مجله البيان (صفحة 2914)

الظلم، حقيقته والتحذير منه (1)

دراسات في الشريعة والعقيدة

الظلم ...

حقيقته، والتحذير منه

(1/2)

عبد العزيز الجليل

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا

محمد وآله وصحبه، وبعد: فإن الناظر اليوم في أكثر بلدان المسلمين وأحوالهم

ليحزنه ما ظهر في هذا الزمان من نبذ لشريعة الله عز وجل وتحاكم إلى القوانين

الوضعية التي تقنن الظلم وتهدر قيمة الإنسان، وتحطم القيم والأخلاق وتجعل الناس

مستعبدين لحفنة من شياطين الإنس الذين كرهوا ما أنزل الله تعالى فظلموا وبغوا في

الأرض بغير الحق، وكثرت من جراء ذلك المظالم بين الناس؛ حيث لا رادع من

دين ولا سلطان، وبغى الناس بعضهم على بعض وامتلأت المحاكم ودور القضاء

من خصومات الناس ومظالمهم. ولم يقف هذا الداء العضال عند عامة المسلمين

وسلاطينهم فحسب، بل تعداهم إلى بعض أهل الخير والدعوة فيهم، فظهرت صور

من البغي والظلم بين بعض الدعاة والصّلاّح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي

العظيم.

وفي هذه الدراسة إن شاء الله تعالى ذكرٌ لبعض صور الظلم الشائعة في هذا

الزمان؛ لعل في ذكرها نصيحة وعظة لنفسي وإخواني المسلمين.

وأبدأ الموضوع بمقدمة مهمة تتضمن تعريف الظلم وحقيقته وما ورد في ذمه

من بعض الآيات والأحاديث والآثار.

كما تتضمن بيان أقسام الظلم وما يتفرع عن كل قسم من بعض الصور

والمظاهر.

تعريف الظلم وحقيقته:

(الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه

المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه، ومن هذا يقال:

ظلمت السقاءَ، إذا تناولته في غير وقته ويسمى ذلك اللبن ظليماً. وظلمت الأرض: حفرتها ولم تكن موضعاً للحفر، وتلك الأرض يقال لها: المظلومة، والتراب

الذي يخرج منها ظليم) [1] اهـ

وفي القاموس المحيط: (الظلم بالضم: وضع الشيء في غير موضعه) [2] .

وفي ضوء هذه التعريفات يتبين لنا أن كل ذنب عُصي الله به سواء كان ذلك

الذنب شركاً بالله عز وجل أو دون ذلك من سائر المعاصي ومظالم العباد، داخل في

مسمى الظلم؛ لأنه وضع للشيء في غير موضعه الذي يرضاه الله عز وجل مع

التفريق بين ظلم أكبر وظلم دون ظلم؛ كما سيتبين في المبحث الآتي إن شاء الله

تعالى.

والظلم مصدر ظَلَمَ، والذي يفهم من لفظ الظلم وجود ظالم صدر منه الظلم،

ومظلوم وقع عليه الظلم، فمن هو الظالم ومن هو المظلوم في ضوء الكتاب والسنة؟

إنه هذا الإنسان المسكين؛ فهو الظالم والمظلوم؛ حيث ظلم نفسه وأوبقها،

وظلم عباد الله عز وجل فأساء إليهم وأساء إلى نفسه وظلمها بما يعرضها له من

العقوبات في الدنيا والآخرة. قال الله عز وجل: [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أََنفُسَهُمْ

يَظْلِمُونَ] [البقرة: 57] وقال سبحانه: [سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا

وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ] [الأعراف: 177] وقال تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ

شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] [يونس: 44] .

