دراسات في الشريعة والعقيدة
العبودية لله
قواعد ومسائل
د. عبد العزيز آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله
وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين. وبعد:
فهذه جملة قواعد ومسائل مستفادة من كلام أهل العلم في موضوع العبودية لله- تعالى - فإن جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - من أولهم إلى آخرهم دعوا
إلى عبادة الله - تعالى - وحده لا شريك له: [اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ]
[الأعراف: 59] كما أن الله - عز وجل - قد جعل العبودية وصفاً لأكمل خلقه
وأقربهم إليه وهم الأنبياء والملائكة فقال - سبحانه: [لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ
عَبْداً لِّلَّهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ
جَمِيعاً] [النساء: 172] .
ووصف الله - تعالى - أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة - بالعبودية في
أشرف مقاماته، فقال - تعالى: [تَبَارَكَ الَذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً] [الفرقان: 1] ، وقال - سبحانه: [سُبْحَانَ الَذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً
مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأَقْصَا الَذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ البَصِيرُ] [الإسراء: 1] .
وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إحسان العبودية أعلى مراتب الدين،
وهو الإحسان، فقال في حديث جبريل - وقد سأله عن الإحسان: (أن تعبد الله
كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك) أخرجه مسلم [1] .
يمكن أن نخلص - من خلال هذه المقدمة - إلى قاعدة، وهي: أن كمال
المخلوق في تحقيق عبوديته لله - تعالى -، فأكرم ما يكون العبد عند الله - تعالى- عندما يكون أعظم عبادة وخضوعاً لله - عز وجل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: (كمال المخلوق في تحقيق
عبوديته لله - تعالى -، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت
درجته) [2] .
ويقول في موضع آخر: (والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه ...
وخضوعاً له، كان أقرب إليه، وأعزّ له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق: أعظمهم
عبودية لله، وأما المخلوق فكما قيل: احتجْ إلى من شئت تكن أسيره، واستغن
عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره. فأعظم ما يكون العبد
قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع
الاستغناء عنهم، كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة
ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون
الدين كله لله ولا يُشرَك به شيء) [3] .
وها هنا قاعدة أخرى، وهي أن حاجة الإنسان وضرورته إلى عبادة الله -
تعالى - فوق كل حاجة وضرورة.
يقول ابن تيمية - في هذا الصدد: (اعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا
يشرك به شيئاً، ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد
إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها، الله الذي لا إله
إلا هو فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها
من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذّات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع
إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ به
غير منعم له ولا ملتذ به، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنه، ويضره ذلك.
وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه ... ) [4] .
ويقول ابن القيم - مقرراً تلك الحاجة: (اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله
وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل
عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم، والسجود والتقرب، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه،
والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به؛ فإن حقيقة القلب روحه
وقلبه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره.. ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها) [5] .
وأما عن تعريف العبادة، فالعبادة لغةً: من الذلّ، يقال: بعير معبّد، أي
مذلل.
وقد تنوّعت أقوال العلماء في تعريف العبادة:
فقال ابن جرير: (معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة [6] ، وفسّر ابن عباس - رضي الله عنهما - العبادة بالتوحيد [7] .
وقال القاضي أبو يعلى: (حقيقة العبادة هي الأفعال الواقعة لله - عز وجل -
على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع المتجاوز لتذلل بعض العباد) [8] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه
من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) [9] .
وفصّل ابن القيم التعريف السابق بقوله: (وبنى (إياك نعبد) على أربع قواعد: ... التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب، وعمل القلب
والجوارح. فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب (إياك نعبد) حقاً
هم أصحابها، فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله - سبحانه - به عن نفسه،
وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله.
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدعوة إليه والذبّ عنه وتبين بطلان
البدع المخالفة له، والقيام بذكر وتبليغ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه،
والرجاء له، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه، وعلى
أقداره، وغير ذلك من أعمال القلوب.
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد، ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق،
ونحو ذلك) [10] .
وقال بعضهم: (العبادة ما أمر به شرعاً من غير اطِّراد عرفي ولا اقتضاء
عقلي) [11] .
