البلاد التي يوجدون فيها، مسوّغة ذلك

بأنها تعتبر مثل هذه الحقوق طموحات أكثر من كونها تمثل التزامات، ولهذا فهي لا

ينبغي أن تدخل في نطاق الحقوق المعترف بها دولياً

Internationally Recognized Hunian Rights! ! [3]

كما نستطيع أن نلمس هذا التحول من المسار الذي اتخذه المؤتمر العالمي

لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا عام 1993م، الذي حضره ممثلون عن 172 دولة، إلى جانب مراقبين عن 95 منظمة أو هيئة أو مؤسسة وطنية لحقوق الإنسان

وعن 840 منظمة غير حكومية.

فلقد عكس الحوار والجدل الذي كان دائراً في ذلك المؤتمر طبيعة التغير الذي

طرأ في هذا المسار؛ بحيث توارى ذلك الجدل التقليدي حول مدى أسبقية حقوق

الشعوب على حقوق الإنسان، أو حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية على

المدنية والسياسة. وظهر اتجاه غالب يؤكد على عالمية حقوق الإنسان الأساسية،

وأن هناك حداً أدنى مشتركاً من الحقوق يتعين على كل النظم السياسية والقيمية

والحضارية أن توفرها للإنسان، الذي ينبغي أن يكون موضوعها الرئيس والمستفيد

الأساس من حمايتها. كما اعترف المؤتمر بالحق في التنمية The Right to

عز وجلevelopment واعتبره حقاً عالمياً غير قابل للتصرف [4] . (وهو الذي كان

محلاً لرفض الدول الغربية التي اعتبرت أنه محاولة لنزع الطابع التحرري عن

القواعد المستقرة في القانون الدولي العام وإعطائها نزعة تدخلية تأخذ في حسبانها

مصلحة قلة معينة من الدول دون الدول الأخرى، وخلصت من ذلك إلى أنه حيلة

(عالمية مثالية) للحصول على مزيد من المساعدات لمصلحة الأنظمة الحاكمة

الدكتاتورية فيها) !

ثانياً: محاولات عولمة الفهم الغربي لحقوق الإنسان:

إذا كنا قد انتهينا إلى أن مسألة (العالمية) في حقوق الإنسان قد أصبحت أمراً

لا يثير كثيراً من الجدل في عصر ما بعد الحرب الباردة، فإن ما نلمسه اليوم هو

اتجاه المنتصر بزعامة الولايات المتحدة نحو محاولة فرض فهمه الخاص لحقوق

الإنسان والديمقراطية على المجتمع الدولي باعتباره المفهوم الأصلح والأقدر على

البناء [5] .

نعم، لقد كان وجود النموذج الماركسي اللينيني للديمقراطية هو الاتجاه الأقوى

في نظر الكثيرين على اعتبار أن النموذج الليبرالي الغربي ليس النموذج الوحيد

الذي يصلح أن يسود شتى تطبيقات الأنظمة في العالم، أما وقد انهار المعسكر

الاشتراكي فلم يعد لفكرة تعدد النماذج الديمقراطية أي معنى، وهكذا سار الغرب في

اتجاه عولمة فهمه الخاص للديمقراطية وحقوق الإنسان تحت شعار يعتبرها تراثاً

مشتركاً للإنسانية جمعاء لا تراث حضارة بعينها، مخفياً وراء ذلك حقيقة أنه يعكس

نتائج تغير موازين القوى وإرادة الهيمنة، وبعبارة أخرى: (حكم الغالب على

المغلوب) ! ولعل فرانسيس فوكوياما F. Fukuyama لم يكن ليجرؤ أن يبشر

الغرب بأن (نهاية التاريخ) ستكون عند سيادة القيم الغربية في الديمقراطية واقتصاد

السوق لولا انهيار الاتحاد السوفييتي؛ لأنه عند تأملنا ببساطة في حقيقة القيم التي

يُسعى إلى عولمتها من الناحية العملية، فسنجد أنفسنا أمام خطاب يفضي إلى تحقق

رأسمالية حقوق الإنسان، في ظل واقع الاختلال الدولي القائم؛ لأن التركيز ينصبّ

على الفئة الفردية (الحقوق المدنية والسياسية) ، دون التنكر لفئة الحقوق الاقتصادية

والاجتماعية كما كان عليه الحال في السابق، لكن بطبيعة الحال إيكال أمرها لآلية

السوق! ! وهذا ما يبحث عنه الفاعلون في تيار عولمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي؛ لأنه سيضمن لهم بقاء الدولة التي اعتبر تدخلها ضرورياً في حالة الحقوق

الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بعيدة عن هذا المجال، وسيضمن لهم أمن وسلامة

مصالحهم التي ستكون في رأي الكثيرين مكفولة في ظل الأنظمة التي تحترم الحقوق

السياسية.

