مجله البيان (صفحة 278)

قراءة فى فكر مالك بن نبى (1)

نقد

قراءة في فكر مالك بن نبي

محمد العبدة

إذا عُدَّ المفكرون من المسلمين في هذا العصر فإن مالك بن نبي هو من هذه

القلة الذين ينطبق عليهم هذا الوصف؛ فالمفكر هو الذي يدرس ويتأمل ويقارن

ويحلل المشكلة إلى أجزائها، ثم ينسق ويركب ويجتهد في إيجاد الحلول.

وقد ترددت كثيراً قبل الكتابة عن مالك بن نبي؛ لا لأنه عميق الغور،

غوَّاص في البحث والتنقيب، أو لأن تتبع آرائه وأفكاره يحتاج إلى جهد، بل لأنه

يطرح أفكاراً وآراءً لا تتناسب مع عمق تفكيره، يقف الإنسان أمامها حائراً: من

أين جاءته؛ وما هي الخلفية الثقافية التي جعلته يتبنى هذا الرأي أو ذاك؛ وهل هو

مؤيد أم معارض؟ وقد كان ذلك التردد وإعادة القراءة مرات ومرات حتى لا نظلمه، وليستبين الحق وتتضح الصورة، وتحل الإشكالات.

إن الكتابة عن مالك بن نبي ضرورية للأجيال التي يجب عليها أن تتعرف

على ما كتبه أصحاب الخبرة والتجربة في مجال الصراع الفكري المحتدم بين أوربا

المستعمرة والعالم الإسلامي منذ نهاية القرن الثامن عشر، فلم يعد من المجدي طرح

الحلول العامة والعائمة ولابد من الدخول في التفاصيل، ومعرفة أسباب الفشل

وأسباب النهضة، ولكن العجب لا ينقضي عندما ندرك أننا في كثير من الأحيان لا

نستفيد مما كتبه السابقون لنا الذين تصدوا للإصلاح في أوائل هذا القرن.

يقول الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر - في تقديمه لكتاب (في مهب المعركة) مصوراً هذه الظاهرة: (فإذا نحن نرى أنفسنا في ضوء ما كَتب قديماً، كأننا لم نتقدم خطوة في فهم البلاء الذي ينزل بنا ولا يزال ينزل، وأشد النكبات التي يصاب بها البشر نكبة الغفلة ... ) [1] .

ولمالك مشكلة خاصة في انصراف بعض الشباب المسلم عن قراءة إنتاجه

الفكري، وهي إحدى الأسباب وليست السبب الوحيد على كل حال؛ فقد كتب سيد

قطب رحمه الله:

(لقد كنت أعلنت مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان نحو مجتمع

إسلامي متحضر) ثم عدت في الإعلان التالي عنه فحذفت كلمة (متحضر) ، ولفت

هذا التعديل نظر كاتب جزائري (يكتب بالفرنسية) ففسره على أنه ناشئ عن (عملية

دفاع نفسيه داخلية عن الإسلام) وأسف لأن هذه العملية - غير الواعية - تحرمني

مواجهة المشكلة على حقيقتها.

أنا أعذر هذا الكاتب ... لقد كنت مثله من قبل ... كانت المشكلة عندي -كما

عنده اليوم- هي مشكلة (تعريف الحضارة) .. ثم انجلت الصورة (المجتمع المسلم)

هو (المجتمع المتحضر) " [2] .

وفهم الشباب المسلم أن هذا الكاتب الجزائري واقع تحت ضغط آتٍ من

مصادر أجنبية، فكان ذلك سبباً لابتعادهم عن قراءة فكر مالك، ولكن القضية هي

قضية مصطلحات؛ فمالك يتكلم عن المجتمع الإسلامي الموجود وأنه يحتاج إلى

رفعه إلى مستوى الحضارة حتى يستأنف دوره - وطبعا لا يعني هنا الحضارة

الغربية وإنما الحضارة بتعريفه هو - وسيد يتكلم عن المجتمع الإسلامي المنشود

وأنه إذا وُجد فثَم الحضارة، والإسلام هو الوحيد الذي ينتج حضارة متكاملة، ولا

شك أن سيداً - رحمه الله - أنقى وأوضح تصوراً وفكراً، وهو ينظر إلى الحضارة

الغربية من علٍ؛ لأنه المسلم المتميز بعقيدته وتصوراته، ولكن مالكاً هنا يبحث في

التفاصيل والجزئيات، وكيف يركبها لينتقل بالمسلم من حالة التخلف والركود إلى

حالة (الإقلاع) للدخول في دورة الحضارة مرة ثانية، وسيد يرى استيراد النظريات

العلمية (مجردة) ومالك يقول: هذه الأشياء المستوردة هي نتاج حضارة وثقافة،

هذه الأشياء صنعها علم النفس وعلم الاجتماع أيضاً، ولذلك سواء استوردناها أو

صنعناها لابد أن تكون هناك ثقافة تحيط بها حتى تضعها في مكانها المناسب،

وحتى لا تتحول إلى (تكديس) وهذه الثقافة هي الثقافة الإسلامية..

