المسلمون والعالم
الحرب الأرترية الإثيوبية من أين وإلى أين؟
د.جلال الدين صالح
على نحو لم يكن في الحسبان عند كثير من المهتمين بشؤون القرن الأفريقي
تفجرت حرب شاملة وساحقة بين حليفي الولايات المتحدة (إرتريا وإثيوبيا) بسبب
خلافات حدودية ألجأت إثيوبيا إلى اتهام إرتريا باختراق معالم حدودها، والتوسع
داخل أراضيها، وطالبتها بالانسحاب الفوري دون شرط مسبق وهو الأمر الذي
رفضته إرتريا معيدة التهمة ذاتها إلى إثيوبيا، ومؤكدة بأن خرائط الحدود المرسومة
والموروثة عن المستعمر الإيطالي تفند الادعاء الإثيوبي، وتدعم حق الإرتريين
بالأرض المتنازع عليها، ولم تمض أيام على بروز هذا الخلاف حتى فوجئ العالم
بالاقتتال الدائر بين الدولتين الحليفتين في وقت كانتا تعملان فيه جنباً إلى جنب
وبدعم من أمريكا وتحريض منها على تصعيد الأزمة السودانية وتعقيدها من خلال
دعم المعارضة المتمركزة في كل من بلديهما، وانطلاقا من هذا الهدف ورد اسماهما
ضمن زعماء الدول الأفريقية التي حظيت بلقاء كلينتون في (عنتيبي بأوغندا) في
جولته الأفريقية التي شملت غانا، والسنغال.
وبدا الرئيس الإرتري (إسياس أفورقي) أكثر حماساً واندفاعاً من نظيره
الإثيوبي للعب دور إقليمي أكثر انسجاماً مع رغبات أمريكا؛ فماذا وراء هذه الحرب؟ وهل هي حقاً حصاد خلاف حدودي أم أنها مجرد أعراض ظاهرية لأدواء أدق
وأعمق تلاحقت حتى تفاقمت واشتعلت؟
للإجابة على هذه الاستفسارات لا بد أولاً من إلقاء الضوء على سير العلاقات
بين النظامين من قبل وصول كل منهما إلى عاصمة بلده إثر سقوط النظام الماركسي
عام 1992م في إثيوبيا بعد أن أخفق في حل المشكلة الإرترية التي كان من
مضاعفاتها تصاعد النضال الثوري واندلاع ثورات عديدة منها (الجبهة الشعبية
لتحرير تقراي) التي أنشئت في 18 فبراير 1975م بزعامة ملس زناوي وآخر من
أبناء تقراي الإقليم الإثيوبي المجاور وإرتريا شمالاً والواقع بين فكي الحرب القائمة.
بداية العلاقة:
وقد بدأت الصلات تتوثق بين جبهة (ملس زناوي) وجبهة (إسياس أفورقي)
الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا في الأدغال، وقمم الجبال وتوالت خطاها وتطورت
إلى حد بناء تحالف قوي يحشد كل طاقاته العسكرية ليس لإسقاط (منجستو) وانتزاع
الحكم منه وإنما أيضاً لتصفية كل الخصوم المحليين من المنظمات الثورية الوطنية
التي يرى فيها كل منهما الخطر على مستقبله السياسي، وبموجب ذلك أعلنَا معاً
حرباً على (جبهة تحرير إرتريا) أكبر تنظيم منافس لـ (إسياس أفورقي) وأول من
فجر الكفاح المسلح عام 1961م بدعم من المسلمين، وتمكنَا من إجلائه إلى الحدود
السودانية عام 1981م وتشتيت قيادته اليسارية (تجمع حزب العمل الماركسي)
والانفراد معاً بالهيمنة الكاملة على الساحة العسكرية والذي أدى بدوره إلى استقرار
التقراويين على (بادي وشرورا) وهي مناطق النزاع المتقاتل عليها ليقوموا بحماية
ظهر حليفهم (إسياس أفورقي) من أي هجوم مضاد قد يشنه عليه خصومه الإرتريون، كما أن إسياس، لم يبرم معهم ما يؤكد لهم أنهم مجرد ضيوف على هذه الأرض،
وأنها إرترية بحتة، وبقاؤهم فيها مرهون بأسبابه ومقتضياته مما جعلهم ينظرون
إليها كجزء من مناطقهم، ويعمقون فيها وجودهم؛ حتى زحف الحليفان معاً كل
باتجاه حاضرة بلده ليتربع على الحكم بمباركة من أمريكا حاملاً معه تطلعاته
