تأصيلات دعوية
مبارك عامر بقنه
الاختلاف بين البشر ظاهرة طبيعية، وأمر فطري؛ وذلك لاختلاف عقولهم
وأفهامهم وتعدد رغباتهم وأهوائهم مما يؤثر في تصورهم للأشياء، ومن ثَمّ حكمهم
على الأمور. وبعض الاختلاف قد يكون سائغاً ومقبولاً؛ وذلك إذا كان الاختلاف
في الأمور الاجتهادية التي ليس فيها نص قطعي الدلالة والثبوت؛ فهذا لا ضير فيه
إذا بذل الإنسان فيه وسعه وكان قصده الحق من غير تعصب ولا هوى متبع؛ فإنه
يكون مأجوراً وإن أخطأ، وهذا الذي وقع بين الصحابة - رضي الله عنهم - وهو
الذي يكثر وروده في كتب الفقه. وهذا النوع هو اختلاف تنوع لا يوجب شقاقاً أو
نفرة. قال يحيى بن سعيد: (ما برح المستفتون يُستفتون، فيحل هذا، ويحرم هذا، فلا يرى المحرِّم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحلل أن المحرِّم هلك
لتحريمه) [1] .
وأما الاختلاف في أصول الدين كالاختلاف في الألوهية أو الربوبية أو
الأسماء والصفات أو في الرسل أو في القرآن، أو نحو ذلك من أصول الاعتقاد،
فإنه لا يسيغ الاتفاق والاجتماع على ذلك؛ لأن في ذلك فساد الدين، ونصر الباطل، وتأييد أهل البدع على بدعتهم، بل يجب أن يكون موقفنا ممن خالف أمراً معلوماً
من الدين بالضرورة الافتراق؛ لأن التعاون والتكاتف لا يكون على حساب الدين
والقيم ومبدأ الإسلام. فإن الجماعة والوحدة المطلوبة هي ما وافقت الحق ولو كانت
فئة قليلة. قال عمرو بن ميمون الأودي: (صحبت معاذاً باليمن، فما فارقته حتى
واريته التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود - رضي الله
عنه - فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوماً
من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا
الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة. قال: قلت: يا
أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة
وتحضني عليها، ثم تقول: صلِّ الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصل مع
الجماعة وهي نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه
القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا. قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا
الجماعة؛ الجماعةُ ما وافق الحق، وإن كنت وحدك) [2] .
وتشتد حاجة الأمة في هذا العصر إلى الوحدة والترابط بالمفهوم الشامل،
فالعالم اليوم يسعى إلى التضامن والتوحد من أجل السيطرة والبقاء، فنحن نعيش في
عصر التكتل والجماعات؛ فلا بقاء للوحدة والانفراد. فلا بد أن يكون في حس
الداعي إلى الله الدعوة إلى ائتلاف القلوب، ووحدة الصف، وجمع الكلمة على
الحق، ونبذ الفرقة والشقاق: [وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ]
[المؤمنون: 52] . فهذا هارون - عليه السلام - عندما عبد بنو إسرائيل العجل
نهاهم عن ذلك وحذرهم وقال لهم: [يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ
فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي] [طه: 90] ، فلما رجع موسى - عليه السلام - عاتب
هارون - عليه السلام - بسبب تأخره عنه؛ حيث لم يلحقه فيخبره بما حدث، فكان
جواب هارون - عليه السلام: [إنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ
تَرْقُبْ قَوْلِي] [طه: 94] ، فاعتذر بعدم اللحاق به بأنه خشي فرقة بني إسرائيل،
فحرص على وحدة قومه واجتماعهم على ما فيهم من منكر عظيم إلى أن يرجع إليهم
موسى - عليه السلام - فيحكم بينهم.