إن ظاهرة انصراف بعض الناس عن فكر معين - بسبب كلمة تقال من عالم

مشهور - ليست جديدة ولا غريبة، فعندما ترجم أحد العلماء للمؤرخ ابن خلدون؛

تكلم فيه وانتقد عليه بعض التصرفات الشخصية عنده، فكان ذلك من أسباب

إعراض الناس عن (المقدمة) التي تعتبر أعظم ما أنتجه المسلمون في علم الاجتماع

وفن النقد التاريخي، ولمالك إيجابيات كثيرة سنتكلم عنها إن شاء الله، وله أخطاء،

ولابد من عرض كليهما حتى يتبين وجه الصواب لمن أراده، وهو واضح جلي

والحمد لله.

نبذة عن حياته:

وُلد مالك بن نبي في مدينة قسنطينة في الجزائر عام 1905، ونشأ في أسرة

فقيرة؛ لأن جده لأبيه هاجر إلى طرابُلس الغرب احتجاجاً على الاستعمار الفرنسي

وحمل معه كل أملاك العائلة، هذا الميلاد جعله يتصل بالماضي عن طريق من بقي

حياً من شهوده [3] .

انتقل والده إلى (تبسة) فعاش فيها طفولته وكانت هذه المدينة الصغيرة بعيدة

نوعاً ما عن (الحضور الفرنسي) وذلك لاحتكاكها بالقبائل المجاورة؛ فحفظها الطابع

البدوي عن الاختلاط مع الفرنسيين، وفي (تبسة) كان يدرس في الصباح العربية

والقرآن ثم يذهب في الساعة الثامنة إلى المدرسة الحكومية الفرنسية، وفي المرحلة

التكميلية كان يتابع دروس العربية والدين، وكانت المدرسة الفرنسية تشجعه على

المطالعة عن طريق إعارة الكتب.

تعرَّف على تلاميذ ابن باديس من الشباب، وشعر أنه - وإياهم - على خط

فكري واحد، وكان يقرأ (الشهاب) و (المنتقد) قبلها ولكنه لم يتصل بالشيخ ابن

باديس ولا تتلمذ عليه، وفي (تبسة) حيث تعيش أسرته لم يتتلمذ أو يؤيد تأييداً قوياً

الشيخ العربي التبسي، وكأن هناك حاجزاً نفسياً بينه وبين المشايخ، ويعترف بعد

ربع قرن: (حينما تفحصت شعوري حول هذا الموضوع تبين لي أن السبب يكمن

في مجموعة من الأحكام الاجتماعية المسبقة، وفي تنشئة غير كافية في الروح

الإسلامي) [4] ، ويتابع الحديث عن الأسباب الاجتماعية: (فأحكامي المسبقة ربما

أورثتنيها طفولتي في عائلة فقيرة في قسنطينة، زرعت لاشعورياً في نفسي نوعاً

من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة التي كان الشيخ العربي ينتمي إلى واحدة

منها) [5] ، وكنت أعتقد أنني أقرب إلى الإسلام بالبقاء قريباً من البدوي أكثر من

البلدي الرجل الذي يحيط به وسط متحضر، وكان الشيخ العقبي يبدو في ناظري

بدوياً، بينما يبدو الشيخ ابن باديس بلدياً [6] ، فقد تبين لنا أسباب جفائه لزعماء

جمعية العلماء وهو شاب، أما عندما نضج فكرياً فسيكون له موقف مبني على أسس

عنده سنتكلم عنها إن شاء الله.