السياسية واتفاقاته السرية سواء مع الأمريكان أو الطرف الآخر ليقلب صفحة جديدة
على ضوء تعاليم لقاء لندن الذي تم عام 1992م برعاية هيرمان كوهين مسؤول
دائرة القرن الأفريقي في وزارة الخارجية الأمريكية وقتها، ولا أحد من الشعب
الإرتري والإثيوبي يعرف عن هذه الاتفاقيات السرية سوى (ملس وأسياس)
والأقربين إليهما، وكل ما يردد حولها ما هو إلا مجرد تكهنات واستنتاجات جعلت
بعض الإرتريين يعتقد أنها خطوط ترسم ملامح دولة (أكوم الكبرى) المكونة من
إقليم تقراي و (إرتريا) ومما عزز هذا الاستنتاج والتخوف منه عند المسلمين
الإرتريين بالذات ذلك التصريح الذي أدلى به (أسياس أفورقي) ونشرته جريدة
الحياة في 25/4/1992م والذي قال فيه: (إن حكومته تسعى مع الحكومة الانتقالية
في أديس أبابا إلى اندماج تتوحد فيه السياسة الاقتصادية والتجارية والنظام المالي
بين البلدين مؤكداً (أن الكونفدرالية مع إثيوبيا أحد الصيغ المطروحة للاندماج مع
هذا البلد) وقائلاً: (لماذا نستبعد الكونفدرالية إذا كانت لمصلحة البلدين ونفذت
استناداً إلى رغبه شعبيهما من خلال المؤسسات الديمقراطية) وحيث إن هذه
الكونفدرالية لم تكن مطروحة من قِبَلِ الشعب الإرتري أبداً فليس لها من دون
الأمريكان طارح، وقد ظل هنا التخوف عند غالب المسلمين الإرتريين يمثل أحد
أهم معايير التحليل السياسي لتطورات الأحداث التي لعب النظامان دوراً أساسياً في
تأجيجها لا سيما النزاع مع السودان بصفة خاصة، الذي من المتوقع أن يخف
سلطانه عليهم الآن بعد اندلاع هذه الحرب؛ ليس لأنه كان مجرد هاجس متوهم
كشف واقع الحرب بين الحليفين زيفه وإنما لترديه وسقوطه قبل الوصول إلى
المآرب والغايات، وأياً كان الأمر فإن الرئيس الإرتري ظل يشيد بعلاقة بلاده مع
إثيوبيا ويقدمها للشعب الإرتري والعالم كأروع مثل يحتذى به في التعبير عن القيم
الإنسانية والترفع على أحقاد حرب الثلاثين عاماً بعد أن وقع معها معاهدات أمنية
واقتصادية واصفآً لها كما جاء في مجلة (الأمانة) لسان حزبه الحاكم عدد يونيو
1996م بقوله: (المعاهدات الإرترية الإثيوبية هي من أجل الاستقرار والفائدة
المعنوية للتعاون العسكري المشترك للبلدين، وليست لها أية مطامع، أو برامج
خفية) وعلى نقيض من هذه النظرة يرى كثير من المحللين السياسيين في المنطقة
أن هذه المعاهدات الأمنية والعسكرية كان المقصود منها بالدرجة الأولى على
الصعيد المحلي تقوية نفوذ قومية التجرنية وتكريس سلطانها في كل من إثيوبيا
مقابل الأرموا أكبر القوميات الأثيوبية، والأمهرا، وفي إرتريا مقابل المسلمين
باعتبار انحدار الرئيسين المتحالفين منها، وباعتبارها ذات عدد قليل يوحدها اللغة
والثقافة والمعتقد الديني وتبقى دون حد التأثير في صياغة وجهة البلدين من دون
تحالف شطريها في كل من إثيوبيا وإرتريا. أما على الصعيد الأقليمي فكان مقابل
السودان، والصومال، وجيبوتي، واليمن، وسائر البلدان العربية المطلة على
البحر الأحمر والقرن الإفريقي؛ ومما يقوي هذه الرؤيا أن الرئيس الإرتري في
الوقت الذي ضيق فيه الخناق على المسلمين وثقافتهم داخلياً اندفع بشره وحماس
منقطع النظير إلى التصادم مع اليمن والسودان، والتحرش بهما على وجه جعل منه
لغزاً محيراً في المنطقة تتضارب فيه وجهات نظر المحللين حتى خسر كل جيرانه
