المسلمون والعالم
لتر الماء ... لتر النفط
أيهما أغلى؟
(2من2)
بقلم: خالد محمد مسعود القحطاني
وضح الكاتب في الحلقة السابقة أهمية المياه الصالحة للشرب كمورد
استراتيجي تتنافس عليه الأمم في العصر الراهن، ثم بين موقع العالم العربي من
هذه الأزمة معدداً المصادر المائية العربية وأهميتها والأخطار والمشكلات التي
تهددها.. ويواصل في هذه الحلقة إيضاحه لجوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
(إسرائيل) ومشكلة المياه:
تقع فلسطين في الطرف الشمالي من البحر المتوسط، غرب الأردن وجنوب
لبنان، وتقع على أطراف المنطقة المطيرة في الشمال، وتمتد حتى تصل إلى
المناطق الجافة في الجنوب، وتتراوح كميات الأمطار بين 900 1000 ملليمتر في
منطقة صفد وحتى 39 ملم سنوياً في منطقة إيلات العقبة [1] .
وقد أدرك اليهود منذ القدم أهمية السيطرة على مصادر المياه في فلسطين،
وتحدثنا المراجع التاريخية أن التعاون بين الاستعمار البريطاني والصهيونية العالمية
تعاون كامل، وحقائق التاريخ تؤكد أن الحكم الصهيوني مبنيٌ على حقائق مائية؛
ومن ذلك كان سَعْيُ الآباء الأوائل لليهود: هرتزل، ووايزمان، وبن جوريون؛
لتأمين هذا الجانب حتى قبل إنشاء ما يسمى بـ (إسرائيل) وشملت طموحاتهم ليس
فلسطين فقط؛ بل كل المصادر المائية في غرب آسيا والنيل [2] .
ففي رسالته المؤرخة في 29/2/1919م والمرسلة إلى لويد جورج رئيس
وزراء بريطانيا يطالب حاييم وايزمان بتحسين حدود الوطن القومي لليهود..
وكانت ذريعته الكبرى في ذلك: المياه، ولقد رأى وايزمان أنه من الضروري أن
يضم المشروع الصهيوني في ثناياه حوض الليطاني وجبل الشيخ وحرمون الذي
يحتوي على منابع أنهار: الأردن، وبانياس، واليرموك؛ بحجة أن هذه المياه
ضرورية للدولة اليهودية.
وقضية بهذا الحجم شغلت بال السياسة اليهودية وصارت تمثل قضية حياة أو
موت؛ وبقراءة لتاريخ الحركة الصهيونية يتضح لنا وبجلاء مراحل السيطرة
اليهودية على مصادر المياه في فلسطين ولبنان والأردن وسوريا (هضبة الجولان:
* ففي عام 1903م تقدم تيودور هرتزل إلى الحكومة البريطانية في عهد
الملكة فيكتوريا واللورد سالبوري وجوزيف شميزلت وآرثر بلفور وإلى الحكومة
المصرية في عهد الخديوي عباس الثاني ومصطفى باشا فهمي وبطرس باشا غالي
والمعتمد البريطاني اللورد كرومر بهدف تحويل مياه النيل إلى سيناء، وقد بذل
هرتزل نشاطات كبيرة لتحقيق المشروع الهادف إلى توطين اليهود في شبه جزيرة
سيناء، وقد لقي موافقة مبدئية من الحكومة البريطانية، إلا أنه أخفق بسبب
الظروف الدولية حينذاك التي فرضت على إنجلترا سياسة الوفاق الودي مع فرنسا
عام 1904م تأهباً لمواجهة ألمانيا واستعداداً للصدام مع تركيا وألمانيا عند الانتقال
لتنفيذ سكة حديد الحجاز.
*وفي عام 1919م وأثناء تقديم المذكرة الصهيونية المقدمة إلى مؤتمر الصلح
في باريس كانت تنص على أن تبدأ حدود فلسطين عند نقطة على البحر المتوسط
بالقرب من صيدا وتتبع منابع المياه النابعة من سلسلة جبال لبنان حتى جسر فرعون، ثم إلى البير، ثم تتبع الخط الفاصل بين حوض وادي القرن ووادي تيم، ويتجه
جنوباً لتتبع الخط الفاصل بين المنحدرات الشرقية والغربية لجبل الشيخ.