بعد الانتهاء من الثانوية عمل متطوعاً في محكمة (تبسة) وهناك تعرف - من

خلال تجوال أعضاء المحكمة في الريف - على رجل الفطرة الذي يستضيف

أعضاء المحكمة رغم أنهم حكموا عليه بالضرائب والغرامات، ثم عمل موظفاً في

محكمة (أفلو) التي تقع جنوب وهران في غرب الجزائر، وهناك أيضاً تعرف على

الكرم العربي والفطرة الصادقة: (فالناس في المدن لا يستطيعون فهم هذه العقلية أو

ذاك النبل في عروق البدوي) [7] ، وتعرف على فضائل الشعب الجزائري قبل أن

يفسده الاستعمار، ثم انتقل للعمل في محكمة (شاتودان) ولم يطق معاملة موظفيها؛

فاستقال وتوجه إلى فرنسا وذلك عام 1930م في محاولة للانتساب إلى معهد

الدراسات الشرقية، ولكن طلبه رُفض؛ لأن الدخول لهذا المعهد - كما يقول هو -

لا يخضع لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي.

انتسب إلى مدرسة اللاسلكي ودرس الكهرباء والميكانيكا، وهذه الدراسة

أعطته بُعداً آخر يقول عنها: (فتح لي عالم جديد يخضع فيه كل شيء إلى المقياس

الدقيق للكم والكيف، ويتسم فيه الفرد-أول ما يتسم-بمَيزات الضبط والملاحظة) [8] ... ولكن دخوله مع العمل الطلابي المغربى وتعرفه على صديقه (حمودة بن ...

الساعي) بدأ يغير من اتجاهه العلمي إلى التعمق في الدراسات الاجتماعية. ...

تخرج مهندساً كهربائياً عام 1935 وبدأ رحلة شاقة في البحث عن عمل في ...

البلاد العربية وغيرها، وكانت الأبواب توصد في وجهه دائماً وسبب ذلك في

رأيه هو أنه أراد تمزيق شبكة الاستعمار ولم يدرِ أن سمك القرلق (الاستعمار) كان

له بالمرصاد.

زار الجزائر في هذه الفترة، ولاحظ وقوع الناس في حُمى الانتخابات والدجل

السياسي بعد المؤتمر الجزائري.

عاد إلى فرنسا في مطلع الحرب العالمية الثانية مودعاً الجزائر بهذه العبارة:

(يا أرضاً عقوقاً! تطعمين الأجنبي وتتركين أبناءك للجوع، إنني لن

أعود إليك إن لم تصبحي حرة!) ، وبقي في فرنسا حتى عام 1956 أصدر فيها

باللغة الفرنسية: (الظاهرة القرآنية) ، (شروط النهضة) ، (وجهة العالم الإسلامي) ، (الفكرة الإفريقية الآسيوية) .

زار مصر عام 1956 وبقي فيها حتى عام 1963، وكان له في مصر تلاميذ

وأصدقاء، وزار خلالها سورية ولبنان ألقى فيها المحاضرات حول موضوع

(مشكلات الحضارة) ، وفي القاهرة أصدر: (حديث في البناء الجديد) ، (مشكلة

الثقافة) ، في مهب المعركة، (تأملات في المجتمع العربي) .

عاد إلى الجزائر عام 1963 حيث عُين مديراً عاماً للتعليم العالي وأصدر في

الجزائر: (آفاق جزائرية) ، (يوميات شاهد للقرن) ، (مشكلة الأفكار في العالم

الإسلامي) ، (المسلم في عالم الاقتصاد) .

استقال من منصبه عام 1967 وتفرغ للعمل الفكري.

توفي في 31/10/1973 في الجزائر - رحمه الله وغفر له -.

شخصيته:

يجتمع في مالك بن نبي خطان رافقاه طوال حياته، فهو شخصية عاطفية،

خيالية أحياناً، يفكر بأحلام الفلاسفة ويهيم بالتجريد. يقول عن نفسه: (أنا شديد

التأثر بالحدث، وأتلقى صدمته بكل مجامعي وبانفعالية تستطيع أن تنتزع مني دموع

الحزن حين يثير الحدث الحبور من حيث المبدأ) [9] وقد بكى عندما اندحر الجيش

الفرنسى أمام ألمانيا عام 1940 مع أنه يكره الاستعمار الفرنسى، ويعلق هو على

هذا التصرف: (رأيت في ذاتي عنصراً آخر كشف كل التعقيد في ضمير مسلم) [10] ولم يوضح ما هو هذا العنصر الآخر ولكن يبدو لي أنه عدم التوازن بين القيم

الأخلاقية وأيها يصلح لتطبيقه على الحدث، وعندما سمع حديث والدته وذكرياتها

عن الحج لم يستطع حبس دموعه فكان يتظاهر بالعطش ليخرج إلى الشرفة فيطلق

العنان للدمع [11] .

