دراسات تربوية
الأخوة في الله
بين الواقع والمثال
طارق محمد العمودي
إن أشد ما أخشاه أن نكون في زمن يَعِزّ فيه وجود أخٍ واحدٍ في الله يغنمه
الواحد منا في زماننا هذا، فينعم برباط الأخوّة الصادقة التي ندر وجودها، وأُطلقت
تساهلاً على مفاهيم دون مرتبتها بكثير.
نعم، أقول ذلك خوفاً من وقوع ما قاله الصادق المصدوق: (قلّما يوجد في
آخر الزمان درهم حلال، أو أخ يوثق به) [1] .
خشيت ذلك مع أني أتمنى من صميم قلبي عدم وقوع ما في الحديث في زماننا، فنحرم بذلك نعمة الأخوة الصادقة التي لم يبق منها غير المعرفة السطحية
المقتصرة على الابتسامة، والتلطف في أسلوب الكلام ولا تتعدى ذلك غالباً إن
كثرت الملاقاة.
ولقد قرأت كلاماً محزناً قاسياً ولكنها الحقيقة للإمام الواعظ ابن الجوزي (ت:
سنة 597 هـ) رحمه الله يقول فيه [2] : (جمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم
صديق في الظاهر، أما الأخوة والمصافاة فذاك شيء نسخ فلا يُطمَع فيه) ثم بيّن
سبب نسخ وجود الأخوة والصفا لكون السلف كانت همتهم الآخرة وحدها فصفت
نياتهم في الأخوّة والمخالطة فكانت ديناً لا دنيا.
أما الآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب إلا ما شاء الله. ...
فانظر رحمك الله إلى مقولة هذا الإمام وهو في القرن السادس الهجري؛ حيث
يرى بهذه النظرة معنى الأخوة في زمانه، فكيف في زماننا هذا؟ والأصل في كل
زمان متأخر عن سابقه وقوع صفة الشرفية للسابق، واقتراب الفتن وأشراط الساعة، والرقة في الدين.
ولكن لا يخلو الأمر من تنفيس، والخير في أمة نبينا -صلى الله عليه وسلم-
إلى يوم القيامة.
ولعل من أسباب ضعف رباط الأخوة في الله غموض الرؤية لدى بعض الناس
لمعانيها في زماننا. ولذا رأيت أن أسوق من أقوال وصور السلف حول هذا
الموضوع ما تنحلّ به حبوة القارئ، ويسيل لعابه عجباً واندهاشاً من هؤلاء الرجال
الكبار، لنرى البون الشاسع بين ما قد حققوه من معاني الأخوة الصادقة فيما بينهم،
ونرى بالمقابل ما آلت إليه في زماننا، فنصلح الخلل، وإلا تحقق فينا الحديث
الشريف السابق الذكر.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (إذا رزقكم الله عز وجل مودة امرئ
مسلم فتشبثوا بها) [3] .
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يذكر الرجل من إخوانه في بعض
الليل، فيقول: يا طولها من ليلة، فإذا صلى المكتوبة غدا إليه، فإذا التقيا
عانقه [4] .
وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- إذا خرج إلى أصحابه قال: أنتم جلاء
حزني [5] .
ولمّا أتى عمر الشام استقبله أبو عبيدة بن الجراح، وفاض إليه ألماً، فالتزمه
عمر، وقبّل يده، وجعلا يبكيان [6] .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أَحبّ إخواني إليّ إذا رأيته قَبِلَني، وإذا
غبت عنه عذرني [7] .
وكان الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يُقبّل رأس أبي بكر [8] .
ورئي على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ثوب كأنه يُكثر لبسه، فقيل
له فيه، فقال: (هذا كسانيه خليلي وصفيّي عمر بن الخطاب، إنّ عمر ناصح الله
فنصحه الله) [9] .
ولقي الصحابي حكيم بن حزام عبدَ الله بن الزبير رضي الله عنهما بعدما قُتل
الزبير فقال: كم ترك أخي من الدّيْن؟ قال: ألفي ألف. قال: عليّ منها ألف
ألف [10] .
ودخل رجل من أصحاب الحسن البصري عليه، فوجده نائماً على سريره،
ووجد عند رأسه سلة فيها فاكهة، ففتحها، فجعل يأكل منها، فانتبه، فرأى الرجل
يأكل، فقال: (رحمك الله، هذا والله فعل الأخيار) [11] .
وقال أبو خلدة: دخلنا على ابن سيرين أنا وعبد الله بن عون، فرحب بنا،
وقال: (ما أدري كيف أتحفكم؟ كل رجل منكم في بيته خبز ولحم، ولكن سأطعمكم
شيئاً لا أراه في بيوتكم. فجاء بشهدة، وكان يقطع بالسكين ويطعمنا) [12] .