بما فيهم إثيوبيا التي يخوض اليوم حرباً عسكرية ضدها من بعد أن شتم مصر
بالتسول على الأسواق الأمريكية، واتهم جيبوتي بتلقي الرشاوي من اليمنيين وطعن
الخاصرة من الخلف متوعداً إياها على ما كسبت يمينها من جرم الخيانة والغدر
حيث قال بالحرف الواحد في مجلة الأمانه العدد المذكور نفسه: (لم يكن يجب على
حكومة جيبوتي أن تدخل في مثل هذا الوحل.. إن ذلك جرم.. إنه جرم بيّن وضار
بمساعي بناء علاقة جوار حسنة. إن استغلال انشغال إرتريا بالنزاع مع اليمن،
ومحاولة إثارة نزاع مفتعل بهدف تحقيق مكاسب في (زحمة المولد) مسألة غير سهلة، وقد لا يكون الجيبوتيون قد أدركوا ألم الطعنة الغادرة التي أصابونا بها، وقد
يأتون بمختلف المسوغات والأعذار، ولكننا لن نترك هذه المسألة تمر مرور الكرام، ولن نتهاون في التعامل معها، وستجد الحل في وقتها المناسب) أي الاقتصاص
منها فهو أمر مفروغ منه وكل ما في الأمر أن الوقت لم يحن بعد. كذلك فإن (ملس
زناوي) زحف بدباباته إلى الصومال للعبث فيه وضرب أوكار ما أسماه بالأصولية
مدعوماً بقوات إرترية.
من التحالف إلى التقاتل:
ولكن ها هي رياح الأحداث تهب من حيث لا تشتهي السفن، وتأتي على
عكس المراد لتعصف بالحلف الثنائي القومي ولترجمه بغارات جوية وهجمات
أرضية تستخدم فيها شتى أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة بعد قرار برلماني من
الحكومة الإثيوبية ينذر الإرتريين بأمرين أحلاهما مر: الانسحاب، أو الحرب،
دون جدوى كل الوساطات التي قادتها أمريكا، ورواندا ورئيس منظمة (إيقاد)
(حسن جوليد) رئيس جيبوتي، ولم يجد رئيس الوزراء الإثيوبي (ملس زناوي) في
نفسه حرجاً من أن يتهم حليفه (أسياس أفورقي) بحمل أفكار توسعية والتطلع إلى
دور يجعل منه إمبراطور القرن الأفريقي، وهو الأمر الذي نفاه (أفورقي) في
المقابلة الهاتفية التي أجراها معه تلفزيون الـ ... مساء الأحد 7/6/1998م كما أن
سكرتير حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة الحاكم في إرتريا، الأمين محمد
سعيد نعت قيادات التغراي الحاكمة في أديس أبابا والتي تحالف معها بالأمس
لتضرب قوى إرترية منافسة في مقابلة له نشرتها الشرق الأوسط في 2/6/1998م
بأنها (لم تستطع حتى الآن أن تتخلص من أطماع بعض إقطاعيي مقاطعة (تقراي)
الذين كانوا ينادون ومنذ القرن الثامن عشر بالاستيلاء على أراضي وجزر، وبحر
إرتريا) وهذه الاتهامات المتبادلة بين الحليفين المتقاتلين من الممكن أن تكون وليدة
الإحساس بخيبة الأمل بسبب سعي كل طرف منهما للفوز بأكبر قدر ممكن من النفوذ
والهيمنة، وفرض السيادة على الآخر مما نمى بينهما روح التنافر والتباعد بعد
التآلف والتحالف، ويظهر أن إفرازات هذه الخيبة ظلت تتراكم وتتكدس منذ أمدٍ
بعيد حتى طفت على السطح بوجهها الدموي؛ إذ هجر الإثيوبيون ميناء عصب
الإرتري، وآثروا استخدام ميناء جيبوتي عوضاً عنه، وحجروا التعامل مع العملة
الإرترية (تقفه) في أسواقهم المحلية، وطالبوا بتسديد كل الفواتير بالعملة الصعبة
مما أرهق كاهل التاجر الإرتري الذي يستورد بعضاً من بضائعه من أديس أبابا
بالعملة الإثيوبية (بر) وهذا بدوره انعكس على الحالة المعيشية للمواطن الإرتري؛
فقد ارتفعت الأسعار، واختفى من الأسواق (الطافُ) أفضل مأكول زراعي عند
سكان الهضبة الإرترية الذي يستجلب من إثيوبيا، ويشبه (الدخن) في حجمه.
