مجله البيان (صفحة 2674)

خصائص المرحلة المكية فى مجال المعرفة (1)

دراسات في السيرة النبوية

خصائص المرحلة المكية

في مجال المعرفة

بقلم: د. محمد أمحزون

لقد كان أول ما نزل من آي القرآن الكريم خمس آيات كانت استهلالاً للرسالة

الخاتمة الخالدة، وهي الآيات التي افتُتِحت بها سورة العلق: [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي

خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَاً وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ

مَا لَمْ يَعْلَمْ] [العلق: 1-5] .

وبهذه الآيات وضع الله تعالى معالم الرسالة الإسلامية الخالدة في عمومها

المطلق وشمولها الأعم مبيناً أنها رسالة العلم والمعرفة والعقل، وهي أعظم نعم الله

تعالى على الإنسان [1] .

وبهذه الآيات البينات، وما تضمنته من الإشادة بالقراءة والكتابة والعلم، أبان

الله عز وجل لنبيه-صلى الله عليه وسلم- ولأمة الإسلام أن المعرفة بوسائلها: من

قراءة وكتابة وتعلّم هي الأسلوب الأمثل لتبليغ الرسالة.

وبهذه الآيات أعطيت الأمة مفاتيح الإصلاح والتقدم والرقي؛ لتعلم أنه لا

إصلاح ولا مدنية ولا حضارة بغير علم ومعرفة؛ فالجهل وهو نقيض العلم لا يأتي

إلا بالشر والفساد والتخلف، كما أن الهداية إلى معرفة الحق واعتناقه والحرص

على إقامة معالمه والدعوة إليه لا يكون إلا مع العلم، ولا يكتب للعلم النمو

والانتشار إلا إذا سجله القلم ونشره وأعلن عنه [2] .

على أن العلم لا يسلك إلى القلوب سليقةً وطبعاً، أو يتلقاه الناس غريزةً

وفطرةً، وإنما يخضع للقوانين التي أودعها الله عز وجل في الوجود، ولسنن الله

في نظام الحياة.

والكشف عن هذه السنن يقوم على التعلم والبحث والتدبر وإعمال الفكر

واستقراء الظواهر؛ مما يقود إلى إماطة اللثام عن قوانين المادة وسنن الاجتماع

للإفادة من ذلك في بناء صرح الحضارة الإنسانية ضمن التوجيهات والضوابط

والحدود الإلهية.

ومن اللافت للنظر أن استفتاح الوحي بهذه الآيات البينات فيه دلالة واضحة

على أن العلم في دائرة سنن الله في الحياة يعد من أهداف الأمة الإسلامية في

تبليغها رسالة الإسلام؛ (لأن العلم هو العنوان الأعظم على خلود هذه الرسالة، وهو

العنصر الحيوي في تكوين حقيقتها الهادية الراشدة، وهو الآية الكبرى على صدقها

وصدق رسولها) [3] .

ولا شك أن هذه المنزلة الرفيعة التي منحها الإسلام للعلم، حفزت المسلمين

بأمر وتشجيع من رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على طلب العلم طلباً موصولاً

دائماً.

ولهذا الغرض كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يجتمع بأصحابه في دار

الأرقم بن أبي الأرقم يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين [4] . كما كان يقوم بعضهم

بإقراء بعض مثلما كان يفعل (خباب بن الأرت) حيث كان يختلف إلى (فاطمة بنت

الخطاب) وزوجها (سعيد بن زيد) رضي الله عنهما يقرئهما القرآن من الرقاع [5] .

بل كان أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حريصين أشد الحرص

على معرفة كتاب الله مثلما كان يفعل (ابن أم مكتوم) الأعمى رضي الله عنه، حيث

كان يأتي إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستقرئه القرآن ويلح عليه في ذلك،

وهو الذي نزلت بسببه: [عَبَسَ وَتَولَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى] [عبس: 1، 2] [6] .

العلم بالعقيدة:

في الفترة الأولى التي قضاها رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في مكة منذ

بعثته إلى أن هاجر إلى المدينة، عُني القرآن المكي أولاً بإصلاح العقيدة وتخليصها

من شوائب الوثنية، وتهذيب النفوس بتجريدها من رذائل الصفات، حتى تجتمع

القلوب على توحيد الله عز وجل، وتمحو من النفوس آثار الجاهلية.