وقال محمد بن واسع: (لا خير في صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان إذا
كانوا عبيد بطونهم؛ لأنهم إذا كانوا كذلك ثبّط بعضهم بعضاً عن الآخرة) [13] .
وقال عثمان بن حكيم الأودي: (اصحب من فوقك، ودونك في الدنيا) [14] .
وكان بلال بن سعد الأشعري يقول: (أخ لك كلما لقيك ذكّرك بحظك من الله
خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً) [15] .
وكان المحدث القارئ طلحة بن مصرف إذا لقي مالك بن مغول يقول له:
(لَلُقياك أحبّ إليّ من العسل) [16] .
وقال ابن عيينة: سمعت مساور الورّاق يحلف بالله عز وجل: ما كنت أقول
لرجل إني أحبك في الله عز وجل فأمنعه شيئاً من الدنيا [17] .
وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول لأصحابه: يُدخِل أحدكم يده في كُمِّ
صاحبه ويأخذ ما يريد؟ قلنا: لا. قال: فلستم بإخوان كما تزعمون [18] .
وأخيراً: فمن أمثلة أخوة زمن المتأخرين من علمائنا ما كان بين شيخ الإسلام
ابن تيمية، وشيخ المحدثين جمال الدين المزّي رحمهما الله، فقد تأثر الثاني
بشخصية شيخ الإسلام التي كانت قد اكتملت، فأعجب به المزي الإعجاب كله،
وترافق معه طيلة حياته. قال مؤرخ الإسلام الذهبي: (ترافق هو وابن تيمية كثيراً
في سماع الحديث، وفي النظر في العلم، وكان يقرر طريقة السلف في
السنة..) [19] .
ولقد أخلص (المزي) لرفيقه (ابن تيمية) الإخلاص كله، ولآرائه التجديدية،
وجعله مثله الأعلى، ويظهر ذلك جلياً من خلال دفعه لثمن ذلك من الأذى الذي
تعرض له عدة مرات من سجن وعدم تمكينه من التحديث، ووضع العراقيل عند
توليه لرئاسة دار الحديث الأشرفية.
ولما توفي شيخ الإسلام (ابن تيمية) مسجوناً بقلعة دمشق لم يسمح لأحد
بالدخول أول الأمر إلا بخواص أصحابه منهم (المزي) وكان ممن ساعد في غسله.
وبالجانب الآخر كان (ابن تيمية) كثير الاعتماد على (المزي) وعلمه ومعرفته؛ فحينما خرج من سجنه بـ (مصر) سنة 709 هـ، وجلس في القاهرة ينشر
علمه، واحتاج إلى بعض كتبه التي بالشام، كتب إلى أهله كتاباً يطلب جملة من
كتبه، وطلب منهم أن يستعينوا على ذلك بـ (جمال الدين المزي) وسبب ذلك ما
قاله ابن كثير: (فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريد من الكتب التي أشار
إليها) [20] .
وحينما ولي (المزي) أكبر دار حديث بـ (دمشق) وهي الأشرفية سنة
718هـ، فرح (ابن تيمية) فرحاً عظيماً بذلك وقال: (لم يَلِ هذه المدرسة من حين بنائها إلى الآن أحق بشرط الواقف منه) .
وكان شرط واقف الدار أن يُقَدّم من اجتمع فيه الرواية والدراية على من
اجتمع فيه الرواية فقط، ففضله (ابن تيمية) بذلك على علماء عظام قد تولوا هذه
الدار كـ (ابن الصلاح) ، و (أبي شامة) و (النووي) .
وحصل أن أخرج (ابن تيمية) رفيقه (المزي) من السجن بنفسه.
وبعدُ: فإن ما سقته من صور الأخوة في الله من حياة سلفنا لجديرة بالتأمل.
ولعل من أسباب الفتور الحاصل بين شباب الصحوة ضعف رباط الأخوة
الصادقة.
فأين واقعنا الذي لا يخلو من المشاحنات والخلافات والبحث عن الزلات من
واقع سلفنا الصالح رضي الله عنهم: (هيا بنا نؤمن ساعة) ؟ ، و (هيا بنا نبك من
خشية الله، فإن لم نجد بكاءً تباكينا علّ الله يرحمنا) .
وأين الفائدة العلمية ومذاكرة العلم بيننا، مع وجود وسائل الاتصال الحديثة
التي تسهّل وتحفز للحرص على لقاء الفائدة؟
نسأل الله صلاح الأحوال والقلوب للفوز بمرضاته إنه مجيب الدعاء.