مقال
المنهج السديد في عرض مادة التوحيد
تجربة ذاتية لتدريس مادة العقيدة
بقلم: د. أحمد بن أحمد شرشال
لماذا مادة التوحيد؟ !
من خلال تجاربي الشخصية الطويلة مع شرح ابن أبي العز لمتن الطحاوي رحمه الله لمست عزوفاً ونفوراً من قِبَلِ بعض الطلاب في القسم الجامعي [*] عن فهم واستيعابه هذا الشرح.
ولا غرو في ذلك؛ فقد كنت أعاني شيئاً من ذلك وأقاسيه عندما كنت طالباً؛
لأن أستاذ هذه المادة كان يتلو علينا هذا الشرح، ويردد كل ما فيه؛ ولا ندري كيف
دخل في الموضوع، ولا كيف خرج منه؟
ولما صرت إلى ما صار إليه، وأُسند إليّ تدريس هذه المادة وقعت فيما وقع
فيه أستاذي، وانتابتني حيرة وارتباك في عرض الموضوع، وأدركت عدم انسجام
الطلاب مع هذه المادة الأساسية؛ بل إنني سمعت كلاماً منهم فيه بعض التهوين من
شأن مادة العقيدة.
فتوقفت ملياً في النظر في إعراض بعض الطلاب ونفورهم من هذه المادة،
وقلّبت الأمر على جميع وجوهه في محاولة لاستكناه الحقيقة وتشخيص الداء.
وبينما كنت أفكر إذ لاح لي أن المنهج والطريقة في عرض موضوعات
العقيدة بأسلوب السرد، وكثرة حكاية ضلال المتكلمين، ورصد شبهاتهم؛ هو الذي
سبّب هذا النفور، وعكس هذه الحال؛ فضاع القصد في خضم هذا الركام لا في
العقيدة نفسها معاذ الله وإنما هو في العرض والتقديم.
ومن ثم قمت بهذه المحاولة عساها تكون مرغوبة، وسطرت هذه الفكرة علها
تكون مفيدة، وجعلت ذلك بعنوان: (المنهج السديد في عرض مادة التوحيد) .
وطبقت هذا المنهج وهذه الطريقة في تدريسي لهذه المادة الأساسية، فوجدت
أثره في الطلاب نافعاً والإصغاء إليه كاملاً والتطلع إليه سريعاً، وتحول النفور إلى
رغبة، والخروج من المحاضرة إلى حضور واستقرار، وظهر البِشْر على محياهم؛ وكلما دخلت عليهم قابلوني بوجوه مستبشرة، وساد في القسم الوئام والاحترام
والتقدير.
ومن باب: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ... ) ، رأيت
أن لا أستأثر بذلك، فأسطِّر تجربتي، وأنقلها لإخواني.
أصل المنهج المقترح:
أقول ومن الله أستمد العون والتوفيق: إن هذه الطريقة لم تخرج عن المنهج
السلفي، وقصارى ما فيها الجمع والحصر للآيات القرآنية والأحاديث النبوية في
الموضوع، ثم شرح هذه الآيات؛ وعن طريق المقارنة والموازنة نصنف المعاني
المشتركة بطريق الشرح اللغوي لمفردات الموضوع وعناصره الأساسية؛ وهذا لا
يكون إلا بعد الاستقراء والاستنتاج، وإن كان هذا العمل مرهقاً للأستاذ إلا أن
نتائجه النافعة تنسيه مشقة البحث.
وبعد ذلك نعقب، ونورد كلام العلماء ونصوص الأئمة: قبولاً، ورداً،
ومناقشة واقتباساً واستشهاداً وهنا يكون محل رد الشبهات ودحضها إن كانت لا تزال
قائمة، وقد تتهاوى تلقائياً.
نماذج تطبيقية:
مفهوم العرش في اللغة والقرآن: وأضرب لذلك مثلاً حياً تطبيقياً إذا كنا
بصدد شرح قول الإمام الطحاوي رحمه الله: (..والعرش والكرسي حق..) [1] .
معنى هذه الجملة: أن العرش والكرسي حق ثابت بالكتاب والسنة، و (حق)
خبر المبتدأ وهو (العرش) قال ابن مالك:
والخبر الجزء المتم الفائدة ... كالله بر والأيادي شاهدة
واقتداء بقوله تعالى: [وَاًتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا] [البقرة: 189] على أحد
وجوه التفسير؛ فإن بابنا الوحيد الذي نلج منه إلى هذا الموضوع هو القرآن والسنة.
ونبدأ بالجزء الأول؛ لأن كلام الطحاوي تضمن موضوعين: العرش،
والكرسي؛ وكلاهما ثابت بدلالة الكتاب والسنة كما سيأتي مفصلاً.
ونقول: إن مادة: (عرش) في جميع صيغها وردت في ثلاث وثلاثين موضعاً
في كتاب الله مختلفة الصيغ والأبنية، وتتفق في معنى مشترك وهو العلو والارتفاع.
