المسلمون والعالم
دلالات جولة كلينتون في أفريقيا
د. جلال الدين محمد صالح
مئات الآلاف من مواطني القارة الأفريقية في الدول التي زارها الرئيس
الأمريكي (كلينتون) اصطفوا في حشود ضخمة لاستقباله، وتسابقوا إلى مصافحته،
والاستماع إلى خطابه ناسين أن هذه الزيارة لم تشد رحالها لتعبر عن الحزن
الأمريكي بمعاناة أبناء القارة السوداء، وما يعتصرهم من آلام الفقر المدقع، ومآسي
الاقتتال بكل ما ينجم عنه من تشرد أسري، وحرمان اقتصادي، ودمار عمراني؛
بالرغم مما رافق هذه الزيارة من ضجة إعلامية صوّرتها وكأنها رحلة رخاء وسخاء
اقتصادي سترفع عن أفريقيا إصرها والأغلال التي عليها من النزاعات العرقية
والقبلية، كما أنها لم تكن رسالة وفاء صادق مهداة من البيت الأبيض للنهوض
بالقارة نحو الرقي الاجتماعي والاستقرار السياسي، فضلاً على أنها جاءت في وقت
أشد ما تكون فيه أفريقيا حاجة إلى حل معضلاتها الأمنية، وتعقيداتها الاقتصادية
التي أورثتها الفقر وأثقلت كاهلها لعهود طويلة، وإنما كل ما توحي به من دلالات
سياسية لا يتجاوز حدود تأكيد الهيمنة الأمريكية عالمياً، والبرهنة على تفردها
بالفريسة وقدرتها على صياغتها صياغة جديدة تمليها مصالحها وتتماشى مع
متطلباتها السياسية دونما إعطاء أي اعتبار لآلام هذه القارة الحزينة وآمالها،
تبرز أمارات هذه الرؤية بشكل جلي في الخطاب الذي ألقاه كلينتون على
الغانيّين قائلاً فيه: (آن الأوان لوضع أفريقيا جديدة على خريطتنا) [1] وهذه
الخريطة الجديدة لأفريقيا لا يتورع الأمريكان من تشكيلها ولو بإثارة القلاقل بين
الأفارقة وتجويعهم مهما كانت نتائج ذلك، وهذا ما يمكن أن نلمسه في التصريحات
التي توجهت بها (ألبرايت) وزيرة الخارجية الأمريكية إلى دول من شرق القارة
محرضة إياها على الإطاحة بالنظام الحاكم في السودان باعتبار أنه شب عن الطوق
ورفض الانصياع. ويتجلى ذلك أيضاً في المساعدات العسكرية التي تقدمها أمريكا
إلى هذه الدول بذريعة أنها تواجه الخطر الأصولي، إضافة إلى الحصار الاقتصادي
المضروب على السودان تجويعاً حتى يلين ويستكين، وتحفيزاً لجون قرنق على
مواصلة العصيان والتمرد، وإبطالاً لمحادثات السلام التي تجريها الحكومة. ومن
الخطأ الفاضح أن ننظر إلى هذه الزيارة بمنظار يفصلها عن مقاصدها البعيدة
والمشبوهة؛ ليس فقط فيما يخص العلاقة بالسودان؛ وإنما أيضاً مع كل من يحاول
من الأفارقة الإفلات من سياسات الاحتواء والتوظيف التي تنتهجها أمريكا في
علاقاتها السياسية الراهنة. ولقد اصطفى (كلينتون) للقائه عدداً من رؤساء شرق
أفريقيا مستثنياً السودان وجيبوتي بالرغم من أنهما من دول (الإيقاد) ومن الأطراف
التي يهمها أمن المنطقة واستقرارها، وليس من مغزى سياسي لهذا الانتقاء
والتجاهل إلا لأن السودان وجيبوتي يمثلان امتداداً عربياً وإسلامياً في القارة
الأفريقية بينما البقية المختارة تحمل موقفاً رافضاً وكارهاً في معظمها للوجود العربي
والإسلامي، ولا تبدي في غالبها أيضاً أي تحفظ عما تريده وتخطط له أمريكا، وقد
شملت أجندة النقاش معها حرب الجنوب. وغير متوقع بداهة من أمريكا وهي التي
وضعت السودان على قائمة الإرهاب أن تطرح من الحلول ما يؤدي إلى إخماد
شرارة هذه الحرب بالوسائل السلمية من خلال دعم مبادرة حكومة السودان التي
تجاوبت معها بعض فصائل الجنوب التي رأت فيها حلاً عادلاً يرقى إلى درجة
تقرير المصير، وإنما ستؤجج روح العناد والتصلب في مواجهة كل الحلول الحادبة
على مصلحة المجتمع السوداني ما دامت لا تجد فيها ما يمكنها من تنفيذ سياساتها
المعروفة مما يفقد المنطقة استقرارها، ويجعل من أبنائها وقوداً يحترق بين أثافي
القدر الأمريكي الذي لا يتوقف عن الغليان أبداً إلا بعد إحراق مصالح الآخرين
لحساب مصلحته، وهي مصالح لا تأخذ بعين الاعتبار والاهتمام إلا استراتيجيات