وتوحي التعزيزات العسكرية وإعلان التعبئة العامة من الجانبين بطول أمد الحرب؛
فالرئيس الإرتري (إسياس أفورقي) عندما سئل في مقابلة الـ ... تلك عما ينبغي
اتخاذه من قبله لإيقاف الحرب بأن هذا من مسؤولية النظام الإثيوبي الذي أعلنها
بقرار برلماني، وكذلك فإن كلاً من الرئيسين تغيب عن مؤتمر منظمة الوحدة
الإفريقية الذي انعقد في (واغا دوغو (ببوركينا فاسو، وهذا التغيب يكشف عزم كل
منهما على عدم ملاقاة الآخر والتباحث معه وجهاً لوجه بالرغم من تصريحاتهما
الداعية إلى الحل السلمي عبر طرف ثالث، وتؤكد إثيوبيا ثقتها في قدرتها العسكرية
على حسم الصراع لصالحها، ولا يشك المحللون العسكريون أيضاً في تفوق إثيوبيا
العسكري جواً وبراً من حيث أفراد القوات المسلحة بالإضافة إلى التعداد السكاني،
إلا أنهم من جانب آخر لا يهمشون ما أحرزته القوات الإرترية من خبرة قتالية عالية
اكتسبتها من حرب التحرير الطويلة التي دامت ثلاثين عاماً إلى جانب الترسانة
العسكرية التي ورثتها عن نظام منجستو أقوى جيش في القرن الأفريقي وقتها. وفي
نظري إذا كان هناك مخاوف تقلل من فرص انتصار الجيش الأرتري وتفوقه،
وتجعل ذلك أمراً مشكوكاً فيه فإنها قد تكمن في الاعتقالات التي طالت بعض قيادات
الجيش وزجت بهم في السجون لما أبدوه من مواقف رأى فيها (أسياس أفورقي)
نوعاً من التطاول على مقامه. وفي احتكار (أسياس) لصناعة القرار وتفرده به فإن
القرار الإرتري لا يسلك المسالك ذاتها التي ينبثق منها القرار الإثيوبي من برلمان
وغيره، وإنما هي إرادة (إسياس) تعلو ولا يعلى عليها، وإن نوقشت فعلى خوف
واستحياء، وكل هذا لا محالة أن من شأنه أن يصيب التلاحم الداخلي بشيء من
الوهن، ويغذي روح التذمر، وما يقال من أن الإرتريين ما زالوا مفعمين بتعاظم
الثقة القتالية في أنفسهم، والاعتزاز بكيانهم الوطني الناشئ بالرغم من كونه صحيحاً، إلا أنه يجب أن لا يحملنا على تجاهل هذا العنصر ذاته في الإثيوبيين أنفسهم؛
ولا سيما أن نخبة التقراي الحاكمة لا بد أن تثبت ولاءها للوطن وتبرئ ذمتها مما
رميت به، من ضعف واهتزاز الشخصية أمام شخصية الرئيس الارتري (أسياس
أفورقي) والتواطؤ معه على تمزيق إثيوبيا وتقطيع وحدتها، وفي سبيل كسب التأييد
الإقليمي نشطت دبلوماسية كل من البلدين في التحرك الخارجي بشرح وجهة نظر
بلادها؛ ولهذا الغرض أوفد الرئيس الإرتري وفداً عالي المستوى إلى الدول العربية
يقوده الرجل الثاني في الدولة (محمود شريفو (لكن ما يثير الغرابة إن كان في الأمر
ثمة غرابة أن سفير إرتريا بكينيا صرح خلال جولة الوفد الإرتري في العواصم
العربية حسبما نشرت جريدة القدس في 2/6/1998م أن إرتريا قادرة على إلحاق
الهزيمة بالجيش الإثيوبي مهما كان تسليحه وكثرته؛ فقد انهزم العرب على كثرتهم
أمام إسرائيل بقلة عددها، والجدير بالذكر أن دبلوماسياً غربياً أفاد كما نشرت ذلك
الحياة في 12/6/1998م بأن (الذين التقوا الرئيس الإرتري أخيرآً شعروا بأنه لا
يخفي بأن لديه القدرات على بناء مشروع (إسرائيل ثانية) في القرن الأفريقي) .