وبالنظر إلى هذه التعريفات المتعددة نرى أن الخلاف بينها يكاد أن يكون من
خلاف التنوع؛ وذلك أن العبادة قائمة على أصلين كبيرين، وهما: غاية الخضوع
وكماله، وغاية الحبّ وكماله. فعرّف ابن جرير وأبو يعلى العبادة بالخضوع -
والسلف قد يعرِّفون الشيء ببعض أفراده - ومرادهم بالخضوع - ها هنا - ما كان
مقترناً بالمحبة والتعظيم كما هو ظاهر عبارة أبي يعلى في قوله: (نهاية ما يمكن
من التذلل والخضوع) فنهاية الخضوع وكماله لا تتحقق إلا بالمحبة والتعظيم.
وأما ابن تيمية وابن القيم فقد عرّفا العبادة بما يحبه الله ويرضاه باعتبار أن
العبادة هي أعلى مراتب الحبّ.. ولذا يقول ابن تيمية: (فأصل المحبة المحمودة
التي أمر الله بها، وخَلقَ لأجلها، هي ما في عبادته وحده لا شريك له؛ إذ العبادة
متضمنة لغاية الحب بغاية الذل) [12] .
وأما تعريف ابن عباس - رضي الله عنهما - للعبادة بالتوحيد، فهو اعتبار
العبادة المقبولة، فلا تقبل العبادة عند الله - تعالى - إلا بتحقيق التوحيد، وأما
العبادة من حيث هي فهي أعم من كونها توحيداً عاماً مطلقاً، فكل موحد عابد لله -
تعالى -، وليس كل من عبد الله - تعالى - يكون موحداً [13] .
وأما من عرّف العبادة بما أمر به شرعاً من غير اطِّراد عرفي ولا اقتضاء
عقلي، فهو باعتبار أن الشرع هو مورد العبادة وضابطها، فلا تخضع العبادة
لاطراد العرف، بل قد تكون مضادة لعوائد وأعراف، كما أن العبادة لا تخضع
لاقتضاء العقل واستحسانه؛ فمن العبادات الشرعية ما تكون محيّرة للعقول [*] .
والله أعلم.
ومن قواعد هذا الموضوع: أن الحبّ الخلي عن ذل، والذل الخلي عن حبّ
لا يكون عبادة؛ فالعبادة ما يجمع كمال الأمرين: كمال الحبّ وغايته، وكمال الذلّ
وغايته.
يقول ابن تيمية: (من خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو
أحبّ شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كما قد يحبّ الرجل ولده وصديقه،
ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله - تعالى -، بل يجب أن يكون الله أحبّ إلى
العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة
والخضوع التام إلا الله) [14] .
ويقول ابن القيّم: (والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع؛
فمن أحببته ولم تكن خاضعاً له، لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة، لم
تكن عابداً له، حتى تكون محباً خاضعاً) [15] .
ومن القواعد أيضاً: كل من استكبر عن عبادة الله - تعالى -، فلا بد أن يعبد
غيره.
يقرر ابن تيمية ذلك بقوله: (الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم
استكباراً عن عبادة الله، كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله -
تعالى -، ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود) .
فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله
معبوده ومنتهى حبه من إرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد
محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله) [16] .
ويقول -صلى الله عليه وسلم- في موضع آخر: (وهكذا أهل البدع لا تجد
أحداً ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد
صاحب بدعة إلا ترك شيئاً من السنة، كما جاء في الحديث: (ما ابتدع قوم بدعة
إلا تركوا من السنة مثلها) [17] رواه الإمام أحمد.
وقد قال - تعالى: [فَنَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ] [المائدة: 14] ، فلما تركوا حظاً مما ذكروا به اعتاضوا بغيره، فوقعت بينهم
العداوة والبغضاء، وقال تعالى: [اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ] [الأعراف: 3] فأمر باتباع ما أنزل، ونهى عما
يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه، فمن لم يتبع أحدهما اتبع الآخر.
وكذلك من لم يفعل المأمور، فعل بعض المحظور، ومن فعل المحظور، لم
يفعل جميع المأمور، فلا يمكن لإنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله لبعض ما
حظر، ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر) [18] .
ويقول ابن القيم - رحمه الله: (كل من أعرض عن شيء من الحق وجحده،
وقع في باطل مقابل لما أعرض عنه من الحق وجحده ولا بد، حتى في الأعمال،
فمن رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق، فرغب عن
العمل لمن ضرّه ونفعه وموته وحياته وسعادته بيده، فابتلي بالعمل لمن لا يملك له
شيئاً من ذلك، وكذلك من رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله
وهو راغم، وكذلك من رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب في خدمة الخلق ولا بدّ،
وكذلك من رغب عن الهدى بالوحي، ابتلي بكناسة الآراء وزبالة الأذهان ووسخ
الأفكار) [19] .