كما عُني القرآن المكي في هذه الفترة بتعميق الإيمان في النفوس وبيان أبعاده

القلبية والقولية والعملية، والتركيز على مقتضيات (لا إله إلا الله) التي تُعنى بنقل

الإنسان من تقاليد وأعراف الجاهلية إلى أصول الإسلام وأحكامه في نواحي الحياة

المختلفة.

وكان من حكمة الله تعالى أن جعل لترسيخ هذه العقيدة على أهميتها وخطورتها

المدة الكافية، وهي الفترة المكية؛ حيث ظل الوحي ينزل ثلاثة عشر عاماً ليوضح

معاني هذه العقيدة ومقاصدها ضمن التطبيق العملي في واقع الحياة.

ولم يعرض التشريع القرآني ولا النبوي في هذه الفترة لشيء من التشريعات

العملية إلا ما له ارتباط بالعقيدة؛ كتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح:

[وَلا تَاًكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإنَّهُ لَفِسْقٌ] [الأنعام: 121] ، أو كان عبادة

تربطهم بالله عز وجل وتوجههم إلى الخير: [وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَذِي

إلَيْهِ تُحْشَرُونَ] [الأنعام: 72] .

توحيد الله عز وجل في ألوهيته:

ولأن المعركة من نوح إلى محمد صلوات الله عليهما واحدة، وقضيتها واحدة، فقد جاء التعبير عن الرسالات جميعاً في القرآن الكريم بأنها كتاب واحد:

[وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ] [البقرة: 213] .

فطبيعة دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً أنها دعوة واحدة إلى منهج

التوحيد بكل فروعه وأنواعه، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صوره وألوانه: [يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ] [الأعراف: 59] . وجاء في حديث

علي رضي الله عنه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أفضل ما قلت أنا

والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله) [7] .

وبناءً على ذلك؛ فإن قضية الصراع بين الأنبياء الذين يحملون لواء (لا إله

إلا الله) وبين الجاهليين أو (الملأ) كما يسميهم القرآن الكريم لا يرجع إلى البعثة

النبوية فحسب، وإنما تمتد جذوره إلى فجر البشرية. وقد أكّد القرآن الكريم هذه

الحقيقة وهو يتنزل بقصص الأنبياء وقصص المكذبين من قبل في الفترة المكية:

[وَإن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ

المُنِيرِ] [فاطر: 25] .

أصلان يقوم عليهما الدين:

ولقد دل استقراء نصوص الكتاب والسنة أن هذا الدين يقوم على أصلين:

الأول: ألاّ يُعبد إلاّ الله، بالمعنى الشرعي للعبادة، (وهي اسم جامع لكل ما

يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) [8] .

الثاني: ألاّ يُعبد إلاّ بما شرع على لسان رسوله؛ (فلا إله إلا الله) لا تعني

مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء كما كان المشركون

عبّاد الأصنام مقرين بذلك: [وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ] [لقمان: 25] لكنهم اتخذوا في واقع الأمر شركاء مع الله عز وجل يتقربون إليهم

بالطاعات، فلم ينفعهم هذا الإقرار. ذلك أن التوحيد الحق يتضمن محبة الله عز

وجل وتعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتسليم لأمره، والانقياد لطاعته في

جميع شؤون الحياة بدءاً بالعقيدة ثم العبادات وسائر المعاملات التي يتعرض لها

الإنسان في حياته؛ لأن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله (تنفي عن قلبه إلهية ما سوى

الحق، وتثبت في قلبه إلهية الحق.. بحيث يكون محباً لله، معظماً له، عابداً له،

راجياً له، خائفاً منه، محباً فيه، موالياً فيه، معادياً فيه، مستعيناً به، متوكلاً

عليه ... وأمثال ذلك مما هو من خصائص إلهية الله سبحانه وتعالى ... ) [9] .

وعلى ذلك فإن هذا يعني: الإذعان للإسلام، والخضوع له في التصور

والفكر والسلوك، في جميع نواحي الحياة، كما في قوله تعالى: [قُلْ إنَّ صَلاتِي

وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ

المُسْلِمِينَ] [الأنعام: 162، 163] .