*وفي عام 1941م قُدِّم اقتراح للرئيس اللبناني الفريد نقاش لاستثمار المصادر
المائية في لبنان على يد المؤسسات الصهيونية، ولكن انكشفت أبعاد هذا المشروع
ومراميه فأوقفته بعض الأصوات الوطنية في حينه.
*وفي عام 1948م اندفع اليهود ومنذ الأشهر الأولى لقيام ما يسمى (إسرائيل)
لاستغلال ما تحت أيديهم، وشكلوا لهذا الغرض لجنة من سبعة عشر خبيراً،
ووضعت خططاً وأهدافاً وهي التي عرفت بالخطة السبعية؛ وبدئ في تنفيذها عام
1953م بالعمل على زيادة استثمار الموارد المائية في فلسطين من 810 ملايين متر
مكعب (إنتاج عام 1953م) إلى 1730 مليون متر مكعب في نهاية الخطة عام
1960م، ويحتاج تدبير الكمية اللازمة وحجمها 920 مليون متر مكعب إلى:
*مشاريع زيادة استغلال الينابع والمياه الجوفية والسطحية داخل فلسطين
لتوفير 380 مليون متر مكعب.
*استغلال نهر الأردن وروافده التي توفر نحو 540 مليون متر مكعب.
*وفي عام 1964م أعلن اليهود أنهم على وشك الانتهاء من المراحل الأولى
من مشروعهم لإيصال مياه الأردن إلى النقب، ولأجل ذلك اجتمع مجلس الجامعة
العربية في القاهرة في 13/1/1964م وأقر تشكيل هيئة لاستغلال مياه نهر الأردن
وروافده، وتشكيل قيادة عربية مشتركة مهمتها إعداد ما يلزم لحماية المشروع
العربي الطموح! ! ! وتكفل المجتمعون بتغطية نفقات المشروع.. ولكن المشروع
انتهى بنهاية مضحكة مبكية عندما استولى اليهود عام 1967م على مواقعه في
الجولان واستولوا على آلياته ومنذ ذلك الحين ونهر الأردن وروافده في أيدي اليهود.
*وفي عام 1967م تقاقمت أزمة المياه في إسرائيل نتيجة الهجرة اليهودية
المكثفة إلى فلسطين؛ وقد حلت المشكلة بعد حرب 1967م، وحصلوا على 500
مليون متر مكعب دفعة واحدة كأكبر المكاسب التي حققها اليهود.
والجدير ذكره أن هضبة الجولان قد احتلها اليهود في هذه الحرب وهي في
غاية الأهمية؛ إذ إنها تعتبر المصدر الأول للمياه في فلسطين، وتتلقى سنوياً أكثر
من 500 ملم من الأمطار، ويصل ارتفاع الثلج إلى 30 سم ويوجد بها حوالي 100
نبع توفر سنوياً ما بين 50 و 60 مليون متر مكعب.
كما تمكن الغاصبون من إحكام السيطرة على نهر اليرموك، وأتيح لهم أيضاً
السيطرة على منابع نهر بانياس [3] . ويستغل اليهود حالياً 31. 5 مليون متر
مكعب من المياه في جنوب الهضبة، و6 مليون متر مكعب في المنطقة الوسطى،
وما بين 7 8 مليون متر مكعب في المنطقة الشمالية منها.
*وفي عام 1971م بدأ الاستغلال المركّز من قِبَلِ السلطات الإسرائيلية لمياه
الجولان في إطار الخطة الخمسية لتلك الفترة، وقامت شركة يهودية بحفر مجموعة
من الآبار الارتوازية لصالح المستوطنات اليهودية هناك، كما أقيمت محطة لضخ
المياه من بركة رام التي تقع على أقدام جبل الشيخ ومساحتها 900 متر مربع
ويتراوح عمقها ما بين 8 و 9 أمتار وطاقتها 1. 500. 000 متر مكعب؛ وذلك
لنقلها إلى المستوطنات اليهودية.
*وفي عام 1978م قامت إسرائيل بتركيب مضخات بطول 10كم من مجرى
نهر الليطاني مجاورة لبلدة سوريان وحتى خزانات مشروع الطيبة، كما قامت
بتركيب خط آخر بطول 25كم من خزانات الطيبة وحتى بلدة عنيا الشام حيث
شيدت خزانات ضخمة قرب البلدة تستقبل مياه الليطاني وتوزعها على الجبل.