هذه العاطفة أنتجت له شخصية حالمة أحياناً، فعندما يسمع ويقرأ عن شاعر

مثل (طاغور) تتفتح أمامه الأحلام عن الشرق وأن الإنقاذ ربما يأتي من روحانية

الهند كما يسميها، وعندما يسمع بأنباء الخلاف بين الملك عبد العزيز آل سعود

وإمام اليمن يكتب رسالة إلى سفارة اليابان يدعو حكومتها للتدخل باسم التضامن

الآسيوي لمساعدة ابن سعود حتى لا تتمزق الجزيرة العربية، وطبعاً لم يستجب

(الميكادو) لطلبه!

وفي الجانب الآخر نجد شخصية مالك الناقد المحلل الذي يمتلك القدرة الفائقة

على النفاذ لأعماق المشكلة وبيان أسبابها، من خلال النظرة العلمية الصارمة، ومن

خلال اطلاع واسع على الثقافة الغربية وكيف تنشأ الحضارات مع معرفة بواقع

المجتمعات الإسلامية من خلال معرفته الشخصية بالمجتمع الجزائري، وهو في

مقارناته وتحليلاته يشبه سلفه المغربي المؤرخ ابن خلدون، حيث تلتقط الذاكرة كل

جزئية وكل حادثة ثم يبدأ التحليل والمقارنة ثم يخرج بالنتائج التي يرتضيها، يقول

عن سكان (أفلو) عندما عمل عندهم كمساعد في المحكمة:

(فملكية الإنسان لأرض ما تخلق في نفسه غرائز اجتماعية قد سلم منها

الراعي، ففي دعوى أمام القضاء في (تبسة) يستطيع كل فريق أن يقدم عشرة شهود

زور بالمجان، وشهود كل واحد من الطرفين سيحلفان أنهما يقولان الحقيقة، أما في

(أفلو) فقد لاحظت الرجل يرفض غالباً أن يحلف ولو كان ذلك لدعم حقه ... الواضح) [12] .

وعندما أراد القيام بعمل علمي مشترك مع صديقه (ابن الساعي) فشلت

المحاولة؛ فعلق قائلاً: (ولم أكن أعلم أن العمل الجماعي بما يفرض من تبعات إنما

هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بعد خصوصاً بين

مثقفيه) [13] .

هذان الخطان استمرا في حياة ابن نبي، فالعاطفة التي تجمح إلى الخيال

أحياناً جعلته يعقد في الخمسينات آمالاً كباراً على مؤتمر باندونغ وظن أنه سيحل

مشكلة العالم الثالث، ومن رفات (غاندي) سينطلق يوماً انتصار اللاعنف ونشيد

السلم العالمى [14] . كما استمر النقد التحليلى المجتمع الإسلامي ومواطن الضعف

فيه فتكلم عن الذين يظنون أن الإصلاح يبدأ من (علم الكلام) كالشيخ محمد عبده،

يقول: (إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي في أن

نشعره بوجوده ونملأ به نفسه) [15] .

ويكتشف مالك جرثومة المرض، فالذين تركوا الطواف حول القبور وأخذ

البركات من الدرويش لم يستطيعوا الاستمرار فتحولوا إلى الطواف حول وثن جديد

وهو وثن الأحزاب السياسية والانتخابات [16] ، ولأن العمائم أسلمت القيادة إلى

(المطربشين) ؛ لأن العلماء لم يكونوا على جانب من الخبرة بوسائل الاستعمار في

مجال الصراع الفكري حتى يفطنوا إلى هذا الانحراف (الغوغائية السياسية) .

العوامل المؤثرة في ثقافته:

1 - وُلد مالك بن نبي في عصر سمع فيه من جدته لأمه قصص الاحتلال

الفرنسي للجزائر، وعاش مأساة بلد يخطط الاستعمار لشل فاعليته، ومن ثم

لتحويله إلى فريسة سهلة الالتهام، عاشها مالك يوماً بيوم في المدرسة الفرنسية حيث

لا يسمح (لابن البلد) إكمال الدراسة الثانوية التي تؤهله للدراسات الجامعية،

وعاشها في تحول المجتمع عن فطرته وكيف ساد الصعاليك بمعونة الإدارة الفرنسية، وكيف أصبحت العائلات العريقة فقيرة، ذليلة بسبب الاستيلاء على أراضيها،

وكان اليهود هم الواسطة لانتقال الملكية من أبناء البلاد إلى أبناء المستعمر؛

فاليهودي دائماً كان يقرض بفائدة 60%، وعندما درس في فرنسا وعاش مع الجالية

الجزائرية رأى الاستعمار من زواياه المختلفة، وشعر بخبث الأساليب التي يقوم بها

لتمزيق العالم الإسلامي.