ويؤكد العلاّمة عبد الرحمن السعدي هذه القاعدة قائلاً: (لما كان من العوائد
القدسية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه وأمكن الانتفاع به ولم ينتفع، ابتلي
بالاشتغال بما يضره، فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك
محبة الله وخوفه ورجاءه، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله
في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذلّ لربه، ابتلي بالذل للعبيد،
ومن ترك الحق ابتلي بالباطل) [20] .
ومن أجل مسائل هذا الموضوع: العبودية الباطنة والقيام بعبودية القلب؛ فإن
أعمال القلب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وعبودية القلب أعظم من
عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت [21] .
وقد غفل الكثير من المسلمين عن فقه هذه العبادات وتحقيقها، وكان لاشتغالهم
بالرسوم والمظاهر، وتأثرهم بالنزعة الإرجائية الكلامية أبلغ الأثر في إهمال أعمال
القلوب وعبوديتها، فما أكثر من استُعبد قلبه لغير الله - تعالى - من الشهوات
والملذات، فطائفة أشربت حبّ المال، وطائفة صار همها وشغلها المنصب
والوظيفة والرياسة، وطائفة ثالثة تعلقت قلوبها بالنساء، وطائفة أخرى صار
مقصودها سفاسف الأمور من مطعوم أو ملبوس أو مركوب، أو (كرة) أو عبث
ولهو، أو (فن) ....
فعبد المال قد صار الدرهم والدينار هجيّراه؛ فهمّه ومقصوده المال، فلا
يصبح ولا يمسي إلا وهمه المال، فمن أجله يوالي ويعادي، فإن أعطي رضي،
وإن منع سخط.
لقد تحدث علماء السلف - رحمهم الله - عن عبودية القلب، فكان حديثاً عن
علم وبصيرة وذوق وتحقيق.
ومن ذلك ما سطّره يراع شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: (إذا كان القلب -
الذي هو ملك الجسم - رقيقاً مستعبداً، متيماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسْر
المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب.. فمن استُعبد
قلبه فصار عبداً لغير الله، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس،
قال النبي: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس) أخرجه
الشيخان.
وهذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه
صورة محرمة: امرأة، أو صبي؛ فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب) [22] .
ويقرر ابن القيم هذه العبودية بقوله: (الإنابة هي عكوف القلب على الله -
عز وجل -، كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على
محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له
والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة،
كما قال إمام الحنفاء لقومه: [مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ]
[الأنبياء: 52] فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل، وكان حظه العكوف على الربّ الجليل. والتماثيل جمع تمثال، وهي الصورالممثلة، فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام، ولهذا كان شرك عباد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهمهم وإراداتهم على تماثيلهم، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفاً عليها فهو نظير عكوف الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبداً لها، ودعا عليه بالتعس والنكس، فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش [23] ) [24] .
وبسط ابن القيم الحديث عن أرباب عبودية القلب وأحوالهم فكان مما قال:
(وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته
وإجلاله ومراقبته، فسرَت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد
دخله الحبّ، قد أنساهم حبّه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، فدنفوا
بحبه عن حبّ من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه
والرهبة منه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والسكون إليه والتذلل والانكسار بين
يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت
أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همّه عليه متذكراً صفاته العلى وأسمائه الحسنى،
مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته
ومحبته، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه
وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته.
فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة، لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء، وقيل لبعض
العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه؟ قال: إي والله، بسجدة لا يرفع رأسه منها
إلى يوم القيامة) [25] .
ويشير ابن رجب إلى عبودية القلب قائلاً: (إن تحقق القلب بمعنى لا إله إلا
الله وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تألّه الله وحده، إجلالاً،
وهيبة، ومخافة، ومحبة، ورجاء، وتعظيماً، وتوكلاً، ويمتلئ بذلك، وينتفي
عنه تأله ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبق فيه محبة، ولا إرادة،
ولا طلب لغير ما يريده الله ويحبه ويطلبه، وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء
النفوس وإراداتها، ووساوس الشيطان، فمن أحبّ شيئاً وأطاعة، وأحبّ عليه
وأبغض عليه فهو إلهه، فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي ولا يعادي
إلا له، فالله إلهه حقاً، ومن أحبّ لهواه، وأبغض لهواه، ووالى عليه، وعادى
عليه، فإلهه هواه) [26] .
