ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
سيف السياسة..
بين نصرة الحق.. ومظاهرة الباطل
عبد العزيز مصطفى
عبادة الأضرحة والقبور شرك لا شك فيه، ومنكر عقدي تتضاءل بجانبه
ومقارنة به المنكرات العملية الأخرى؛ فهو المنكر الذي ينبغي ألا تلين لأهل
التوحيد قناة في إنكاره بالقلب واللسان واليد ... والمنكر الذي لا يسع العامة السكوت
عليه، ولا الخاصة التغافل عنه ...
فهو يزداد ويقوى بضعف الإنكار وقلته، ويمحق ويضعف بقوة الإنكار وشدته.. وواجب الإنكار هذا؛ ليس مفروضاً على الأفراد فقط، ولا هو مسؤولية
الحكومات فحسب، بل هو واجب مشترك على كلٍ بحسبه، وكل بمقدار استطاعته
ووسعه.
والذي لا شك فيه أن قدرات الحكومات والدول على إنكار مثل هذه المنكرات
لو حصل فإنه يكون أوقع للأثر المطلوب وأقطع لدابر الفتنة، وأمنع لذرائع الشرك، وهذا ما تعلمناه من قول عثمان رضي الله عنه: (إن الله يزع بالسلطان، ما لا
يزع بالقرآن) ... وهذا تعلمناه أيضاً من درس التاريخ الذي يُجمل لنا بمجموع
قصصه حقيقة مؤداها: أن الحق لا ينتصر لمجرد أنه حق، بل لا بد من قوة تسنده
وفئة تعاضده وأنصار يقومون به.
ولهذا لمّا شرع الله تعالى الجهاد قال: [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن
لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ] [محمد: 4] ، ولهذا أيضاً شرع الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وجعله عنواناً لخيرية الأمة المسلمة المنتصرة للحق.. [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]
[آل عمران: 110] ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن، وظيفة أمة، ومسؤولية أفراد ودولة، بل هو ألصق بالدولة في بعض الأحيان من الأفراد. فهذه الفريضة أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من وظيفة الدولة في الإسلام، فهي ليست مجرد جهود شخصية من بعض المتطوعين أصحاب النوايا الحسنة، وليست أصواتاً تعلو فوق المنابر تخاطب البناء التحتى للمجتمع الذي لا يملك حولاً ولا قوة حيال المنكرات والمفاسد المدخولة ... لا، ليس الأمر كذلك، ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن من أركان خطة الدولة في الإسلام، وهو الشعيرة التي تمثل الأرضية التي تنطلق منها السياسات التعليمية والإعلامية والاجتماعية وغيرها.
ومعلوم أن هناك منكرات لا تكفي لها جهود الأفراد، ولا هبّات المجموعات،
وإن كان ذلك مطلوباً بل لا بد فيها من سلطة تملك، وقوة تتحرك، ودولة تتصرف؛ فتغيير مثل هذه المنكرات والتمكين للمعروف الذي يناقضها، هو أحد أغراض
الولاية العامة، بل هو أهمها.
فالحكام إنما ينصّبون في الإسلام لولاية الأمر، وهو الدين. والدين لا يقوم
إلا بالأمر به والنهي عن ضده، يقول ابن تيمية رحمه الله (.. وولي الأمر إنما
ينصّب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان
الوالي يمكّن من المنكر، كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على
عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً يجاهد به في سبيل الله، فقاتل به
المسلمين) [1] .
لا بد إذن من سلطة تنصر الحق وتقمع المنكر، وهذا ما دل عليه القرآن
أيضاً، في قول الله تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ] [الحديد: 25] (فالكتاب والميزان هما ما نُقل صدقاً،
وما شُرع عدلاً لإقامة الناس على شريعة الحق اتباعاً للرسل، فمن أبى جعل الحديد
رادعاً لكل معاند بعد قيام الحجة) [2] .
وإذا كان لا بد من إنكار المنكر والأمر بالمعروف، فإن أنكر المنكرات هو
الشرك، كما أن أعرف المعروفات هو التوحيد، ولذلك كانت دعوة الأنبياء جميعاً
في جوهرها أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك ... فقد قاوموا الشرك بكل صوره بكل
ما آتاهم الله من قوة في العلم والبيان والنطق واللسان والسيف والسنان.