والآيات الواردة في ذم الظلم وأهله كثيرة جداً ومتنوعة، ويمكن تقسيمها إلى

المجموعات الآتية:

1- ما ورد في وصف الشرك والكفر بالظلم والمشركين والكافرين بالظالمين

ومنها قوله تعالى: [يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان: 13]

وقوله تعالى: [وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] . [البقرة: 254]

2- ما ورد في ذكر خيبة الظالمين ومقت الله لهم وعدم هدايتهم وتوفيقهم يقول

تعالى: [إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] [الأنعام: 21] [فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]

[المؤمنون: 41] .

3- ما ورد في ذكر إهلاك الله تعالى للظالمين في الدنيا وما أعده لهم من

النكال والعذاب في الآخرة. يقول تعالى: [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ

ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] [هود: 102] وقوله تعالى: [وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا

عَذَابَ النَّارِ الَتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ] [سبأ: 42] .

4- ما ورد في وصف ما دون الشرك من المعاصي بالظلم سواء ما كان منها

بين العبد وربه أو ما كان ظلماً للعباد ومنها قوله تعالى: [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ

ظَلَمَ نَفْسَهُ] [الطلاق: 1] وقوله تعالى: [إنَّ الَذِينَ يَاًكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا

يَاًكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً] . [النساء: 10]

5- ما ورد في تنزيه الله تعالى نفسه عن الظلم، وأمره سبحانه بالعدل،

ومحبته للمقسطين يقول تعالى: [وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ] [غافر: 31] ، وقوله

تعالى [وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] [الحجرات: 9] .

أما الأحاديث الواردة في ذم الظلم وسوء عاقبة الظالمين فكثيرة جداً أقتصر

منها هنا على بعض الأحاديث التي وردت في ذم الظلم وسوء عاقبة الظالمين بعامة. ويلاحظ أن معظم هذه الأحاديث كانت تتوجه إلى صورة واحدة من صور الظلم

ألا وهو ظلم العباد والاعتداء على حقوقهم.

ومن هذه الأحاديث العامة ما يلي:

الحديث الأول:

عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -

صلى الله عليه وسلم-: قال الله تبارك وتعالى: (يا عبادي إني حرمت الظلم على

نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا ... ) الحديث القدسي [3] وكان

أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.

الحديث الثاني:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) [4] .

الحديث الثالث:

عن أبي معبد مولى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه

وسلم- بعث معاذاً إلى اليمن فقال: ( ... واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين

الله حجاب) [5] .

الحديث الرابع:

عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

(إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ: [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى

وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] [هود: 102] [6] .

وبعد هذه الأحاديث أذكر جملة من مواقف السلف رحمهم الله تعالى من الظلم،

وخوفهم الشديد من سوء عاقبته في الدنيا والآخرة:

* قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن أبي سَبْرة، عن عبد المجيد بن سُهيل،

عن عوف بن الحارث: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت:

قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك كله وحلّلك الله من ذلك، فقالت: سررتِني سرك الله. وأرسلت إلى

أم سلمة، فقالت: لها مثل ذلك [7] .

* وعن أبي الدرداء قال: (إياك ودعوات المظلوم؛ فإنهن يصعدن إلى الله

كأنهن شرارات من نار) [8] .

* وقال ميمون بن مهران: (الظالم والمعين على الظلم والمحب له سواء) [9] .

* وقال الشافعي رحمه الله تعالى: (بئس الزاد إلى المعاد العدوان على

العباد) [10] .

أقسام الظلم:

يتفاوت الظلم من حيث شدته وعظمه وشناعته ومن حيث الجهة التي وقع

عليها، مع أن من صدر منه الظلم هو في حقيقته ما ظلم إلا نفسه؛ لأنه أوبق نفسه

بظلمه لها بالمعاصي ومظالم العباد.

وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث اختلف العلماء في صحته؛

فمنهم من ضعفه ومنهم من صححه، لكنه يُستأنس به في هذا المجال وبخاصة أنه

صحيح المعنى، وقد اعتمده كثير من السلف في ذكر أنواع الظلم وصوره. ونص

الحديث: عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الظلم ثلاثة:

فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه؛ فأما الظلم الذي لا يغفره الله

فالشرك، قال الله: (إن الشرك لظلم عظيم) ، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد

أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم

بعضاً حتى يدير لبعضهم من بعض) [11] .