قال القرطبي: (وأصل التعريش: الرفع. يقال: عرش يعرش، إذا بنى
وسقف) [2] .
وقوله: [وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا] الواردة في البقرة والكهف والحج
معناها: خلت من السكان، وتهدمت، وسقطت سقوفها.
العرش: سقف البيت. والعروش: الأبنية المسقفة بالخشب. يقال: عرش
الرجل يعرش: إذا بنى وسقف بخشب. والعريش سقف البيت.
قال القرطبي: (وكل ما يتهيأ ليظل أو يكنّ فهو عريش، ومنه عريش
الدالية) [3] يقصد عريش الكرم وهو شجر العنب؛ فيكون المعنى: سقط
السقف، ثم سقطت الحيطان عليه؛ واختاره ابن جرير الطبري. وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به.
وقريب من هذا المعنى في قوله تعالى: [وَهُوَ الَذِي أَنشَأََ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ
وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ] [الأنعام: 141] معروشات: ما يحتاج أن يتخذ له عريش يحمل
عليه فيمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه.
وجاء في القرآن معنى آخر للعرش يؤول إلى الأول وهو عبارة عن السرير
الذي يجلس عليه الملك للحكم: أي سرير المملكة ومنه قوله تعالى: [وَلَهَا عَرْشٌ
عَظِيمٌ] [النمل: 23] .
حقيقة العرش: وإذا عرفنا معنى العرش في الاستعمال اللغوي واللسان
العربي: فما حقيقته هنا في هذه الآيات السبع، وفي غيرها مما كان مضافاً إلى الله
عز وجل؟
الجواب: لا نعلم ذلك ولا يجوز لنا أن نقيسه على الأول؛ لأن الأول من عالم
الشهادة وهو محسوس وملموس ومضاف إلى البشر، والثاني من عالم الغيب
ومضاف إلى الله عز وجل والله عز وجل امتدح [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ]
[البقرة: 3] .
وطريقنا الوحيد في ذلك: أن نتلمس بعض الأوصاف عند الذين اصطفاهم الله
وأعلمهم بذلك؛ كما بين ذلك القرآن فقال عز وجل: [عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَداً (26) إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ] [الجن: 26-27] .
ولذلك فإننا نتلمس أوصاف العرش من القرآن ومن السنة فنقول:
ثبت في القرآن أن العرش على الماء: [وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ] (هود:7) وثبت أن للعرش قوائم تحمله الملائكة حافين حوله يسبحون بحمد ربهم؛ فقد قال
تعالى: [وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ] [الحاقة: 17] وقال في وصفه
أيضاً: [وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ]
[الزمر: 75] ، وقال أيضاً: [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ] (غافر: 7) ، ثم نتدرج إلى وصف من هو أعلم الخلق بربه؛ إذ قال: (إن عرشه على سماواته لهكذا) وقال بأصابعه: (مثل القبة.. الحديث) [4] .
وثبت في وصفه أنه فوق الفردوس كما في صحيح البخاري عن النبي: (إذا
سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش
الرحمن) [5] .
ونحن إذ نستعرض هذه النصوص نستنتج أن العرش: سرير ذو قوائم،
تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات على الصفة التي
تليق بعرش الله. وقد فهم هذا المعنى بعض الشعراء، وذكره مشهور عندهم في
الجاهلية والإسلام.
وقال الشوكاني في بيان صفة العرش: (وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة
صفة عرش الرحمن وإحاطته بالسماوات والأرض وما بينهما وما عليهما) [6] .
وحينئذ لا يجوز لنا أن نتجاوز الوصف الذي حدده الله في القرآن وبينه
النبي-صلى الله عليه وسلم- في السنة.
الاستواء في اللغة، وفي القرآن: ونعود مرة أخرى إلى كتاب الله ناظرين في
معنى قوله: [اسْتَوَى] وبيان وجوه استعمالها في القرآن.
حقيقة الاستواء في اللغة: التساوي واستقامة الشيء واعتداله. وورد في كلام
العرب على معان اشترك لفظه فيها؛ فيكون بمعنى الاستقرار، ويكون بمعنى
القصد، ويأتي بمعنى العلو والركوب؛ ويأتي بمعنى المماثلة والمساواة كقوله تعالى: [هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ] [الرعد: 16] ،
وجاء بهذا المعنى في سبع عشرة موضعاً [7] . ومنها ما يكون بمعنى بلوغ القوة
العقلية والبدنية وكمالهما؛ ومنه قوله تعالى: [وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى]
[القصص: 14] أي بلغ مبلغاً يؤهله لقبول العلم والحكمة.
ومنها: ما يجيء بمعنى الاستقرار والرسو نحو قوله تعالى: [وَاسْتَوَتْ عَلَى
الجُودِيِ] (هود: 44) ، وجاءت بمعنى الركوب على الدابة وعلى الفلك كقوله
تعالى: [فَإذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفُلْكِ] [المؤمنون: 28] ومنه قوله
تعالى: [وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (?)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ] [الزخرف: 12-13]
وجاء هذا الفعل هنا متعدياً بحرف الجر [عَلَى] الذي فيه معنى الاستعلاء
والركوب.