ومهما كانت طموحات النظام الإرتري فإن مثل هذه التصريحات بالتأكيد لا تتورط
فيها الدبلوماسية الحكيمة في هذا الظرف مهما كان اغترارها بإسرائيل كبيراً،
وازدراؤها العرب شديداً، ولكن هذه هي العقلية الحاكمة في إرتريا التي لا تتردد
في انتهاز كل سانحة للتعبير عن اعتزازها بالدولة العبرية وجعلها مثال الصمود
والتحدي، والتقليل من شأن العرب، وجعلهم مضرب المثل في الفرار والانهزام
حتى في أشد أوقاتها احتياجاً إلى عونهم السياسي والمالي.
الموقف الأوروبي والأمريكي:
أما الموقف الأوروبي والأمريكي من هذا النزاع فلم تتحدد معالمه حتى الآن
بشكل جلي وقاطع؛ وكل ما هو بادٍ لم يتجاوز نطاق البيانات الداعية إلى ضبط
النفس، وقد أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً ندد فيه بالحرب، وعقب المهلة المحددة
من الإثيوبيين لاستئناف القصف الجوي سارعت الدول الأوروبية التي لها رعايا في
إرتريا إلى إجلاء رعاياها ونقلهم إلى أوطانهم، وهذا الموقف البارد كما يبدو لي
مثار كثير من التساؤل؛ فإن الأمريكان بنفوذهم القوي على النظامين يملكون قدرة
الضغط عليهما معاً، أو إرغام أحدهما على الانقياد لتعليمات البيت الأبيض، ولكن
المعلن من الدور الأمريكي اقتصر على المكالمات الهاتفية التي أجراها كلينتون مع
زعامة البلدين، وعلى المساعي التي قامت بها (سوزان رايس) مساعدة وزير
الخارجية للشؤون الأفريقية، وأخيراً الوفد المصغر الذي شارك فيه (ديفد دان)
المسؤول عن أفريقيا في وزارة الخارجية الأمريكية، و (روبرت هوديك) عضو
مجلس الأمن القومي. وقال الرئيس الإرتري معلقاً على المبادرة الأمريكية كما
نشرت الحياة في 12/6/1998م: (إن الأمريكيين يؤمنون بالترتيبات السريعة، إن
هذا الأمر لا يصلح، إنها ليست ثقافتنا) .
ويرى البعض في هذا النزاع إخفاق السياسة الأمريكية في المنطقة وعجزها
عن قراءة نقاط الضعف في علاقة النظامين اللذين جعلت منهما حليفاً مشاغباً
للضغط على السودان، وتنفيذ سياساتها في منطقة القرن الأفريقي، بينما لا يستبعد
آخرون من أن يكون كل ذلك من صنع أمريكا ذاتها حتى توجِد لنفسها مسوغاً
للتدخل العسكري بحجة الفصل بين الدولتين وإيقاف الاقتتال بينهما.