وعندما نستعرض أخبار هؤلاء الأنبياء في تعاملهم مع واقع المنكرات العظيمة
الموجودة في عصورهم، نرى حقيقة ماثلة، تستلفت الانتباه، وهي: أن جهودهم
في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، كانت تحتاج دائماً إلى نصرة، وأحياناً إلى سُلطة، فبعض هؤلاء الأنبياء كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بمفرده، أو مع فئة
قليلة معه، كنوح وإبراهيم وهود وصالح، ومنهم من صارت له قوة وشوكة،
وأنصار وسلطة، كيوسف وموسى وداود وسليمان ومحمد صلوات الله عليهم
أجمعين فهل كانت دعوة الحق قبل التمكين كحالها بعد التمكين؟ وفي المقابل: هل
كان المنكر المنتصر بالقوة والمستعلن بالسلطان، كالمنكر المخبوء في أوكاره،
والمتخفي بأفكاره؟ ! .. لا يستوون..
فإذا جئنا إلى رسالة النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم-، نراه يبطل
الشرك منذ مبدأ بعثته، ويسفّه أحلام المشركين، ويحقّر آلهتهم، لكنه لم يُعطَ في
البداية إذناً بالتغيير، ولم يؤيّد في مكة قبل الهجرة بالسلطان، ولهذا كان يأتي الكعبة
عابداً ناسكاً ... لا يستطيع أن يمس أصنام المشركين المحيطة بالكعبة، وفي سائر
البلد الحرام، بل في سائر الجزيرة. ولكن ... ماذا كان الأمر عندما مكّن الله له،
وجعل له السلطان على أهل مكة بعد الفتح ... ؟ إنه لم يتأخر عن تغيير المنكر
الأكبر في مكة؛ فلم يكد ينتهي من صلاة الظهر يوم الفتح، إلا وهو يصدر الأمر
بأن تكسّر الأصنام وتحرّق، وكان يشارك بيده الشريفة في ذلك..
لقد كان بمكة يومها من الأصنام ما يبلغ ثلاثمائة وستين صنماً، منها أصنام
حجرية وأوثان شجرية، ولم تشرق الشمس بعدها على صنم يُعبد في مكة ما دام
للحق فيها سلطان.
ولقد استؤنفت المسيرة بعد ذلك في حرب الشرك والوثنية في كل الجزيرة
العربية، حتى لا يبقى فيها دينان ... وعندما بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم-
معاذاً إلى اليمن كي يلي أمر أهلها؛ قال له: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا
صورة إلا طمستها) [3] .
لقد كانت مظاهر الشرك والوثنية مقموعة ممنوعة في أرض الإسلام طيلة
عهود الخير وقرون التفضيل، في عصور الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهكذا ظل
الأمر في كل عهد كان لأهل الحق فيه صولة ودولة.
فالحق يظهر دائماً بظهور أهله ... ويخفى ويضعف بخفتهم وضعتهم..
نحن في حاجة إلى أن نتجول في مسارب التاريخ ومدارات الزمن، لنستيقن
من هذا السَنَن، فلو ألقينا نظرة على سيرة المصلحين من أتباع الأنبياء، لوجدنا في
قصصهم عظة كما أن في سير النبيين عبرة.
أمامنا نموذجان لدعوات رامت الإصلاح واستهدفت إقامة شعائر الدين،
وجعلت التمكين للتوحيد غايتها ورايتها.
النموذج الأول: هو دعوة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله.
النموذج الثاني: هو دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
أما دعوة ابن تيمية، فكما نعلم أنها جاءت في ظروف تاريخية حرجة، جابه
سلطان الإسلام فيها أعظم الأخطار؛ فالمغول من بعد الصليبيين؛ واجهت الأمة بهم
فتناً دهماء بكماء صماء، وقد ولد ابن تيمية رحمه الله في أيام حكم المماليك الذين
كانت دولتهم تضم ما يمثل في عصرنا مصر وسورية ولبنان وفلسطين، وكانوا قوة
لا يستهان بها في ذلك الوقت بالرغم من الضعف العام الذي انتاب بقية أجزاء العالم
الإسلامي. وكان ابن تيمية مدركاً لطبيعة عصره، متفهماً لحقيقة الصراع، وكان
على يقين بحاجة الأمة في مصر والشام إلى ولاية شرعية عامة، تقف وراءها
لمواجهة الفتن، ولم يكن أمامه من يصلح لتمثيل تلك الولاية إلا المماليك، فقد رأى
فيهم قوة للدين بالرغم من مثالبهم المتعددة، فأعطاهم تأييده المشروط وهو: الطاعة
في المعروف.
