بأقلامهن
نجوى الدمياطي
إلى أختي المسلمة أهدي هذه الكلمات:
اعلمي أن دوام الصلة بكتاب الله تلاوة وتدبراً وعملاً، يعمق الإيمان ويوقظ
التقوى.
فالقرآن هو البيئة الصالحة لإنبات أنضر النبات.. نبات الإيمان، وإخراج
أطيب الثمار.. ثمار العمل والوعي والجهاد.
وتيقني أن مدرسة القرآن هي السبيل الأوحد إلى تربية الجيل المسلم، وإحياء
الأمة الفاضلة.
أختاه.. تعلمين أنه في مكة، وحين كانت الدعوة الإسلامية تعيش فترة
الاتصال بين السماء والأرض عبر وحي الله عز وجل الذي فتح به آذاناً صماً
وعيوناً عمياً وقلوباً غلفاً.. كان القرآن ينقل خطى الإنسان الجاهلي في جزيرة
العرب من (حضيض) واقعه، إلى (قمة) مستقبله السامق.. ويتخطى به (ظلمات
الجاهلية) إلى (نور الإسلام) .. ليُخرج منه ومن غيره [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]
[آل عمران: 110] .
أختاه.. إن هذا القرآن الذي أخرج بهديه [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] لم
يجئ لفترة من الزمان أو لجيل من الناس، وإنما جاء ليعمل في كل جيل وفي كل
بيئة.. ولذلك فالقرآن هو القادر اليوم على نقل خطى البشرية من واقعها الأليم إلى
أملها المنشود.
أختاه.. إنه (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) كما قال مالك بن
أنس رضي الله عنه ولقد صلح أولها بالقرآن..
ولذلك فلن يصلح آخرها إلا به.. فالقرآن غنى كامل في كل شيء.. في كل
زمان ومكان، وفي كل جيل وقوم كما أخبر سبحانه قائلاً: [إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] [الإسراء: 9] ، فالقرآن [يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] في عالم الضمير
والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض.. و [يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة.. و [يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ] في علاقات الناس بعضهم ببعض أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً،
ودولاً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر
بالرأي أو بالهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا يصرفها المصالح
والأغراض [1] .
أختاه.. لقد أقسم الله عز وجل فقال: -[وَالْعَصْرِ (?) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ
(?) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]
[العصر: 1 - 3] فتأكدي أن كل أحد خاسر إلا من آمن وعمل صالحاً، وكمّل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه.. ولذلك فإنه حقيق بكل عاقل أن ينفق ساعات عمره فيما يخلصه من الخسران المبين، (وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وآثار دفائنه، وصرف العناية إليه، والعكوف بالهمة عليه؛ فإنه الكفيل بمصالح العباد، في المعاش والمعاد، والموصل لهم إلى سبيل الرشاد) [2] .
ولا شك يا أختاه أن كتاب الله الذي هذا شأنه، وتلك هي آثاره في النفس
والمجتمع جدير بأن يتلوه الإنسان آناء الليل وآناء النهار؛ فذلك السبيل إلى الفوز
في الدنيا والآخرة كما أخبر سبحانه: [إنَّ الَذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ] [فاطر: 29، 30] .
وكما أخبر رسول الله: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها
طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها
وطعمها حلو [3] .
وقال: (الماهر بالقرآن مع السَفَرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع
فيه وهو عليه شاق له أجران) [4] .
أختاه.. إن القرآن هو مأدبة الله كما أخبر بذلك الصادق المصدوق لله، فأقبلي
على مأدبة الله، واحرصي أن تكون لك في هذه المأدبة صواحب.. صحبة طاهرة
ملتزمة بالدين، مخلصة لله، بعيدة عن البدع والمعاصي، حريصة على أمر
الآخرة..
فهذه الصحبة الطاهرة تزيد من حرصك وتُقَوّي من أزرك، وتحقق فيك قول
رسول الله لله: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه) ، وقوله لله: (ما اجتمع قوم في
بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة
وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) [5] .
... فما الذي هو أجمل من أن تنزل عليك السكينة أختاه وتحفك الملائكة،
وتغشاك الرحمة.. وما أعظم من أن يذكرك الله فيمن عنده؟ !
عن أسيد بن حضير أنه بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه
مربوطة عنده، إذ جالت الفرس فسكت، فسكنت، فقرأ، فجالت الفرس فسكت،
فسكنت، ثم قرأ.. فجالت الفرس، فانصرف وكان ابنه يحيى قريباً منها، وأشفق
أن تصيبه، فلما اجترّه (أي جر أسيد ابنه يحيى من ذلك المكان) رفع رأسه إلى
السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى يراها..
فلما أصبح حدّث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: (اقرأ يا ابن حضير.. اقرأ
يا ابن حضير.. وتدري ما ذلك؟) قال: لا، قال لله: (تلك الملائكة دنت لصوتك، لو قرأتَ لأصبحتْ ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم) [6] .
أختاه.. إن الحياة في ظلال القرآن نعمة.. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها،
نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.. ومن عاش مع القرآن شعر بالتكريم الإلهي
العلوي الجليل، فعاش هادئ النفس، مطمئن السريرة، قرير العين [7] تغشاه
السكينة التي ما تنزل في قلب عبد إلا أكسبته الوقار والطمأنينة (وأنطقت لسانه
بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الفحش واللغو والهجر، وكل باطل..