وفي ضوء هذا الحديث وما ذكره العلماء حول أنواع الظلم فإنه يمكن تقسيم

الظلم إلى قسمين كبيرين يندرج تحتهما أنواع الظلم الثلاثة المذكورة في الحديث،

وهذان القسمان هما:

1- الظلم الأكبر: وهو ظلم العبد نفسه بالكفر والإشراك بالله عز وجل.

2- الظلم الأصغر: وهو ما دون الشرك، وهو نوعان:

(أ) ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين الله عز وجل.

(ب) ظلم النفس بمظالم العباد والتعدي على حقوقهم.

والكلام الآن حول هذه الأنواع الثلاثة:

1- ظلم النفس بالظلم الأعظم؛ وهو الإشراك بالله عز وجل.

2- ظلم النفس بظلم العباد.

3- ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين ربها عز وجل [12] .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

(والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله

منه شيئاً، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وديوان لا يترك الله

تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً؛ فإن الله تعالى يستوفيه كله،

وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل فإن هذا

الديوان أخف الدواوين وأسرعها محواً؛ فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات

الماحية والمصائب المكفرة ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك؛ فإنه لا يمحى إلا

بالتوحيد، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها،

ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرّم الجنة على أهله، فلا

تدخل الجنةَ نفسٌ مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد؛ فإن التوحيد هو مفتاح بابها،

فمن لم يكن معه مفتاح لم يُفتح له بابها، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن

الفتح به) [13] .

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: [فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ

بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ

وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 81، 82] .

(قال الله تعالى فاصلاً بين الفريقين: (الذين آمنوا ولم يلبسوا) أي: يخلطوا

(إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأمن من المخاوف، والعذاب والشقاء، والهداية إلى الصراط المستقيم.

فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقاً، لا بشرك، ولا بمعاصي، حصل لهم

الأمن التام، والهداية التامة، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم

يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم

كمالها. ومفهوم الآية الكريمة: أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم

هداية، ولا أمن بل حظهم الضلال والشقاء) [14] .

والحاصل مما سبق أن من كان ظلمه من جنس الظلم الأعظم والذي هو

الشرك بالله عز وجل والكفر به سبحانه ومات منه بلا توبة فقد خاب الخيبة الأبدية، وحرم مغفرة الله عز وجل وجنته، ومأواه جهنم خالداً فيها وبئس مثوى الظالمين.

ومن كان ظلمه دون ذلك فإنه يسلم من الخلود في النار بما معه من الإيمان. ولكن

إن كان ظلمه هذا متعلقاً بحقوق العباد ومات دون أن يرد الحقوق إلى أهلها فإن

أمامه القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات، وقد يتعرض بسبب ذلك للعذاب

والتطهير. وإن كان ظلمه لنفسه بمعاصي بينه وبين الله عز وجل ومات منها بلا

توبة، فإن كانت من الصغائر فإنها تكفرها الصلاة والقيام والحج وغيرها، إذا

اجتنبت الكبائر وإن كانت من الكبائر فإن صاحبها تحت المشيئة إن شاء الله عاقبه

بها، وإن شاء عفا عنه بنحو الأسباب التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في

مجموع الفتاوى [15] ، ومن ذا الذي يقطع بمغفرة الله عز وجل؟ ومن ذا الذي

يطيق ولو لحظة واحدة في نار جهنم؟

وبعد هذه المقدمة عن الظلم وأقسامه نفصل القول إن شاء الله تعالى في ذكر

جملة من الصور المختلفة لكل قسم من أقسام الظلم، وبخاصة ما ظهر منها وشاع

في زماننا اليوم لعلنا نحذرها أو نتخلص منها إن وجدنا أنفسنا قد تلبسنا بها. وهذا

موضوع الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015