لقد استطاع هؤلاء المماليك أن يؤسسوا حكماً مستقلاً، فكانوا بذلك أملاً في
الخروج من المحنة، ورأى ابن تيمية المصلحة في شد أزرهم وتقويم اعوجاجهم
وتقويم الأمة بهم حتى تتعافى أمام الصعاب.
والمتأمل في سيرته رحمه الله يرى أنه كان يستمد من تلك السلطة العون بعد
الله في إنكار المنكرات، ومواجهة أصحاب البدع والمحدثات، الذين زادوا الأمة
ببدعهم وهناً على وهن.
وبالنظر إلى عداوته الشديدة لهؤلاء المبتدعة وأمثالهم من الأحمدية
والكسروانية والحشاشين، فقد (سعى جاهداً لإزالتهم من الوجود، وحث السلطة
على إبادتهم قدر الإمكان) [4] .
وقد أعلن حرباً لا تعرف الهوادة ضد فكر الصوفية الغلاة، وخاصة (ابن
عربي) الملحد، فلم يدخر وسعاً في تفنيد آرائه ونقض أفكاره، وكذلك إقناع الحكام
بوضع حد لسريان خدعه وبدعه وضلالاته التي كانت تسري في العامة سريان النار
في الهشيم.
لقد رأى ابن تيمية أن أوضاع المسلمين تسير نحو الأسوأ إذا تُرِكَ أمثال
هؤلاء الذين يوجهون الأمة نحو الشعوذة والسحر والخرافة ... بما ينتهي بهم إلى
ضروب من البدع الاعتقادية الشركية ...
ولم يشأ أن يقصر جهده على مقاومة العدو الخارجي، بل كان على يقين أن
عدو الداخل من المنافقين، هو السند والمعين لعدو الخارج [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ]
[المنافقون: 4] .
لقد رأى غلاةَ الصوفية يستغلون ضعف العلم والإيمان في طبقات من الناس
فيغرونهم بأفكار عن وحدة الوجود ووحدة الشهود، وكرامات الأولياء ومنازل
الأقطاب وقداسة الأضرحة والأعتاب..
فتصدى لهم وكان لهم بالمرصاد في دمشق ومصر.
وقد كان من حسن حظ المسلمين في ذلك العصر، أن بعض الولاة بالرغم من
مثالب كثيرة عندهم كانوا يكنون للعلماء احتراماً، ويمكنون لهم في دعوتهم، ويرون
لهم حقاً في توجيه مسار الأمة. وكان ابن تيمية بدوره يعطي لهم ما أرادوا من
الطاعة في غير معصية، ويستعين بهم بعد الله في إنكار المنكرات وإظهار الشعائر
وإقامة الدين.
وكان يقول في ذلك: (يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات
الدين، بل لا قيام للدين إلا بها) [5] .
وكان يستصحب هذا المفهوم النظري في تطبيقه العملي، ففي عام خمس
وسبعمائة خرج ابن تيمية مع طائفة من جيش المسلمين في صحبة نائب السلطنة،
فساروا في بلاد تسيطر عليها طائفة غالية من الروافض، فغزوهم وانتصروا عليهم
بإذن الله، وهلك كثير من فرقتهم الضالة وعاد نائب السلطنة إلى دمشق وفي
صحبته ابن تيمية وجنود الجيش [6] .
وكان قد قام قبل ذلك بأمر من قبيل إنكار المنكر باليد، فذهب إلى مسجد
يسمى (التاريخ) وعمد هو وأصحابه إلى صخرة مجاورة للمسجد على ضفاف نهر،
كان الجهال يزورونها ويفعلون عندها الأفاعيل الشركية، فاصطحب معه حجّارين،
وتعاون هو وأصحابه معهم في تحطيمها وتقطيعها. قال ابن كثير: (فأزاح عن
المسلمين شبهة كان شرها عظيماً، وبهذا وأمثاله حسده الأعداء، وأبرزوا له
العداوة) [7] .