فالاختلاف والتفرق من أشد العوامل التي تنخر في جسد الأمة حتى تجعلها
كالخشبة المسندة، تسقطها أدنى ريح، وتقلعها أهون عاصفة. فالاختلاف يسبب
العداوة والبغضاء والتحزب والتقاتل؛ ولذلك جاء النهي عنه والتحذير منه في آيات
وأحاديث كثيرة، كقوله - تعالى: [وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشرِكِينَ (31) مِنَ الَذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] [الروم: 31-32] وقوله -
تعالى: [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] [الشورى: 13] ، وقول النبي: (أيها
الناس عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة. ثلاث مرات) [3] . وقوله: (لا تختلفوا،
فإن من كان قبلكم اختلفوا، فهلكوا) [4] .
ومع هذا التحذير إلا أننا نجد أن الشارع الحكيم قد أخبر أن الاختلاف واقع في
هذه الأمة قَدَراً وأنه لا مفر منه قال - تعالى: [وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ]
[هود: 118- 119] ففي رواية عن الحسن البصري أنه قال: (وللاختلاف خلقهم) [5] . وفي الحديث: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) [6] والجمع بين الأخبار التي وردت بأن الاختلاف واقع في هذه الأمة وبين النهي عن الاختلاف والتفرق، هو أن الاختلاف لا بد أن يقع على هذه الأمة ولكن ليس على جميعها، فالله عصم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من الضلال؛ فلا تزال طائفة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك؛ ففي الأوامر الشرعية حث على الاعتصام بهذه الطائفة المنصورة التي تسترشد بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإن خالف من خالف؛ ففي النهي عن الاختلاف تكثير لهذه الطائفة المنصورة، وتثبيتها، وزيادة إيمانها [7] .
وكذلك فيه أمر بالمعروف وإنكار على هذا الاختلاف والتفرق؛ فهو لا يعني
الاستسلام للخلاف وعدم المحاولة في إزالة أسبابه، وقلع جذوره؛ لا، ليس هو
كذلك؛ فنحن مطالبون شرعاً بالاعتصام والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف.
فيجب أن نفرق بين الأمر الشرعي والأمر القدري. فعلينا أن نسلك الأسباب
والآداب التي تمنع الاختلاف والتشتت؛ ومن هذه الأسباب:
1- الاعتصام بالكتاب والسنة: فأحكام الله ورسوله جاءت لتؤلف القلوب،
وتوحد الصف [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [الأنعام: 153] . فالرجوع عند التنازع إلى
كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من أنجع السبل في الوقاية من داء
الاختلاف، كما قال الله - تعالى: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاًوِيلاً] [النساء: 59]
ونستضيء بفهم السلف الصالح لفهم نصوص الوحي حتى لا نضل وتموج بنا
الأهواء، فلا تقدم الآراء والعقول على الوحي المطهر فتلوى أعناق النصوص
وتُؤول لتوافق شهوة في النفس، فترد الأخبار الصحيحة ويصبح الدين لا مرجعية
له إلا الآراء والعقول الفاسدة.
وفي هؤلاء يقول عمر - رضي الله عنه: (أصبح أهل الرأي أعداء السنة؛
أعيتهم أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا
نعلم) [8] .
2- العلم والفهم بالمسألة المختلف فيها: فكثير ما تحدث الخلافات في القضايا
بسبب عدم الإلمام بالمسألة من جميع جوانبها، فلو أحاط الشخص بالمسألة لوجد أن
هناك متسعاً في الأمر. (فكثيراً ما يؤدي الاهتمام بناحية - أي ناحية - على حساب
الفهم الكلي إلى الانحراف عن الطريق السوي، ولعل هذا من أكبر أسباب نشوء
الفرق الإسلامية) [9] . قال ابن تيمية: (أكثر ما يكون المنازعة في الشيء القليل
قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه) [10] . قال الشاطبي: (الاختلاف في بعض
القواعد الكلية لا يقع في العادة الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة، الخائضين
في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها) [11] ، فقد يعتقد الإنسان في
نفسه - بعد قراءته لبعض الكتب - أنه من أهل العلم والاجتهاد، فإذا به يتصدر،
ويخالف العلماء ويقول برأيه، فيهدم من حيث لا يدري، ويضل الناس من حيث لا
يشعر، فعن ابن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي لله قال: (إن الله لا يقبض
العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق
عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) [12] . قال بعض العلماء: تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قِبَلِ
علمائهم، وإنما يؤتون من قِبَلِ أنه إذا مات علماؤهم؛ أفتى من ليس بعالم، فيؤتى
الناس من قِبَلِهِ [13] .