ولا شك أن العرب وهم أدرى وأعلم بلغتهم يدركون بداهة أنّ (لا إله إلا الله)

تعني طاعة الله وعبادته وحده لا شريك له. ومعنى ذلك: نزع السلطان الذي

يزاوله الأمراء والحكام وزعماء القبائل بمقتضى أهوائهم ومصالحهم، ورده كلّه إلى

الله عز وجل: [إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ] [يوسف: 40]

يقول صاحب الظلال رحمه الله في تفسير هذه الآية: (ولا نفهم هذا التعليل

كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى العبادة التي يخص بها الله وحده.

إن معنى: عَبَدَ في اللغة: دان وخضع. ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في

أول الأمر أداء الشعائر، إنما كان هو معناه اللغوي نفسه. فعندما نزل هذا النص

أول مرة (في المرحلة المكية) لم يكن شيء من الشعائر قد فرض حتى ينطلق اللفظ

إليه. إنما المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي. كان

المقصود به هو الدينونة لله وحده والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده، سواءً

تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية.

فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله سبحانه بها نفسه ولم

يجعلها لأحد من خلقه.

وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو، نفهم لماذا جعل يوسف عليه السلام

اختصاص الله بالعبادة تعليلاً لاختصاصه بالحكم؛ فالعبادة أي الدينونة لا تقوم إذا

كان الحكم لغيره، وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام

الوجود، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة) [10] .

وبهذا المعنى كان العرب يدركون أن (لا إله إلاالله) رفض للسلطان الوضعي

الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية وهي العبادة والطاعة، وخروج على كل من

يحكم بشريعة أو قوانين لم يأذن بها الله: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ

يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ] [الشورى: 21] .

ولذلك لم يكن يغيب عن المشركين وهم يعرفون المدلول الحقيقي لدعوة لا إله

إلا الله ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ومصالحهم وسلطانهم.

وإلى ذلك نبّه (ورقة بن نوفل) بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة فقال:

(ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك؛ فيسأله النبي-صلى الله عليه وسلم- في

استغراب: (أوَ مخرجيّ هم) ؟ ! فيقول ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به

إلا عودي) [11] .

وأخرج الحاكم والبيهقي وأبو نعيم من حديث علي رضي الله عنه أن رسول

الله-صلى الله عليه وسلم- لما خرج في موسم الحج يدعو قبائل العرب إلى الإسلام، عرض نفسه على بني شيبان بن ثعلبة، فدعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده

لا شريك له، وأنه عبده ورسوله، وأن يؤووه وينصروه ليبلغ رسالة ربه، فقال له

المثنى بن حارثة الشيباني: وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما

تكره الملوك، فرد عليه النبي-صلى الله عليه وسلم- بقوله: (وإن دين الله عز

وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه) [12] .

الإيمان قول وعمل:

إن شهادة أن (لا إله إلا الله) لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان، ولا يمكن أن

تكون كذلك في مرحلة من مراحل الدعوة، فضلاً عن مرحلة التأسيس التي هي

أشق المراحل وأهمها؛ وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية التي لقيها المسلمون من

المشركين وما موجبها؟ ! وإنما كانت هذه الشهادة نقلةً بعيدةً ومعلماً فاصلاً بين

حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض

وتعبدات ومشقات أعظم وأكبر من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها:

من ذلك فريضة التلقي الكامل في التشريع والحكم وكل ميادين الحياة عن الله

ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها.

ومن ذلك الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءً

وإخواناً وأزواجاً وعشيرة.

ومن ذلك فريضة الصبر على الأذى في الله الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت

إلى القمة، تحمل الفرائض والواجبات حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما

يكره أن يلقى في النار [13] .

وهذا ما كان يعانيه بلال رضي الله عنه وهو يُلبس أدرع الحديد ويُسحب في

رمضاء مكة وقت الظهيرة، وما كان آل ياسر يلقونه وهم يتعرضون لأشد بلاء

شهدته أسرة مضطهدة [14] ، وغير ذلك كثير مما سجلته كتب السيرة والحديث.