وفي هذا الصدد يشير بعض الباحثين إلى منحى الولايات المتحدة (الطرف

السياسي والرائد في خط العولمة) ، فمنذ انتهاء الحرب الباردة، والاتجاه يسير نحو

النظر إلى حقوق الإنسان كمصلحة قومية أمريكية تتمثل في المقام الأول بنشر

المفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان في الفكر الرأسمالي، على اعتبار أن التحرر

الفكري يواكبه تحرر اقتصادي، وهو ما يعني اقتصاداً مفتوحاً (أمام الشركات

الأمريكية) . وزيادة الاعتماد الدولي المتبادل على النحو الذي لا يمكّن دولة في

المستقبل من الانعزال، ومن ثَمّ حرمان باقي الدول من مواردها وثرواتها

الطبيعية! ! [6] .

وقد لوحظ أن عدداً من الكتابات قد جاءت في حقبة التسعينات متضمنة دعوة

صريحة لكي تتبنى الولايات المتحدة هدف نشر الرؤية الغربية لحقوق الإنسان في

العالم، ومن ذلك ما تضمنه أحد المؤلفات الحديثة لـ جوشيا ميرافيك Jodhua

Muravchik (وهو أحد أبرز باحثي السياسة الخارجية الأمريكية المعبرين بدقة

عن أحد روافد التيار اليميني المعروف حالياً باسم (التيار المحافظ الجديد)

(Neocanservatism) ؛ حيث أخذ يناقش قضية عالمية وخصوصية القيم

والثقافة الديمقراطية وما إذا كان من الممكن تصديرها، وفيها أظهر اعتقاده الصريح

بإمكانية أن تلعب الولايات المتحدة دوراً مهماً في نشر الفهم الغربي لحقوق الإنسان

من خلال الدبلوماسية الهادئة والمساعدات وحتى من خلال العمل العسكري إن لزم

الأمر! [7] .

الإسلام العدو (القديم) الجديد للغرب! :

يبدو أن زوال خطر الشيوعية قد جعل الدول الرأسمالية تبحث عن عدو جديد

تزعم أنه يهدد أو قد يهدد مصالحها. فأمام غموض هوية العدو المحتمل برز الإسلام

بالنسبة لها (كعدو قديم) لكنه الوحيد الذي يملك مقومات زعزعة الهيمنة الغربية

بمفاهيمها على العالم بعد انتهاء الحرب الباردة.

من هنا تزايد حرص الدول الليبرالية الغربية على بث أفكار (الرعب من

الإسلام) أو ما يسمونه لديهم بالISlamophobia التي تقدم الإسلام على أنه خطر

يهدد مصالح الغرب والسلام العالمي عموماً، ومحاولة ربط الإسلام بالتطرف والقتل

والتخريب، وتصوير عدوانية الفرد المسلم، والتركيز على قضية المرأة التي

حُرمت على حد زعمهم من معظم حقوقها، ناهيك عن تلك النظرة التي تحمل

تجاهلاً للحقائق الموضوعية بتجنيها على طبيعة نظام الحكم في الإسلام، واعتباره

نموذجاً صرفاً لتمركز السلطة وقمع الرأي الآخر ... وأقاويل أخرى لا نجد معها

حاجة للقول بأنها تحمل تجاهلاً واضحاً لحقائق التاريخ.

ولعل من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى أنه منذ انتهاء الحرب الباردة

ظهرت هناك نظريتان أخذتا قدراً من الشهرة: الأولى لفرانسيس فوكوياما F.