والنموذج الثاني الذي سنعرض له، هو نموذج دعوة الشيخ محمد بن
عبد الوهاب، فقد كانت الفترة التي عاصرها (مطلع القرن الثاني عشر الهجري) فترة انتكاس في الفطر، وارتكاس في العقائد؛ ذلك أن مظاهر الشرك الجلي قد ظهرت في مواطن كثيرة من بلاد الإسلام، وتمثل هذا الشرك في تحول فئام من الناس إلى عبادة الأولياء والصالحين أمواتاً وأحياءً؛ فكل ما يجب أن يصرف لله تعالى من العبادات القلبية والعملية، كان يصرفها أولئك للمقبورين بزعم أنهم كانوا صالحين، فاستغاثوا بهم في النوازل ونذروا وطافوا وتمسحوا بآثارهم ومدافنهم، بل تعدى الأمر إلى الشرك بالجمادات كالأحجار والأشجار.
وقد كان في بلاد نجد من تلك الانحرافات ما قض مضجع الشيخ وأنقض
ظهره، فلم ير لنفسه عذراً في السكوت على هذا الشر المنتشر في الآفاق.
ففي (الجبيلة) كان الناس يقصدون قبر (زيد بن الخطاب) رضي الله عنه
ويدعونه لتفريج الكرب وكشف النوب، فعكف الناس على عبادتها، وصارت لعبادة
تلك المقابر أعظم المنزلة في صدور الناس رغباً ورهباً، وكان في أسفل الدرعية
غار كبير يزعم الجهال أن الله تعالى شقه في جبل لإنقاذ امرأة من بعض الفسقة
الذين أرادوها بسوء، فكان الجهلة يرسلون إلى الغار وهو أحجار اللحم والخبز
وصنوف الهدايا. وفي شعيب (غبيرة) كان الناس يأتون من المنكر ما لا يعهد مثله
عند قبور الصالحين. وخاصة عند القبر الذي يزعمون أن فيه (ضرار بن الأزور)
وكانت طوائف من الخلق تأتي إلى شجرة (الطرفية) فيتبركون بها ويعلقون الخرق
عليها إذا رزقوا ولداً لعله يسلم من الموت!
هذا في بلاد نجد، أما في بلاد الحجاز، فلم يكن الأمر بأقل سوءاً من هذا؛
ففي مكة كانت تعلو الاستغاثات والأدعية عند قبر (أبي طالب) وقبر (المحجوب)
وكان تعظيم هذين القبرين يفوق تعظيم الكعبة عند كثير من الجهال؛ حتى إن
السارق أو المعتدي أو الغاصب إذا لجأ إلى أحد هذين القبرين لم يتعرض له أحد بما
يكره، أما إن تعلق بالكعبة فإنه يسحب فيها بالأذيال؛ تفريطاً منهم بحقها.
وكذلك كانت ترتكب الشنائع الاعتقادية والأخلاقية عند قبر (ميمونة بنت
الحارث أم المؤمنين) رضي الله عنها في (سَرِف) وكذلك عند قبر أم المؤمنين
(خديجة) رضي الله عنها في (المعلاّة) .
وفي الطائف كان قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يُتخذ مزاراً يقف
أمامه المكروبون مستغيثين، والخائفون متضرعين، وأصحاب الحاجة والمسألة
داعين مسترزقين.
أما في المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فقد خالف الناس
سنته، واتخذوا قبره عيداً، وهو الذي برئ من ذلك وقال (اللهم لا تجعل قبري وثناً
يعبد) [8] .
ولكن تلك المظاهر الوثنية التي حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- منها
تسللت إلى جزيرة الإسلام، وأبت إلا أن تشوه نقاء التوحيد فيها، وحق على بعض
أهلها قول الرسول: (لا تقوم الساعة حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) [9] .
فتعددت البقاع التي يعصى فيها الله بتلك الموبقات. فإلى جانب ما ذكرنا كانت
ذرائع الشرك تقام على نطاق كبير في الأماكن المحيطة بالمدينة، وفي المزارات
التي تكثر فيها مقابر الصحابة، في قباء والبقيع وغيرها.
أما في جدة، فقد بلغ الضلال والفحش غايته عند القبر المزعوم أنه لحواء
عليها السلام فكانت تجبى إليه الأموال كل عام، ويأكل السدنة عنده أموال الناس
بالباطل ويصدون عن سبيل الله [10] .
وإذا كانت هذه بعض مظاهر الانحراف داخل الجزيرة العربية مهد الإسلام فما
بالنا بما كان خارجها من الانحرافات؟ !