إنّ في إمكان أي إنسان أن يصلي ما شاء الله له، وينفق بما شاء الله له دون

أن يناله كبير مشقة، ولكن: أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادات

وأعراف اجتماعية درج عليها المجتمع أجيالاً ويتحداه بمخالفتها؟ فما بالك إذا كان

الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو عرف، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل

عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي.

ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها ومراقبة شديدة لها.

ولهذا كانت النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد ألاّ إله إلا الله، فيعود من

فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها، وليقطع العلائق التي طالما

وثقها [15] .

وهكذا فهم المسلمون دلالة هذه الكلمة المتميزة، كما فهمها الكافرون على حدّ

سواء: [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] [الأنفال: 42] ؛

فهمها المسلمون فالتزموا بما فرضه عليهم من تبعات وتكاليف، وقاومها الكافرون؛

لأنهم فهموا مقتضاها وما يترتب عليها من ذهاب سلطانهم وتحطم كيانهم، وتهافت

أساطيرهم وأوهامهم.

إنه حتى على المنطق الجاهلي لا يصح للمرء أن يتصور شهادة بلا أثر في

واقع الحياة، وإلا: أفكان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبناءهم وإخوانهم

ويقطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟ ! [16] .

إن حقيقة العبادة لو كانت مجرد كلمة تقال باللسان أو هي الشعائر التعبدية فقط

لما استحقت كل ذلك الموكب من الرسل والرسالات، ولما استحقت كل تلك الجهود

المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله عليهم وعلى رأسهم محمد؛ إنما الذي استحق

كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الخضوع للعباد ولأهوائهم إلى

الإذعان لرب العباد، في كل أمر وفي كل شأن.

ولأجل ذلك: فإن كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) إعلان إلهي عام لتحرير

الإنسان في الأرض من العبودية لغيره ولهواه، وذلك بإعلان العبودية لله وحده

المتمثلة في إفراده بالطاعة.

على أنّ سيادة الشريعة الإلهية وحدها، وإلغاء القوانين البشرية التي تخدم فئة

من الناس وهم (الملأ) ، كل ذلك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان؛ لأن المتسلطين على

رقاب العباد المغتصبين لسلطان الله في الأرض لا يسلمون في سلطانهم بمجرد

التبليغ والبيان [17] ، بل حتى الأفراد أنفسهم، وهم الذين عبّدوا أنفسهم لغير الله

من الطواغيت والأنداد المختلفة والأصنام الفكرية، ليس لدى أكثرهم استعداد لترك

ما ألفته النفس، وسار عليه الآباء والأجداد، ويعيش عليه المجتمع كله، لمجرد

التبليغ والبيان، بل إن ما في نفوسهم من حواجز الكبر والعناد والتمرد لا يقل عن

الحواجز الضخمة التي يضعها البشر المتألهون دون شعوبهم المستعبدة [18] .

وإزاء هذه الاعتبارات، فإن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض

من كل سلطان غير سلطان الله بإعلان ألوهيته للعالمين: [وَهُوَ الَذِي فِي السَّمَاءِ

إلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ] [الزخرف: 84] لم يكن إعلاناً نظرياً

فلسفياً سلبياً، وإنما كان إعلاناً حركياً واقعياً وإيجابياً، إعلاناً يراد به التحقيق

العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم بالفعل من العبودية

للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك. ومن ثَمّ لم يكن بدّ أن يتخذ هذا الإعلان

شكل الحركة أي الجهاد [19] إلى جانب شكل البيان أي التبليغ [20] . وهو ما

جمعته آية سورة الحديد في قوله تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ

الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ

وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحديد: 25]

هذا وقد رسخ القرآن الكريم في قلوب الصحابة رضي الله عنهم العقيدة

الصحيحة بهذا المفهوم، وأتت تربية الرسول-صلى الله عليه وسلم- لأصحابه

ثمارها المباركة في هذا الجانب، فلم يحتكموا إلا لله، ولم يطيعوا ويتبعوا أحداً على

غير مرضاة الله، ولم يوالوا ويعادوا إلا في الله، ولم يستغيثوا ويستعينوا إلا بالله،

إلى غير ذلك من حقائق ومعاني هذا الأصل العظيم التي قررها القرآن الكريم

والسنة النبوية في المرحلة المكية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015