وتذكر بعض التحليلات أن رئيس الوزراء الإثيوبي (ملس زناوي) فاجأ
الأمريكان بموقف صلب لم يكن متوقعاً منه في تحليلهم، وإذا كان هذا صحيحاً فإنه
يعني أن النظرة الأمريكية المقارنة بين قوة شخصية كل من (ملس) و (إسياس)
كانت قد وضعت (أفورقي) في مرتبة متقدمة على (زناوي) وقد تكون هذه النظرة
نابعة من إملاءات اللوبي الصهيوني الذي كسب (إسياس) وجعل منه مدخل ولاء
إلى المؤسسات الأمريكية مستغلاً فقدان (إثيوبيا) نفوذها على البحر الأحمر باستقلال
إرتريا وهو نفوذ يحسب له اليهود حسابه المعتبر، ويمنحونه الصدارة في وضع
استراتيجياتهم العسكرية، والأمنية، والاقتصادية، فهل هذا يعني انحيازاً أمريكياً
نحو إرتريا؟ ذلك ما يرجحه بعض المحللين بحجة أن (دولة صغيرة وفقيرة مثل
إرتريا يكفيها إنذار أمريكي بسحب قواتها وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل12
أيار (مايو) والدخول في مفاوضات مع إثيوبيا وهو ما لم يحدث) [1] وهذا التحليل
مهما كان منطوياً على شيء من الحقيقة فإن الأمر في نظري أعمق منه بكثير، ولا
أتصور جنوح الأمريكان إلى إرتريا وترجيح كفتها على إثيوبيا بهذه السهولة
لاعتبارات كثيرة أهمها مكانة إثيوبيا النصرانية في تصور الغرب بصفة عامة،
ونظرتهم إليها منذ اتصالهم بالعالم الإسلامي كجزيرة نصرانية مطوقة بطوق إسلامي. وإضعافها في صراعها مع إرتريا يعني أحد أمرين:
أولاً: تقوية إرتريا التي ينظر إليها الغرب كدولة في الأصل ذات انتماء
إسلامي وتطلع عربي وإن كان رئيسها نصرانياً.
ثانياً: إن انهزام إثيوبيا، وكسر شوكتها سوف يحفز سكانها المسلمين من
الأرومو ذات الأغلبية البشرية، والقالا، والصوماليين على العصيان والخروج مما
يؤدي إلى انهيارها الشامل على النمط الذي انهار به الصومال؛ وهو ما لا يرضاه
لها الغرب؛ ومن هنا فإني أعتقد أنه إذا كان للغرب موقف ترجيح فإنه إلى إثيوبيا
أقرب منه إلى إرتريا؛ ويمكن أن نستشف هذا من التصريح الذي أدلى به مصدر
دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في حفل أقامه على شرف المراسلين الغربيين
والأجانب في مبنى السفارة الأمريكية في إثيوبيا ونشرته الحياة في 12/6/1998م
حيث حمّل ذلك المصدر إرتريا عرقلة الجهود الأمريكية، قائلاً: إن أسمرة أعطت
موافقتها على الاقتراحات الأمريكية في بداية حزيران يونيو الجاري ثم غيرت
موقفها منها. وتحدث هذا الدبلوماسي طبقاً لإفادة الحياة عن صعوبة التعاون مع
الجانب الإرتري في التعامل مع الاقتراحات الأمريكية، وأوضح أن (ما يتم الاتفاق
عليه في الجولة الأولى يتم نسفه في الجولة الثانية) بينما وصف الموقف الإثيوبي
بأنه متعاون ومتفهم للاقتراحات الأمريكية وأكد (أن إثيوبيا نفذت ما تم الاتفاق عليه
مع واشنطن) .