المقصود هنا أن مظاهر الانحراف في العقيدة عمت تلك الجزيرة إلا من رحم
الله. ولكن لطف الله استنقذ الناس من هذه الوهدة بمحمد بن عبد الوهاب رحمه الله
فقد قام بوجه الفتنة كأمة وحده، ونافح ودافع عن عقيدة التوحيد الخالص لينقيها
ويصفيها من شوائب الشرك وأدران الوثنية.
ونتساءل هنا: أكان بوسع الشيخ أن يصمد أمام طوفان الانحرافات بمجرد
كلمات وعظية أو خطب منبرية ونصائح وقتية فحسب؟ ! الجواب الذي لا شك فيه
أن لا! ... إن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد سار وفق سيرة رسول الله محمد
ابن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قام يطلب النصير لدعوته: (من يحميني
حتى أبلغ دعوة ربي) [11] . وهذا ما سارت عليه كل الدعوات الإصلاحية في
تاريخ أمة الإسلام بعد ذلك.
كان مبدأ تحرك الشيخ لمحاربة مظاهر الشرك عندما عرض على رئيس بلدة
العيينة (عثمان بن حمد بن معمر) الدعوة، فاستجاب لها واتبعه عليها وناصره فيها، وألزم الخاصة والعامة أن يستجيبوا إليها.
عند ذلك لم يجد الشيخ مناصاً من التحرك العملي بهؤلاء الأنصار لتغيير
المنكرات الشركية، وبدأ بالعيينة نفسها، لقد انطلق مع نفر من الأتباع المخلصين
فخلصوا العيينة مما كان فيها وحولها من القباب والمشاهد والمساجد المبنية على
قبور الأولياء والصالحين، وكذلك قطعوا الأشجار التي كان الناس يعظمونها
ويتبركون بها.
وكان الشيخ هو الذي تولى بنفسه هدم القبة المقامة فوق قبر زيد بن الخطاب،
وسوّاها بالأرض امتثالاً للأمر النبوي لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن.
ولقد كان لهذه الأعمال الإصلاحية وقع الصاعقة على المنتفعين بالانحراف في
البلدان المجاورة، وخاصة أصحاب السلطان منهم، فلقد خافوا من تلك الدعوة
وتأهبوا لمواجهتها، ولكن الشيخ لم يأبه بهم، وظل على سيرته في الدعوة العلمية
والعملية، إلى أن انتكس والي العيينة بعدما هدده والي الأحساء، وطلب منه التخلي
عن الشيخ.. هنا وجد الشيخ أن دعوة مثل دعوته لا يمكن لها أن تقبع داخل أسوار
بلدة بعينها، لا العيينة ولا غيرها، فترك العيينة، وانتقل إلى (الدرعية) فوجد من
واليها (محمد بن سعود) التأييد والنصرة، مما شجعه على المضي في دعوته..
وهنا أمر لا بد من التنبيه عليه، وهو أن الشيخ رحمه الله وجد أن للقبورية
الوثنية أنصاراً يدافعون عنها، ويتشبثون بها، ويظهرون كامل الاستعداد للذود عنها
بالدم والروح بعد المال والجاه! ظهر له ذلك من موقف جمهرة الكبراء في البلدان
المحيطة الذين بادروا دعوته بالعداء حتى قبل أن يسمعوها أو يفهموها!
وهنا لم يعد الأمر متعلقاً بمظاهر من الانحراف تحتاج إلى محتسبين من
الآمرين الناهين فقط، بل رأى هذا الانحراف واقعاً مستقراً، تقوم عليه مصالح،
وتؤسس عليه زعامات ورئاسات تقاوم وتساوم عليه، بل تجاهد وتكابد من أجله..
فلم يكن بُد والحالة هذه من أن يواجه العناد بالجهاد، ولهذا انتقل الشيخ من مرحلة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مرحلة الجهاد ... ! .