2 - القراءات الغزيرة المتنوعة، فقد بدأ بالقراءة منذ أن كان صغيراً في

الابتدائية، وقرأ كتب علم النفس والاجتماع وهو لا يزال في المرحلة الثانوية،

وكان يقرأ كل الصحف التي تصل إلى قسنطينة أو تبسة، ولا شك أن هذا الاطلاع

الواسع على الثقافة الغربية هو في جانب منه على حساب الثقافة الإسلامية وكان له

أثر عليه أيضاً، فكثرة قراءاته لأعمال الفلاسفة جعلته يعتبر عصر الفارابي عند

المسلمين هو عصر خلق الأفكار مع أن الفارابى وأمثاله لم يقدموا شيئاً يذكر

للحضارة الإسلامية، وكانت نغمة (الإنسانية) و (العالمية) سائدة عند الفلاسفة

الغربيين، ونجد مالك يكررها فيتكلم عن حضارة اليوم التي تسير نحو الشمول

والعالمية [17] ويستعمل أحياناً عباراتهم التي هي نتيجة انفصام عندهم بين الدين

والعلم مثل قوله: (إن الطبيعة توجد النوع ... ) [18] أو وهبته الطبيعة.

3 - ثقافته الإسلامية: يعترف مالك بأن الذي كان يرده عن الغلو في هذا

الاتجاه (القراءات الكثيرة للفكر الغربي) هو ما كان يتلقاه من دروس في التوحيد

والفقه، وقراءاته للكتب التي تأتي من المشرق العربي مثل: (الإفلاس المعنوي

للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا، و (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده،

و (طبائع الاستبداد) للكواكبي، والمجلات الإسلامية الجزائرية مثل (الشهاب) التي

يصدرها الشيخ ابن باديس، ولا شك أن ثقافته الشرعية ضعيفة ولكن عنده اطلاع

على التاريخ الإسلامي وقدرة على فهم الآيات والأحاديث التي تتعلق بسنة التغيير

الاجتماعى وبسبب عمق تفكيره وتحرُّقه على العالم الإسلامي كان يرى أن بذرة

عودة الوعي للأمة الإسلامية هي في حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي

يعتبرها امتداداً لما قام به ابن تيمية في التجديد، ولنفس السبب أيد جمعية العلماء

في الجزائر وكان يعقد الأمل عليهم في الاصلاح وإن اختلف معهم بعدئذ، ولبُعده

عن المشرق ولضعف ثقافته الشرعية كان يمجّد جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد

عبده ويرى أن الأول هو مصلح الشرق؛ فثقافته الإسلامية خليط من آراء مدرسة

الأفغاني ومحمد عبده ومن فهمه لآيات القرآن وسنن التغيير، وأنه لابد من الرجوع

إلى طريقة القرآن والسنة في رفع الناس إلى مستوى الروح كما يعبر هو، والحقيقة

أنه يجمع أشياء متناقضة وإن بدت منسجمة بالنسبة له.

4 - ومن المؤثرات الواضحة في شخصيته ما عاناه من الفقر الشديد في

طفولته، وحياة النَّصَب والتعب التي عاشها في شبابه بحثاً عن العمل، سواء في

الجزائر أو فرنسا، فقد عمل بعد تخرجه من الثانوية في مصنع للأسمنت في مدينة

(ليون) بفرنسا، فكان يحمل الأكياس على ظهره، ومرة باع بعض ملابسه حتى

يوفر وجبة غداء، وبعد تخرجه من الهندسة طرق أبواب العمل في الدول العربية

والإسلامية ولكن دون جدوى.

هذه الأوضاع النفسية جعلته يكره - وهو صغير - الدور المترفة التي كانت

تفضح أمام ناظريه بؤس أقاربه، وأحكامه المسبقة كانت بسبب العيش في عائلة

فقيرة زرعت لاشعورياً في نفسه من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة [19] ،

وكان يعجبه مطالعة صحيفة (الإقدام) التي يصدرها الأمير خالد الجزائري والتي

كانت تركز على موضوع الفلاح الجزائري وبؤسه.

هذا ما يفسر لنا ميله للدول التي بدأت بتطبيق الاشتراكية كالجمهورية العربية المتحدة [20] والجزائر بعد استقلالها [21] ، وبتأثير من هذه الدول كان يظن أن الاتحاد السوفييتي ليس عنده مُناخ استعماري وهو صديق للشعوب! ...

-يتبع-

طور بواسطة نورين ميديا © 2015