3- التثبت والتبين: فكثير من الناس يحكمون على الآخرين من خلال ما
يسمعونه عنهم من غير أن يكلفوا أنفسهم السؤال والتحري عن حقيقة ما سمعوا؛ قد
يكون ما سمعوه هو من اختلاق بعض المغرضين القاصدين للفرقة والنزاع في
الصف الإسلامي. والتثبت مما نسمع هو من منهج الأنبياء - عليهم صلوات الله
وسلامه -، فهذا سليمان - عليه السلام - يقول للهدهد بعد أن أخبره الخبر:
[سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ] [النمل: 27] وقد عاتب الله داود في ... حكمه للخصمين قبل أن يسمع ويتثبت من الآخر، قال النحاس: (ويقال إن خطيئة داود هي قوله: [لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ] [ص: 24] لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت) [14] والله - سبحانه - يقول: [إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فََتَبَيَّنُوا]
[الحجرات: 6] . ومن أصول التثبت في الأخبار هو النظر في عدالة المخبر، وضبطه لما ينقل، والتبين ممن أخذ المخبر؛ فقد يكون أخذه من كاذب، ثم النظر في هذا الخبر قبل الحكم على الأمر؛ فقد يحتمل أوجهاً متعددة فيحمل على أحسنها.
4- الحوار في المختلف فيه: فطرح القضية للنقاش بأسلوب هادئ بعيد عن
التجريح وتسفيه رأي الآخر، مع إتاحة الفرصة لتبادل الرأي، وسماع الطرف
الآخر، خليق بأن يجعل هناك نوعاً من التقارب في وجهات النظر. ومما يؤسف
له حقيقة أن كثيراً من المختلفين لا يجتمعون ولا يتحاورون فيما بينهم، وإن
اجتمعوا للنقاش والتحاور فلا يحسنون آداب الحوار وعرض القضايا، مما يجعل
كل طرف يتعصب لرأيه وإن ظهر له الحق خلاف ذلك. ولكي تتقبل الآراء يجب
أن يكون الحوار بالحسنى، فإذا كان الله أمرنا أن نجادل أهل الكتاب بالحسنى،
فإخواننا في العقيدة أوْلى بذلك منهم.
5- حسن الظن بالطرف الآخر: فالشكوك والقدح في نيات الآخرين كفيلة
بإيجاد جفوة وشقة بعيدة لا يمكن التلاقي فيها، فكل قول أو فعل يحمل على خلاف
الظاهر المتبادر منه للذهن من دون قرينة تصرفه عن ظاهره فيه ظلم وتجنٍّ على
الآخرين، ورحم الله الشافعي حيث قال: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي
غيري خطأ يحتمل الصواب) . فهكذا يجب أن نحمل آراء الآخرين على المحمل
الحسن ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، عندها سنجد أن كثيراً من الاختلافات قد زالت.
6- الإخلاص في تحري الحق: فالانتصار للذات، والتعصب للرأي، يؤدي
إلى رفض الحق، ومخالفة وجهة النظر؛ فمن قصد الانتصار لنفسه وهواه فلا
يوافق الآخرين في رأيهم وإن بدا له أنه صواب، ولا شك أن هذا خلاف منهج
الصالحين؛ فهذا الشافعي يقول: (والله ما أبالي أن يظهر الحق على لساني أو على
لسان خصمي) ؛ فالتجرد للحق، والإخلاص لله، يزيل عقبات الاختلاف؛ ولكن
الأمر يحتاج إلى مجاهدة النفس في ذلك، وإلزامها الحق بقوة. والله الموفق.