أجل.... (لقد بقي رحمه الله يدعو إلى سبيل ربه بالحجة الواضحة
وبالموعظة الحسنة، فلم يبادر أحداً بالتكفير، ولم يبدأ أحداً بالعدوان؛ بل توقف
عن كل ذلك ورعاً منه وأملاً في أن يهدي الله الضالين، إلى أن نهضوا عليه
جميعهم بالعدوان وصاحوا في جميع البلاد بتكفيره هو وجماعته، وأباحوا دماءهم،
ولم يُثبتوا دعواهم الباطلة بالحجة من كتاب الله أو سنة رسول -صلى الله عليه
وسلم-، ولم يكتفوا بما ارتكبوه بحقه من الزور والبهتان، وما اتبعوه من وسائل
لإجلائه وجماعته عن البلاد، ومطاردتهم بالتعذيب والاضطهاد، أجل، لم يأمر
رحمه الله بسفك دم ولا قتال على أكثر أهل الضلال والأهواء، حتى بدأوه بالقتل
والتكفير، فأمر الشيخ حينئذٍ بالجهاد، وحض أتباعه عليه فامتثلوا الأمر) [12] .
لقد ظلت دعوة الشيخ ثابتة على هذه الخُطا ... تأمر بالمعروف وتمكّن له،
وتنهى عن المنكر وتتمكن منه وتقضي عليه ... ففتح الله له ولأتباعه كثيراً من
البلاد، ودان له ساكنوها من العباد، ذلك في حياته ومن بعد وفاته.
وفي مقابل كل ما ذكرنا من الدلالات والشواهد على أن القوة السياسية لها أبلغ
الأثر في إخماد الباطل ومنكراته العملية، نذكر بلمحات تدل على العكس، وهو أن
القوة السياسية عندما تزيغ بها الأهواء، وتتفرق بها السبل عن الكلمة السواء ...
فإنها تنزل بكل ثقلها في خندق الباطل، لتساهم معه في تسديد سهام الشك والإيهام.. ورماح الشر والشرك والحرام على قلوب العوام ... !
وفي تاريخ أمتنا من الشواهد على ذلك الكثير والكثير ...
سنتجاوز تلك الدول التي قامت أصلاً على البدع والخرافات، وغرستها غرساً
في أرض الإسلام، كالدولة العبيدية الرافضية (الفاطمية) وممالك الفرق الباطنية
الأخرى كالقرامطة والإسماعيلية والحشاشين والبويهيين وغيرها مع خطورتها
وعظيم ضلالها وانحرافها.
ولهذا سنقفز فوق معابر التاريخ إلى العصور الحديثة ... العصور التي
يفترض أنها تناوئ الهرطقة، وتناقض الشعوذة.. وتحارب الدجل.
هل نأت الثقافات عن الخرافات؟ ... هل تخلت السياسات في هذا العصر
عن نصر الخزعبلات أو الاستنصار بها؟
للأسف ... إننا سنسمع من التاريخ الحديث حديثاً، لا يختلف عما أخبرنا به
التاريخ القديم ... فالحِلْفُ غير المقدس بين الخرافة والسياسة لا يزال قائماً ...
فكلاهما يخدم الآخر ويقايض به..
إننا سنبدأ بمرحلة متقدمة نسبياً في التاريخ المعاصر، وهي مرحلة الدولة
العثمانية، خاصة بعد أن أصابتها أدواء الأمم، لقد زاد توغل واتساع الطرق
الصوفية في تلك الدولة في مراحل انحدارها، مما كان له أثره الضار على شرائح
كبيرة من المجتمعات الإسلامية التابعة لها في مصر والشام وبلاد المغرب والحجاز
والعراق وغيرها، وزاد الطين بلة أن السلاطين العثمانيين كانوا يتخذون من مشايخ
الطرق خاصة الطريقة النقشبندية مرجعية دينية، فظلت للصوفية هيمنتها وسيطرتها
على العامة من الناس، وظلت للخرافة والبدع بذلك تأثيراتها عليهم.
استمر هذا حتى بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث احتضنت سلطات الاحتلال
الأجنبي الطرق الصوفية في البلاد التي بسطت سلطانها عليها.
وعمل بعض أولئك على رد الجميل للمحتلين، فكانوا يضفون الشرعية على
وجودهم ويسوّغون للناس بقاءهم، ووصل الأمر إلى أن بعض مشايخ الصوفية في
مصر، قاموا بجمع توقيعات أثناء ثورة 1919م تطالب ببقاء الإنجليز في مصر!