ومصالح الكيان الصهيوني في فلسطين، وعلى عتباتها جرت مجازر رواندا بين
الهوتو. والتوتسي، وارتضت أن تتفرج صامتة، وكان بإمكانها أن تحُول دون
حدوثها أو التخفيف منها؛ لأن تلك المجازر ذات مردود إيجابي لا يجني ثمارها
الاقتصادية والسياسية إلا هي؛ ولا بأس بعد ذلك من أن يقوم بل كلينتون بجولة
يعزي فيها الضحايا ويوهمهم بحسن نوايا حكومته تجاههم. وهذه النزعة الاستعلائية
نفسها هي التي تعتمدها أمريكا اليوم في تعاملها مع الملف السوداني والصومالي
الذي أوكلت مهمة البحث في شؤونه إلى هذه الدول ذاتها التي تؤلبها بين الحين
والآخر على الزحف نحو الخرطوم بعد أن جربت هي الخوض فيه عسكرياً،
وآثرت الانسحاب بعدما أصابها من جرح وقرح مهين. وآثرت تنفيذ سياساتها فيه
عبر حلفائها. وعلى ضوء تلك السياسات تجري الترتيبات في الصومال، وتصر
على احتكار الملف الصومالي، وحصره قدر الإمكان في أيد أمينة ووفية من دول
القرن الأفريقي تجد في إضعاف الصومال وتفتيته إلى دويلات قبلية متنازعة إنجازاً
ضرورياً لغرض هيمنتها الإقليمية التي تنسجم وتتناغم تماماً مع سياستها المعروفة،
ولعل التحرك المصري الأخير سواء في الإطار السوداني، أو الصومالي جاء نابعاً
من وعي وإدراك أهداف هذه السياسة وأبعادها الخطيرة، ولم تكن تصريحات القيادة
المصرية التي تناقلتها وكالات الأنباء مؤخراً، واتهمت فيها دولاً بمحاولة عزلها عن
شؤون الصومال إلا تأكيداً لرفض كل سياسات التقسيم التي تحاك لحل الأزمة
الصومالية.
والإدارة الأمريكية بسياساتها هذه لا تعمل أبداً لاستقرار الأحوال الأمنية في
أفريقيا، ولا تحمل أجندتها توسيع نطاق الديمقراطية فيها كما تدعي، ومن السذاجة
أن نتصور ذلك؛ ونحن نراها تتحالف مع أنظمة بطشية غير ديمقراطية؛ وماذا
يمكن أن يعني هذا سوى أن الديمقراطية التي تلوِّح بها إنما هي للتسلط على من لا
ينضوي تحت لوائها، وهذا هو سر التحالف مع نظام ديكتاتوري غير ديمقراطي
في إريتريا يسوغ تدخلاته العسكرية والسياسية في السودان بإعادة الديمقراطية فيه!
ولا غرابة في هذا؛ فإن (جين كير كبارتريك) سفيرة الولايات المتحدة في الأمم
المتحدة في عهد (ريجان) تقول: (إن إجبار حلفاء أمريكا على تبني الديمقراطية بين
عشية وضحاها، أدى إلى جعل دولتين حليفتين في ذلك الوقت هما: إيران
ونيكاراجوا دولتين معاديتين تحكمهما أنظمة دكتاتورية متطرفة.. وأكدت أنه ينبغي
علينا عدم تشجيع الديمقراطية في وقت تكون فيه الحكومة المؤيدة من قِبَلِنا تصارع
أعداءها من أجل البقاء) [2] .
والنظام في إريتريا حسب التحليل الأمريكي يواجه مداً أصولياً وافداً من
السودان؛ ومن مصلحة السياسة الأمريكية خنق الديمقراطية ودفنها في إريتريا
بحجة أن تشجيعها وفرضها على النظام الحاكم في أسمرا سيعزز من موقف ما
يسمونه بالأصولية في المنطقة، هذا في حين أن إدارة (كلينتون) استخدمت القوة
لإعادة الرئيس الهاييتي بذريعة أنه منتخب ديمقراطياً، وحالت دون انقلاب عسكري
في غواتيمالا، فما لهذه الازدواجية من تفسير سوى أن الديمقراطية يمكن مقايضتها
بمنافع أخرى، ويؤكد هذا التفسير ما أورده (روبرت كاغان) صاحب كتاب (القوة
الأمريكية ونيكاراجوا) عن (توماس كارويترس) من أن (الإدارة الأمريكية خجلت
وتجنبت الضغط بشدة من أجل الإصلاح الديمقراطي في نيجيريا التي يوجد بها
بترول، والتزمت الصمت حيال التوجه نحو الحكم الأوتوقراطي الاستبدادي في
كازاخستان مصدر البترول ... ورغم أن الإدارة كانت ترغب في تطبيق عقوبات
ضد بلد صغير وقليل الأهمية كبورما وذلك لقمعها الحركة الديمقراطية.. إلا أن
اهتمامها بالتصرفات الاستبدادية للأنظمة الحاكمة في كل من الصين وإندونيسيا قد
تراجع أمام طمع الشركات الأمريكية في الأسواق البكر) .