ونختم هذه المسألة الجليلة بمثال عملي سطّره الصحابي الجليل أبو عبد
الرحمن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - حيث باع حماراً له، فقيل له: لو
أمسكته! فقال: لقد كان لنا موافقاً، ولكنه أذهب بشعبة من قلبي، فكرهت أن
أشغل قلبي بشيء [27] .
فما أتم عبادة ابن عمر لله - تعالى -، وما أكمل توحيده وعكوف قلبه على
الله - عز وجل - فهو لما رأى التفاتاً تجاه هذا الحمار، بادر إلى بيعه والتخلص
منه مع كونه موافقاً له.. فشتان بين هذا المقام الرفيع وبين من تفرّق قلبه في أودية
الدنيا وملذاتها، فصارت جل شعب قلبه متعلقة بمال، أو امرأة، أو منصب
ووظيفة، والله المستعان.
ومن أجلِّ قواعد هذا الموضوع: أن عبودية الله - تعالى - ملائمة لحقيقة
الإنسان وجِبِلّته، ومستوعبة لمقاصده وأعماله.
وقد ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (أصدق
الأسماء حارث وهمّام) [28] فكل إنسان همام أي مريد ومفكر، وكل همام حارث
أي صاحب عمل وكسب وسعي، وعبودية الله - تعالى - مناسبة للفطرة فتتسق
وتتفق مع طبيعة الإنسان وحقيقته، وتستوعب كل نشاطه وحركته هماً وحرثاً [29] .
وقد أكّد ابن تيمية هذا المعنى في غير موضع؛ فكان مما قاله: (العبد مجبول
على أن يقصد شيئاً ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده؛ وهذا
أمر حتم لازم ضروري في حق كل إنسان) .
فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين
الأمرين: لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها، وهو إلهها، ولا
بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها، سواءاً كان ذلك
هو الله أو غيره، وإذا كان فقد يكون عاماً وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقاً،
وسأل غير الله مطلقاً.. وقد يكون خاصاً في المسلمين مثل من غلب عليه حبّ
المال، أو حبّ شخص، أو حب الرياسة حتى صار عبد ذلك [30] .
ونختم هذه المقالة بمسألة جليلة: وهي أن فقه أسماء الله - تعالى - وصفاته،
والتعبّد لله - عز وجل - بها من أعظم أسباب تحقيق عبودية الله - تعالى.
يقول العز بن عبد السلام: (فهم معاني أسماء الله - تعالى - وسيلة إلى
معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل وغير ذلك من
ثمرات معرفة الصفات) [31] .
وعُنِيَ ابن القيم - رحمه الله - بتقرير هذه المسألة في أكثر من كتاب، ومن
ذلك قوله: (لكل صفة عبودية خاصةٌ هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني: من
موجبات العلم بها والتحقيق بمعرفتها؛ وهذا مُطّرِدٌ في جميع أنواع العبودية التي
على القلب والجوارح؛ فعلم العبد بتفرد الربّ بالضر والنفع والعطاء والمنع،
والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم
التوكل وثمراته ظاهراً، وعلمه بسمعه - تعالى - وبصره وعلمه أنه لا يخفى عليه
مثقال ذرة، وأنه يعلم السرّ ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ
لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله.. ومعرفته بجلال الله
وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة ... فرجعت العبودية كلها إلى
مقتضى الأسماء والصفات) [32] .
ويؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - هذه المسألة بقوله: (وأما
توحيد الصفات، فلا يستقيم توحيد الربوبية، ولا توحيد الألوهية إلا بالإقرار
بالصفات) [33] .
بل ويثبت الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن أصول العبادة الثلاثة: (الحب،
والرجاء، والخوف) من ثمرات ولوازم التعبد بأسماء الله - تعالى - وصفاته،
فيقول: (أركان الدين: الحب، والرجاء، والخوف؛ فالحب في الأولى: وهي
(الحمد لله رب العالمين) ، والرجاء في الثانية: وهي (الرحمن الرحيم) ، والخوف
في الثالثة: وهي (مالك يوم الدين) [34] .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيننا وسائر إخواننا على ذكره وشكره
وحسن عبادته.