منتدى القراء
بقلم: موسى ضيف الله المطرفي
الإنسان ابتداءً هو ذلك المخلوق الذي خلقه الله من قبضة من طين الأرض،
ثم سواه ونفخ فيه من روحه، لا ذلك الحيوان الذي دعاه دارون، ولا المادة التي
زعمها التفسير المادي للتاريخ. ومقياس علو الإنسان وهبوطه ليس هو الإنتاج
المادي والعمارة المادية للأرض: [كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا] [الروم: 9] لكنهم كانوا جاهلين؛ لأنهم رفضوا الهدي الرباني، وأصابهم في
النهاية ما يصيب الجاهلية من الدمار، على الرغم من كل القوة التي يملكونها،
ومن أثارة في الأرض وعمارتها.
إنما مقياس علو الإنسان أو هبوطه هو مقياس الإنسانية الذي يتمثل في التزامه
بمقتضيات الكتاب والسنة في عمارة الأرض، ووفق المنهج الرباني لا بأي منهج
سواه، وحين يتحقق الوعي التاريخي؛ لا في صورة ذهنية تجريدية، ولكن في
صورة وعي لواقع الأمة يكون هذا عوناً كبيراً للإنسان الراشد يوجهه إلى السلوك
الناضج المستقيم الذي يتحقق به الوجود الأعلى للإنسان الذي يمثل الرشد البشري
في أعلى حالاته.
إن الإسلام يعطي العقل مكانه اللائق به بلا إفراط ولا تفريط؛ فالرؤية
الإسلامية لا تغالي في تقدير قيمة العقل فتقحمه فيما ليس من شؤونه، أو تجعله
المرجع الأخير لكل شيء حتى الوحي الرباني، ولا هي تبخسه قدره فتمنعه من
مزاولة نشاطه في ميادينه الطبيعية التي يصلح لها ويحسن العمل فيها.
فتكل إلى العقل مهام خطيرة وواسعة: تكل إليه مهمة حراسة الوحي الرباني
الذي تكفل الله بحفظه من كل تأويل فاسد مضل، وحراسة أحكام الله من الانحراف
بها عن مقاصد الشريعة، وحراسة المجتمع من الآفات الاجتماعية والسياسية
والفكرية والخُلقية التي تؤدي إلى تدميره، كما تكل إليه مهمة التقدم العلمي والبحث
وعمارة الأرض، ولكنها لا تكل إليه ولا تسمح له أن يحيد عن الوحي الرباني
والمنهج الرباني، ولا يجتهد من عنده بما لا يأذن به الله؛ لأنه عندئذ يجانب
الصواب، وتلك هي الرؤية المتوازنة حيال ما يمكن أن يطلق عليه: عقلانية
الإسلام.