*وفي عام 1982م وبعد غزو لبنان عمدت إسرائيل إلى تقديم الأسلاك الشائكة
مسافة تتراوح بين 3 و 5 كلم داخل الحدود اللبنانية حول نهر وبلدة الوزاني جنوب
شرق الحدود مسيطرة بذلك على سبعة كيلومترات مربعة من الأراضي. كما شقت
نفقاً من قرية كفر كلا حتى وادي ميماس في مرج عيون لسحب مياه الليطاني إلى
فلسطين (إسرائيل) ، ويبلغ طوله 17كلم وقد أدى إلى تعريض 250 قرية لبنانية
للعطش في الوقت الذي سمح فيه لليهود باستغلال مياه الليطاني بسبب انخفاض
مستوى الأرض في فلسطين. وتجدر الإشارة إلى أن كميات المياه التي حصل عليها
اليهود جراء اجتياح لبنان عام 1982م هي 800 مليون متر مكعب من المياه. وفي
عام 1987م أتم اليهود تحويل مياه الحاصباني ونبع الوزاني ومياه الليطاني، وبتمام
هذا العام يكون اليهود قد استولوا على: 65 مليون متر مكعب في السنة من ينابيع
الوزاني، و110 مليون متر مكعب في السنة من نهر الحاصباني، و400 مليون
متر مكعب في السنة من نهر الليطاني!
نرى من جميع ما سبق أن اليهود يأخذون عنوة: من سوريا 200 مليون متر
مكعب (عدا الاحتياطي الكبير من المياه في هضبة الجولان) و 575 مليون متر
مكعب من لبنان، إضافة إلى 600 مليون متر مكعب سنوياً من الضفة الغربية.
إن مشكلة نقص الموارد المائية الأصلية في إسرائيل تتزايد بتزايد ضغوط
النمو السكاني والهجرة المكثفة؛ وبذلك أصبحت مشكلة المياه هاجس إسرائيل الدائم، بل إنها حلت في المرتبة الثانية بعد أمنها [4] .
وينبغي أن نشير هنا إلى بعض التقارير الخاصة التي صدرت عن بعض
الجهات الحكومية الإسرائيلية التي ألمحت بشكل أو بآخر إلى تفاقم أزمة المياه هناك.
فقد أوردت صحيفة (الهاآرتس) اليهودية في 11/6/1990م أن الدكتورة
جوليس ستار الباحثة في معهد الدراسات الاستراتيجية بواشنطن أوضحت في مؤتمر
صحفي عقد في تل أبيب خلال زيارة عمل أن مسألة المياه ومصادرها ستطرح في
أية تسوية محتملة بين الفلسطينيين واليهود كمسألة من الدرجة الأولى، وحذرت في
الوقت نفسه من أن العجز المائي في فلسطين سيصل إلى 30% [5] .
وفي التقرير الصادر في 3/5/1990م حذر بنك إسرائيل من تدني مخزون
المياه في أعقاب السحب الزائد والمستمر من هذه المياه وزيادة حدة المشكلة إذا لم
يتوفر تقليل استهلاك المياه [6] . وبشكل عام فإن نقص المياه الذي يزداد سوءاً
بعامل التغيرات المناخية التي وسّعت من القحط الدوري، وبعامل الإدارة غير
الكفء للمياه ساهمت في جعل المياه مسألة مصيرية تشغل بال حكومات المنطقة
كاملة، كما تساهم الأوضاع السياسية والإقليمية أيضاً في تفاقم مشكلة المياه حيث
كانت الدول التي تشارك في شبكات الأنهار الرئيسة في المنطقة عاجزة عن الارتفاع
فوق الصراعات التاريخية من أجل التعاون في تنمية موارد المياه الثمينة. وبالنسبة
للمستقبل المنظور يحذر الخبراء من عدم وجود أي علاج شامل في التعامل مع
نقص المياه الوشيك [7] .
وفي الجانب الآخر يتميز الوضع الاستراتيجي لحوضي دجلة والفرات بموقع
متأزم وخطير لوجود طرف غير عربي عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإن
كان يرتبط بكل من العراق وسوريا بكونه دولة إسلامية، ولا شك أن ارتباط تركيا
السياسي والعسكري يفوق ارتباطها الديني وذلك بالنسبة لقيادتها السياسية.