Fukuyama وجاءت إعلاناً لنهاية التاريخ كما أشرنا عند سيادة المفاهيم الغربية

في الديمقراطية واقتصاد السوق على العالم أجمع، والثانية لصموئيل هنتنغتون

Huntington S. وجاءت إنذاراً للغرب بأن عهد ما بعد الحرب الباردة قد فتح

المجال أمام مستقبل لن يكون الغرب وحده فيه السيد الأوحد.

ورغم اختلاف النظريتين في الرؤية كما نلاحظ فإن كلاً منهما قد اشتركتا في

الاتفاق على استعداء الإسلام (العدو القديم الجديد) واعتباره نقيضاً للقيم الحضارية

التي جاء بها الغرب في الديمقراطية وحقوق الإنسان ويسير في اتجاه تعميمها على

العالم.

فبالنسبة (لفوكوياما) نجد أنه يعتبر منطقة الشرق الأوسط على درجة كبيرة

من الخصومة فيما يتعلق بالشأن الديمقراطي، وهذا بدوره عائد إلى الإسلام الذي

تدين به هذه المنطقة (في معظمها) وما يتصف به من (شمولية) فضلاً عن أن توجه

بعض الدول الإسلامية في هذه المنطقة نحو تبني النموذح الغربي في الديمقراطية

إنما يأتي نتيجة حتمية لهذه الصفة، ولذلك فإنه لا يستغرب مطلقاً أن تتخلى تركيا

مثلاً عن تراثها الإسلامي سعياً وراء العلمانية والديمقراطية.

وبالنسبة لهنتنغتون: فإن رؤيته المستقبلية عن تعدد القوى التي يمكن أن

تسود العالم لم تكن لتعني التسليم بمنطق تعدد النماذج الضامنة لحقوق الإنسان، بل

جاءت إعلاناً عن حتمية الصراع القادم الذي سيكون على حد زعمه بين الحضارات: الغربية من جهة والحضارتين الإسلامية والصينية من جهة أخرى، لا سيما أن

هاتين الأخيرتين تملكان مقومات كسر الهيمنة الغربية حضارياً؛ فطبقاً لرأيه فإن

كون البروتستانتية والكاثوليكية وإلى حد ما الكنفوشية قد صنفت في وقت من

الأوقات بأنها معادية للديمقراطية، ثم أثبتت جميعها قدرتها على الاتجاه نحو

الديمقراطية في النهاية، يجعل من غير المحتمل أن يشكل الإسلام أو حتى

الأصولية الإسلامية عائقاً لا يمكن أن تتخطاه العملية الديمقراطية في الشرق الأوسط. ولذلك فإننا نجده يختتم مقالته عن صراع الحضارات بعدد من التوصيات أبرزها

أن تسعى الدول الغربية نحو إحباط أي تحالف أو تعاون قد ينشأ بين الدول

الإسلامية والصين، بل ومحاولة استغلال أي خلاف ينشأ بينهما! !

وعلى الرغم من رفض منطق (صراع الحضارات) حتى من قبل العديد من

الكتاب الغربيين؛ فإن عدداً معتبراً يميل نحو التسليم بمثل هذه المخاوف، لا سيما

المقربون من مراكز صنع القرار، ومنهم Muravchik في مؤلفه عن (حتمية

الزعامة الأمريكية) الذي سبقت الإشارة إليه، عندما ذهب إلى ضرورة أن تحتل كل

من الصين والعالم الإسلامي حيزاً خاصاً من التفكير الاستراتيجي الأمريكي، وأشار

في هذا الخصوص إلى أن دخول التيارات الإسلامية معترك السلطة في تلك الدول

سوف يشكل خطراً كبيراً على المصالح الأمريكية [8] .

خاتمة:

إذا كان الدكتور محمد عابد الجابري قد نظر إلى العولمة على أنها أكثر من

مجرد آلية من آليات التطور التلقائي للنظام الرأسمالي، وأنها تمثل بالدرجة الأولى

دعوة إلى تبني نموذج معين، فإن ذلك حال التعاطي مع حقوق الإنسان بعد انتهاء

الحرب الباردة، بحيث بات يسير على الصعيد الفكري بصورة خاصة في اتجاه

فرض المرجعية الحضارية (الأمريكية) الغربية على خطاب حقوق الإنسان،

ومحاولة تعميمه على العالم بأسره، مستخدماً في ذلك شتى الوسائل بما فيها التجني

والتشكيك في قدرة الأسس المفاهيمية الإسلامية على إيجاد توازن لا تضيع معه

حقوق الأفراد وحرياتهم. ومما تجدر الإشارة إليه هو أن هذا الاتجاه الفكري السائر

في طريق العمل من أجل التفوق الغربي وإظهار مفاهيمه على العالم، هو مما

يستفيد حتى من جهود بعض النخب الوطنية في العالم الثالث المتخرجة من جامعات

الغرب والمؤمنة بمرجعياته (على الأخص في مضمار الديمقراطية ونهج حقوق

الإنسان) كسبيل قويم لخلاص مجتمعاتها من التخلف والتبعية.