وكان من هؤلاء شيخ الطريقة (السمانية) : محمد إبراهيم الجمل. لقد أدرك الإنجليز
أن الطرق الصوفية تلعب دوراً مهماً من خلال مزاولة أنشطتها بين الطبقة العامة
من الشعب، فالصوفية بدعوتها الظاهرية إلى الزهد وترك مباهج الحياة
والانصراف عن الدنيا، يمكن أن تضفي الصبغة الدينية على موقف الخنوع
والخضوع للمحتل الأجنبي بخلفيات قدرية اتكالية استسلامية، ولهذا حرصت
سلطات الاحتلال في مصر وغيرها على إطلاق يد الطرق الصوفية في ممارسة
أنشطتها، وقد ساعد على ذلك سيطرة سلطات الاحتلال على وزارة الداخلية مما
مكنها من السيطرة على تلك الطرق ومعرفة تحركاتها وأساليبها وتوجيهها إلى
الوجهة التي تضمن للمحتل خدمات أكثر.
سنأخذ من مصر مثالاً على العلاقة بين السياسة والخرافة، وسنرى أنه كان
في مصر كما في بلاد كثيرة غيرها ذلك الحلف غير المقدس بين هاتين القوتين.
لقد كانت الصوفية في عهد الملكية المصرية، تضفي طابعاً دينياً على
المناسبات المتعلقة بالحكام، حتى تلك المناسبات الخاصة منها؛ فكان مشايخ الطرق
يعدون العدة مثلاً للاحتفال بعيد ميلاد الملك، الذي يبدأ من صلاة الفجر بالمواكب
التي تجوب الشوارع بالرايات والشارات، وكانت المشيخة العامة تصدر منشوراً
عاماً يوزع على الطرق في هذه المناسبة، وتتصل بمأموري المراكز لحماية تلك
المواكب، وكانوا كذلك يحرصون على إحياء الذكريات الحزينة لوفاة من يموت من
الأسرة الملكية، كذكرى اليوم السابع ويوم الأربعين، والذكرى السنوية الأولى
والثانية والثالثة ... إلخ. وكانت بعض الطرق الصوفية بدورها تتلقى المكافأة على
تلك المداهنة إلى حد يوصلها إلى المنزلة والقربى بل تتعداها أحياناً إلى السطوة
والسيطرة على ساحة التوجيه.
ماذا كان يعني هذا النفوذ لهذه الطريقة أو تلك في أوساط المسؤولين السياسيين؟!
إنه يعني ضمن ما يعني أن تبسط الحماية (الرسمية) على تلك الطرق
ورموزها وأفرادها وأملاكها ومصالحها ... وأهم من هذا وذاك ... تؤمن لها طرق
الانتشار الآمن في أوساط العامة.. والخاصة أيضاً! وهذه الحماية الرسمية لأرباب
الصوفية؛ أحد الأسباب الرئيسة في انتشار الفكر الصوفي وتغلغله في بلد كمصر
في ذلك الوقت..
لا نستطيع أن نجزم بقناعة السياسيين الدينية بهذه الطرق في كل حال، ولكننا
نجزم بأنهم كانوا يستفيدون منهم غاية الاستفادة، وفي أدق وأخطر المسائل المتعلقة
بالسياسات العليا أحياناً.
ومن الأمثلة الصارخة على هذا، أن الملك فؤاد عندما تطلع إلى تولي منصب
(الخلافة) في أعقاب إلغاء الخلافة العثمانية في تركيا، صدّر لهذه المهمة الشيخ
(محمد ماضي أبو العزايم) أحد مشايخ الطرق المشهورين في مصر في ذلك الوقت.. ولكن جهود الملك لإعلان نفسه خليفة لم تكلل بالنجاح بعد ذلك، لأسباب كثيرة
منها تخلي أبي العزايم نفسه عن هذه الدعوة لصالح الملك فؤاد، وانتهى الأمر بوفاة
الملك دون أن يحقق هذا الأمل. وجاء بعد فؤاد ابنه فاروق، وظلت آمال أبيه
تداعبه، ومن أجل ذلك سعى لدى نقيب الأشراف في مصر في ذلك الوقت (علي
أحمد البيلاوي) كي يبحث له عن أية وسيلة للربط بين أسرة محمد علي (الألبانية)
التي جاء منها فؤاد وفاروق وبين النسب النبوي الشريف! !
وبالفعل شكل نقيب الأشراف هذه اللجنة وكان صوفياً وجعل تلك اللجنة تحت
إشرافه، وفي عضويتها جمع من مشايخ الطرق وبعض الأزهريين والشخصيات
العامة وكان الهدف المعلن من تشكيل اللجنة إثبات نسب الأسرة المالكة بالنسب
النبوي الشريف.