ولعل إسرائيل قد استطاعت وبسياسة متعمدة توثيق علاقاتها مع تركيا،
وكذلك مع أثيوبيا وكينيا وكلها من دول المنبع لأهم المصادر المائية العربية،
وتستخدمها إسرائيل في تزويدها بما تحتاجه من المياه مقابل خدمات فنية وتمويلية،
وتستخدمها في الوقت نفسه ورقة ضغط سياسية على دول مصب هذه الأنهار مثل
مصر والعراق والسودان وسوريا. وتجدر الإشارة هنا إلى ما أعلنته تركيا عن
مشروع خط السلام التركي وهو خط يتكون من أنبوبين: الأنبوب الشرقي ويبلغ
طوله 2800 كلم، والآخر يصل طوله 4000 كلم، وهذا المشروع من شأنه
تحويل مياه نهري دجلة والفرات إلى بحيرات وأنابيب تتحكم تركيا في مفاتيحها؛
وقد بدأ الإعداد لهذا المشروع منذ عام 1986م على يد شركة بروان أندرت
الأمريكية، التي أعلنت أن دراسة الجدوى لهذا المشروع انتهت عام 1991م، وأن
تكاليفه تقدر بواحد وعشرين مليار من الدولارات، وإذا كان العرب قد عارضوا
بشدة مثل هذا المشروع فإن تركيا قد بدأت بتنفيذ المراحل الأولية منه بالتعاون مع
إسرائيل؛ وذلك بمد خط أنابيب لنقل 2. 300. 000 مليون متر مكعب من المياه
إلى إسرائيل [8] .
وإذا كانت الحرب المائية قد بدأت بالفعل ضد العرب عند الفرات بعد التعاون
التركي الإسرائيلي، فإن فصول هذه الحرب يتم إعدادها دون يأس عند منابع النيل
بالتعاون مع أثيوبيا وكينيا لسرقة المياه على حساب مصر والسودان.
وبالعودة إلى نهر الفرات فإن هناك أربعة محاور رئيسة ينبغي مراعاتها:
الأول: المياه بتركيبتها الاستراتيجية المعروفة ثلاثية الاستخدام: (الشرب،
الري، توليد الكهرباء) ولذلك فإن تأثيرها اليوم في حياة البشر تأثير مباشر سريع،
ومن ثَمّ يمكننا فهم حساسية الموقف وصعوبته بالنسبة لسوريا التي يجري فيها نهر
الفرات، ومن مياهه تقوم الحياة عليها؛ وخاصة في شمال وشرق سوريا، وكذلك
الوضع بالنسبة للعراق الذي يخترقه هذا النهر.
الثاني: الأقليات العربية: فعند التقاء الحدود السورية التركية، والعراقية
التركية؛ تشتعل أزمة الأقليات خاصة الأكراد الذين يعيشون على الحدود العراقية
والسورية والإيرانية والسوفييتية (سابقاً) مكونين واحدة من أعقد المشاكل العرقية في
المنطقة.
الثالث: وهو دخول إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر في مسلسل
الصراعات في المنطقة المحيطة بها لإشغالها بأي وسيلة. فمن مصلحة إسرائيل
إشغال المنطقة بالصراعات بعيدة عن الحدود الإسرائيلية، وشد الانتباه العربي بعيداً
عن القضية الفلسطينية.
الرابع: محور التوترات السياسية والعسكرية السائدة، فإسرائيل ترى في
سوريا أخطر أعدائها، وإيران ما زالت متحفزة لاستئناف حربها مع العراق، كما
أن ثورة الأكراد قائمة على أشدها في تركيا والعراق [9] .
الخاتمة:
فهذه نتف من أخبار مشكلة المياه في المنطقة العربية من العالم الإسلامي وإني
أرجو أن أكون قد وفقت في إيضاح الصورة أمام القارئ الكريم حتى تتضح معالم
وأبعاد هذه القضية الحساسة.
ومما لا شك فيه أن هناك جوانب كثيرة لم أتطرق إليها ولعل من أشهرها
طريقة الحرب اليهودية وقصصها المؤسفة على ضفاف الأنهار العربية؛ وكذلك
الحلول العامة لهذه القضية وهي من المسائل الهامة التي أرجو أن تتاح فرصة في
المستقبل لتناولها بالشرح والتفصيل.
وأسأل الله أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل
معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر؛ إنه على ذلك قدير
وبالإجابة جدير. والحمد لله أولاً وآخراً..