لكن من الملاحظ في الوقت نفسه؛ أن الواقع التطبيقي الراهن الذي تهيمن

عليه كما نعلم المصالح الرأسمالية، قد أربك كثيراً حظوظ الطموح الغربي في هذا

الاتجاه؛ لأنه فتح المجال واسعاً أمام فرص الخروج على التقاليد الغربية سياسياً،

وهذا ما تجلى بوضوح في حالة برامج التثبيت والتكييف الهيكلي، التي تصوغها

نخب غربية وتشرف عليها بيروقراطيات غربية أو مستغربة في فكرها الاقتصادي، مما تحقق معه الكثير من المكاسب الاقتصادية بالنسبة للدول الغربية المهيمنة على

كل من صندوق النقد الدولي IMF والبنك العالمي Iرضي الله عنهRعز وجل بالذات فيما فتحته من

فرص أمام شركاتها العملاقة، لكن الاضطلاع بتلك البرامج قد أضفى في معظم

الأحيان على الدول التي أذعنت لاشتراطاتها طابع السلطوية كما أثبت ذلك التجارب؛ بحيث إن إغفال البعد الاجتماعي في تلك البرامج، قد دفع بأفراد تلك الدول إلى

الانفجار اليائس كالذي شهدته أندونيسيا مؤخراً وشهدته من قبلها دول أخرى في

العالم الثالث، والذي يجابه غالباً بالقمع والتنكيل واستصدار التشريعات المقيدة

للحريات العامة، فينتهي الأمر بالفرد أن يجد نفسه محاصراً بين سلطوية الدولة

وديكتاتورية السوق! !

من هنا نستطيع القول بأن سبيل عولمة الفهم الغربي لحقوق الإنسان هو مما

يواجه عقبة التناقضات في النهج الغربي ذاته؛ ذلك أن غياب الديمقراطية وحقوق

الإنسان هما الإطار الضروري لتطبيق تلك الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي لم

تفتح كثيراً من المجال لا أمام الفهم الغربي لحقوق الإنسان ولا أي مرجعية أخرى

في هذا الصدد غير التحكم! مما يجعلنا نتساءل في ظل ذلك كله ما العمل؟

في اعتقادنا قد يبدو أن تحقيق الالتزام القانوني الحقيقي بصكوك حقوق

الإنسان من شأنه أن يجعل من السلوك الغربي بعيداً عن خطاب الهيمنة والتحريك

الانتقائي لانتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأخرى.

على أن تحقق ذلك منوط بتوافر عنصر الجزاء الذي يتطلب استحداث نظام

(حيادي) للتدابير الردعية لاستخدامه ضد الأنظمة التي تنتهك حقوق الإنسان دون

تمييز. ورغم صعوبة تحقق مثل هذا النظام الحيادي المنشود، فإنه وإن تحقق فلن

يكون منصفاً بحق الدول الفقيرة (لا سيما منها الأشد فقراً) التي لا تسعفها مواردها

الذاتية للنهوض حتى بالحد الأدنى من حقوق مواطنيها، وهذا ما يعود بنا من جديد

إلى طرح واقع عدم المساواة التنموية بين الدول بوصفه المعضلة الأكبر التي

يواجهها النهج العالمي لحقوق الإنسان حتى يدخل بصورة فعلية حيز التنفيذ، ومتى

علمنا أن الدول الغربية ترفض أي تعديل في واقع العلاقات الاقتصادية الدولية لا

يأخذ في أولوياته ضمان تفوقها، فإن ذلك يجعلنا نقول وحتى إشعار آخر بأن شمس

العولمة لا تسطع إلا فوق سماء الأغنياء! ! .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015