أثر الحرب على الدولتين وخصومهما:
وكشأن كل الصراعات الدموية لا بد أن تترك هذه الحرب من ورائها
جراحات عميقة وتنبش خصومات دفينة، إلى جانب ما تجلبه من إهلاك البنية
التحتية وتدمير المنشآت الاقتصادية والعمرانية؛ وإرتريا الدولة الحديثة الناشئة أشد
حاجة من غيرها إلى السلم والاستقرار لبناء هياكلها وتأسيس ذاتها ولا سيما بعد تلك
المرارة التي ذاقتها خلال حرب التحرير، وخلفت من الآثار ما يجعلها سباقة إلى
المسالمة لا المصادمة، ولكن ها هي كل يوم في شقاق مع جيرانها: اصطدمت مع
السودان، ثم فتحت جبهة مع اليمن وأخيراً مع إثيوبيا، وفي كل ذلك تبدو الدولة
المظلومة المعتدى عليها، وأياً كان الأمر فإنها المتضرر الخاسر، ويكفي أن الإنذار
الإثيوبي بإجلاء الرعايا الأجانب من العاصمة أسمرة خلال ثلاث عشرة ساعة قد
أحرجها سياسياً، وفرض عليها حصاراً شاملاً في حيث أنها ليست من القوة في
المستوى الذي يؤهلها لتوجيه الإنذار نفسه إلى العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا)
بالرغم من تهديدات (إسياس) .
أما إثيوبيا فإذا ما خسرت الحرب فإن وحدتها ستعلق على حافة الخطر، أو
على الأقل ستفقد نخبة (التقراي) الحاكمة سلطانها، وتتحمل كل ما ستتعرض له
إثيوبيا من عواقب ضارة، وستكون عرضة للنقد والإدانة من سائر الاتجاهات
السياسية الإثيوبية لا سيما (الأمهرا) الذين يضمرون لها الكراهية الحادة، ويحملونها
كل أوزار انفصال إرتريا، وظهورها كدولة مستقلة. وعلى كل فإن ضعف كل من
النظامين وسقوطه هو ضعف الآخر وسقوطه؛ لكون كل منهما مرهوناً بالآخر،
ومعتمداً عليه في حماية نفسه.
من جهة أخرى وعلى الصعيد الإقليمي جاءت الحرب في وقت يعاني فيه
السودان والصومال من تدخلات دول الجوار الثلاث: إرتريا، إثيوبيا، أوغندا؛
واندلاعها يعني بالنسبة لهما (إحراز كسب من غير فأس) فقد سحب الإرتريون
قواتهم التي كانت ترابط على الحدود الشرقية السودانية، ونقلوا معظمها إن لم يكن
كلها إلى جبهة (التقراي) حيث النزاع المسلح، علاوة على أن السلاح الأمريكي
الذي زودت به الولايات المتحدة حلفاءها المتحاربين لدعم المعارضة السودانية وقلب
نظام الخرطوم وجه وبكل ضراوة إلى تدمير قدرات الحليفين العسكرية والاقتصادية، وهكذا بالنسبة للصومال الممزقة الذي استثمرت فيه إثيوبيا أوضاعه المتردية ...
لصالح سياساتها الإقليمية، بعد أن أسكتت المعارضة الأرمية في الداخل، وشلت
ذراعها العسكرية بضربات موجعة وقوية مستعينة بقوات إرترية، حيث اضطرت
هي أيضاً إلى نقل قواتها المرابطة فيه إلى حدودها الساخنه مع إرتريا ضمن الحشود
التي يقوم بها كل من الطرفين.
وبالقدر الذي تمثله هذه الحرب من مكسب أمني للحكومة السودانية ترى فيها
المعارضة طالعاً سيئاً جاء ليعصف بكل الآمال التي ظلت تعلقها على تحالف
النظامين الإرتري والإثيوبي ضد السودان، وستحرمها من اهتمامها بها بشكل كامل
وكاف.
وإذا كان هذا هو الشعور المتوقع من المعارضة السودانية فعلى النقيض منه
شعور المعارضة الإرترية التي ظلت تستبعد حدوث هذا الفصام، بل وتذهب بعلاقة
البلدين إلى حد بناء الدولة المتحدة ذات الثقل السياسي والاقتصادي في المنطقة، ولا
أعتقد أنها على قدر من البناء العسكري الذي يمكنها من استغلال هذا الحدث على
الوجه الذي يقوي ظهرها، ويجعل منها رقماً صعب التجاوز على المدى القريب أو
البعيد.