لم تكن الحكومات فقط هي التي تستعمل الصوفية مستغلة لها في كل أغراضها، بل كذلك كانت الأحزاب السياسية المعارضة، حتى ذوات الصبغة ا?علمانية الفجة
منها.
فحزب الوفد العريق في علمانيته، كان يعتمد على بعض الطرق الصوفية
لحشد التأييد الشعبي له، وكان من هذه الطرق (الطريقة البغدادية) وشيخها (سيد
عفيفي البغدادي) واستتل أيضاً الطريقة العفيفية وشيخها: (عبد العزيز عفيفي) وهذه
الطريقة تولى مشيختها بعد وفاة شيخها أحد أعضاء حزب الوفد وهو (أحمد الساكت) ، وقد بذل زعيم الوفد (مصطفى النحاس) جهوداً لترشيح عضو الوفد (أحمد
الصاوي) شيخاً لمشايخ الطرق الصوفية بمصر!
ولما انتهى العهد الملكي في مصر، كان لضباط الثورة مواقف خاصة بهم
لضمان ولاء الطرق الصوفية لهم ... لقد كانت الثورة تنظر نظرة عدائية لأي نشاط
إسلامي حر، باستثناء الطرق الصوفية؛ حيث اعتبرتها أداة لفريق الثورة الذي كان
يستهدف فرض الاشتراكية الإلحادية لا في مصر وحدها، بل في المحيط العربي
كله.
وأصبح للطرق الصوفية مجلة تصدر عن مجلسهم الأعلى، وكانت شبه ناطقة
باسم الحكومة، ومسوّغة لكل إجراءاتها الثورية الاشتراكية.
لقد وجد كثير من الناس في الطرق الصوفية سبيلاً إلى ممارسة التدين بطريقة
مأمونة تحت المظلة الحكومية، فانتعش الوجود الصوفي الطرقي في تلك الحقبة،
بكل ما يعنيه وما يترتب عليه من انتشار الخرافة والدجل والبدعة التي لا يؤمن بها
الثوريون أصلاً ولا بغيرها من قيم الدين الصحيحة، ولكنهم وجدوا في الصوفية
ضالتهم لإفراغ الإسلام من محتواه الإصلاحي الحقيقي، وليصنعوا منه خادماً
لأصول الاشتراكية الثورية.
لقد اتسع انتشار الصوفية في بدايات عهد الثورة، حتى إن المجلس الصوفي
الأعلى لم يكن بمستطاعه وحده أن يشرف على أنشطة الصوفية، فدفعت السلطة
بحزبها السياسي الوحيد في ذلك الوقت وهو (الاتحاد الاشتراكي) لكي يستغل
احتفالات ونشاطات الصوفية ليوزع المنشورات ويطلق الشعارات وربما الشائعات
للدعاية للنظام.
وظلت السلطة مستمرة في دفع عجلة الصوفية للأمام على حساب الاتجاهات
الدعوية الأخرى، حتى إنها صدّرت رجلاً من رجالها وهو (أحمد رضوان) وأقحمته
لرئاسة مشيخة الطريقة (الخلوتية) التي كان تدعيم الحكومة لها أكثر من غيرها.
ولما توفي الشيخ الحكومي سنة 1967م، بُني له ضريح، ونُسجت حوله
الأساطير، وأسندت إليه الكرامات، والخواراق والمعجزات، التي ربما لم يُسمع
عنها لغيره، وربما لم يعلم هو عنها شيئاً طيلة حياته.
وقد استمر الدعم الحكومي للطرقية بعد عهد عبد الناصر، حتى أصبحت
الطرق الصوفية التي تقرب من الخمسين طريقة، هي النشاط الديني الوحيد التابع
لرئاسة الجمهورية رأساً، وله ميزانيته الخاصة في الدولة.
وإمعانا في تسويغ الصوفية وتلميع رموزها، تم تعيين استاذ جامعي في
منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية وهو (أبو الوفا التفتازاني) واعتبرت الصوفية
هذا تكريماً زائداً لهم وعدّوه رداً كافياً على خصومهم الذين يتهمون الطرقية
باللاعصرية والجهل مقارنة بالجماعات الإسلامية الأخرى ... وهكذا أخذت الخرافة
والدجل والشعوذة باسم الدين طابعاً (أكاديمياً) وإلى الله المشتكى! ! .