ويضيف (روبرت) قائلاً: والجميع يتفق على أنه من الخطر دعم الديمقراطية
بجميع صورها في العالم الإسلامي إلا بشكل جزئي في تركيا! ! .. أما بالنسبة
للشعوب الإفريقية فإذا قررت الدول هناك إجراء انتخابات فهذا من دواعي السرور،
أما إذا تم إلغاؤها، أو بدؤوا في ذبح بعضهم البعض فيمكننا أن نرقد هانئين؛ لأننا
نعرف أن هؤلاء لم يكونوا جاهزين للانتخابات ابتداءً) [3] .
فأي انفراج وتطور تُحمل عليه إذن زيارة (كلينتون) لأفريقيا؟ والسياسةُ
الأمريكية تنطلق في نظرتها للشعوب من هذه الزاوية المجحفة، وتتعامل لمجرد
تكريس نفوذها مع أنظمة قمعية تسلطية تهين شعوبها، وتنتهك حقوق الإنسان
والمواطنة، وتتلقى من العون الأمريكي ما يقوِّي وجودها، ويطيل أمدها في
مواجهة إرادة شعوبها المتطلعة إلى التنمية وسيادة نظام سياسي تصان في ظله كرامة
المواطن، ولا يؤمم حقه في التعبير السياسي.
ليس من مصلحة أفريقيا أن تنقاد لأمريكا وتستسلم لهيمنتها؛ وقد فطنت بعض
القيادات الأفريقية إلى خطورة هذه الهيمنة على مستقبل القارة، وحذرت من
الانسياق خلفها وطالبت الأمريكان بترك أفريقيا وشؤونها حيث انتقد (نلسون مانديلا)
أطروحات (كلينتون) التي رأى فيها تجاوزات تربط مصالح القارة الأفريقية بمؤخرة
قطار المصالح الأمريكية، كما أنه ليس من القراءة الواعية أن ننظر إلى جولة
كلينتون هذه أكثر من كونها تعزيزاً للمصالح الأمريكية مقابل المصالح الفرنسية،
ولا يمكن أن تمثل هذه الجولة في تحليل الفرنسيين إلا عاملاً من عوامل النشاط
الأمريكي الذي بات يشكل مصدر قلق مؤرق بالنسبة لهم؛ لما يرون فيه بوضوح
من محاولات إقصائهم عن مواطن نفوذهم، أو مزاحمتهم فيها على الأقل، ولكن إذا
كان من حق كل الأمم والشعوب الحفاظ على مصالحهم الحيوية والبحث عما يقوي
نفوذهم فأين الأنظمة العربية من كل ما يجري حولها؟ ولماذا تتعامل مع هذه
الأحداث بمنتهى البرود، وكأنها لا تمس مصالحها؟ حقاً لو كان العرب يدركون
أهمية العمق الأفريقي لاستراتيجياتهم الأمنية في صراعهم مع اليهود لما تركوا
الوضع الصومالي يتردى إلى هذه المأساة المؤلمة. ومن السخرية أن ينأى العرب
عن حل قضايا الصومال والسودان ويتركوها تتفاقم ليجد فيها الآخرون مجال عبث
ولعب، ومن السخرية أن ينظر العرب إلى حلفائهم وامتداد حضارتهم في القارة
الأفريقية نظرة اللامبالاة؛ صحيح أنهم يعيشون وضعاً استثنائياً يعكس ضعفهم
وتشرذمهم؛ ولكن ومهما كان هذا الوضع فلا يعفيهم من تحمل مسؤولياتهم،
والتحرك لقطع الطريق على الطفيليات الصهيونية التي تنشط ضد المصالح العربية
والإسلامية في القارة الأفريقية؛ وإلا فإنهم سيجدون أنفسهم وقد تجردوا من كل
مواقع التأثير والتغيير على الشعوب الأفريقية؛ وليس هذا فقط؛ وإنما أيضاً مهددة
في قلب دارها وعمق عواصمها في أعز ما تملك من زرع وضرع، ونبع نفطي،
ومائي؛ فهل من يقظة بعد غفلة، وعودة بعد غيبة، وحركة بعد جمود؟ ! ذلك ما
نأمله ونرجوه.
والله فوق كيد الكائدين.