قال ابن عباس (رضي الله عنه) : (كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر
وقلبه) .. بل (كثيراً ما ينطق صاحب السكينة بكلام لم يكن على فكرة منه، ولا
روية ولا هبة ويستغربه هو من نفسه، كما يستغرب السامع له، وربما لا يعلم بعد
انقضائه بما صدر منه) [8] .
وهكذا هو القرآن يا أختاه به تطمئن القلوب بالإيمان واليقين، فكيف تكون
قراءتك له؟
أختاه.. إن قراءتك للقرآن لا بد أن تكون وفق أمر رسول الله: (زينوا
القرآن بأصواتكم) [9] .
فتحسين الصوت بالقرآن والتخشع فيه أمر يحبه رسول الله؛ فقد قال لأبي
موسى: (يا أبا موسى لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة) فرد أبو موسى قائلاً:
والله لو علمتُ أنك تسمع قراءتي لحبّرتها لك تحبيراً) .
ولا شك أن رد أبي موسى يدل على جواز تحسين الصوت بالقرآن، وقد كان
أبو موسى قد أُعطيَ صوتاً حسناً، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بقوله: (لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داود) .
وإذن يا أختاه فتحسين الصوت بالقرآن مطلوب شرعاً، ولكن هذا لا يعني أن
يشغلك ذلك عن تدبر معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، بل لا بد من الصبر على تدبر القرآن آية آية، وترك النص القرآني يحدثنا عن الموضوع الذي يتناوله والحقائق التي يقررها.. والنظر في كلام الله سبحانه نظرة قلب يشعر معانيه، وعقل جمع الفكر لفهم آياته.. وتَدَبّر خطاب الملك الذي (لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، وهو عالم بما في نفوس عباده، مطلع على أسرارهم وعلانيتهم، منفرد بتدبير مملكته، يسمع ويرى ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق ويحيي ويميت، لا تتحرك من ذرة إلا بإذنه ولا تسقط من ورقة إلا يعلمها ... فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جواداً هذا شأنه، فكيف لا تحبه وتتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه) [10] .
وفي ظل هذه اللذة الروحية في الأنس بالله وبالقرآن، أود أن أذكرك يا أختاه
بمسؤوليتك عن أولادك وعن بيتك.. فلا بد أن تعلّمي أطفالك قراءة القرآن، وتُقَوّي
صلتهم به، ذلك أن الطفل يقبل من أمه ويفهم منها ما لا يقبله ولا يفهمه من غيرها.
فإذا كان طفلك في سن يعقل فيها ويميز فعلميه قليلاً قليلاً بحسب همته ونهمته
وحفظه وجودة ذهنه.. وأمّا إذا كان لا يعقل ما يقال له فقد (استحب بعض السلف
أن يترك الصبيّ في ابتداء عمره قليلاً للعب، ثم توفر همته على القراءة لئلا يُلْزَم
أولاً بالقراءة فيملها ويعدل عنها إلى اللعب) [11] .
وأمّا بيتك أختاه فاجعليه بيتاً يعمره القرآن؛ وقد كان أبو هريرة رضي الله
عنه يقول: (إن البيت ليتسع على أهله وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويكثر
خيره أن يقرأ فيه القرآن، وإن البيت ليضيق على أهله وتهجره الملائكة وتحضره
الشياطين، ويقل خيره أن لا يُقرأ فيه القرآن) [12] .. واحذري أختاه الذين
يهجرون القرآن، فلا (يفتحون له أسماعهم، ولا يتدبرونه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره.. ويهجرونه فلا يجعلونه دستور حياتهم، وهو الذي
جاء ليكون منهاج حياة يقود البشرية إلى أقوم طريق) [13] .
احذري يا أختاه كل هؤلاء الذين هجروا القرآن.. واجعلي في سمعك دائماً
شكوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لربه: [يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا
القُرْآنَ مَهْجُوراً] [الفرقان: 30] واعلمي أختاه أنه وإن كانت الآية نزلت في شأن
المشركين الذين إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا
يسمعونه (فهذا من هجرانه) ، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به
وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو
قول أو غناء أو لهو من هجرانه) [14] .. وكذلك من هجرانه (هجر تحكيمه
والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه) [15] .
فدعكِ أختاه من كل هجر للقرآن.. واجعلي لنفسك وِرداً خاصاً تحافظين عليه
مهما كانت مشاغلك.. تقرئينه، وتنزلين نفسك على أمر الله في القرآن، ولا تنزلي
القرآن على هوى نفسك، واعلمي أختاه أن هذه هي السبيل للانتفاع بالقرآن.
أختاه.. اقرئي.. ورتلي.. وليكن منك على ذكر قول النبي: (يقال لصاحب
القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ وارقَ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ
آخر شيء معه) [16] ، وقوله: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة
بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم
حرف) [17] .
هذه وصيتي إليك، وهذه فوائدها؛ فاغتنميها. وفقني الله وإياك إلى خيرَيِ الدارين.