قال ابن كثير: (لتستووا متمكنين مرتفعين) [8] ، فتكون هنا بمعنى: علا
على الدابة والفلك واستعلى على ظهرها متمكناً منها. وجاء هذا الفعل متعدياً بـ
[إلَى] في موضعين في قوله: [ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ] [البقرة: 29] وفي الآية
11 من سورة فصلت. قال أبو العالية: استوى ارتفع. وقال مجاهد: استوى علا. وقد فسرها الطبري بالعلو بعد أن ذكر أقوالاً كثيرة حيث قال: (وأوْلى المعاني في
قوله عز وجل [ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ] علا تبارك وتعالى عليهن، ودبرهن
بقدرته، وخلقهن سبع سماوات) [9] . وذكر ابن حجر في تفسير: [اسْتَوَى]
أقوالاً عديدة ثم قال: (وأما تفسير [اسْتَوَى] علا فهو صحيح وهو المذهب الحق
وقول أهل السنة؛ لأن الله تبارك وتعالى وصف نفسه بالعلو [10] . أما الحافظ
ابن كثير: فقد جعل الفعل [اسْتَوَى] متضمناً لمعنى القصد والإقبال؛ لأنه عُدِّيَ
بـ: (إلى) أي قصد إلى السماء [11] وهنا يجب علينا أن نتوقف ونقارن بين هذه
الآيات التي كان الاستواء فيها على الدابة وعلى الفلك بالآيات السبع السابقة التي
كان الاستواء فيها على العرش وإلى السماء؛ وكلها تعدت بحرفي الجر: [عَلَى]
و [إلَى] فهل يتفق هذا الاستواء بذاك؟ اللهم! لا؛ لأن استواء البشر العاجز
الفاني لا يشابه استواء الكامل المتفرد بألوهيته وربوبيته؛ فيكون استواء الله على
عرشه يليق بجلاله وسلطانه، واستواء البشر على مركوبه يليق بفقره وعجزه.
وقد يتماثل اللفظان ولكن يجب أن يعبر كل واحد بمعنى لائق بالمقام الذي قيل
فيه؛ فالقرآن حكى وصف الهدهد لعرش بلقيس فقال: [وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ]
[النمل: 23] وبيّن القرآن وصف عرش الرحمن فقال: [رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ]
[النمل: 26] كلاهما وصف بالعظمة وبينهما من البون ما لا يعلمه إلا الله؛ فعرش
بلقيس عظيم بين عروش الملوك مثلها، وعرش الرحمن أعظم؛ فلا بد من اعتبار
المقام في فهم الكلام.
وهنا يجب أن يتوقف دور العقل والتوهم والتخيل وإفساح المجال للسمع
والنقل وحده؛ وهو الكفيل بضمان عدم الوقوع في الردى وهو التشبيه والتأويل.
فاستواء البشر على الفلك والأنعام معقول المعنى محسوس مشاهد، واستواء الله
على عرشه لا تدركه العقول؛ لأن الأول مضاف إلى البشر، والثاني مضاف إلى
الواحد الأحد: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] [الشورى: 11] .
منهج السلف في مثل ذلك:
وهذا هو منهج السلف في إثبات الاستواء لله على وجه يليق بجلاله وكماله من
غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل [12] .
ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول،
والسؤال عنه بدعة) [13] .
قال الحافظ الذهبي في كتاب العلو بعد ذكره لقول مالك: وهو قول أهل السنة
قاطبة: أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في
كتابه، وأنه كما يليق به: لا نتعمق، ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً
ولا إثباتاً؛ بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى
بيانه الصحابة والتابعون؛ ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه؛ ونعلم يقيناً
مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثل له في صفاته ولا في استوائه ولا في نزوله
سبحانه وتعالى [14] .
الكرسي في القرآن واللغة: ثم نواصل الشرح إلى الجملة الثانية: (والكرسي
حق) أقول: إن الكرسي حق ثابت في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه-صلى الله
عليه وسلم-، نؤمن به على ما جاء في كتاب الله، ولا نشتغل في البحث عن
صفته. وقد ورد في القرآن في موضعين:
أولهما: في قوله تعالى: [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا
وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ] [البقرة: 255] .
ثانيهما: في قوله تعالى: [وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً] [ص: 34] .
ويجب علينا بادئ ذي بدء أن نفرق بين الاستعمالين للفظ (كرسي) في الآيتين: الأول مضاف إلى الله عز وجل والثاني مضاف إلى نبي الله سليمان. فالأول
مضاف إلى الخالق، والثاني مضاف إلى المخلوق. فإذا علمنا هذا فإننا لا نقع في
مزالق المتكلمين؛ فتماثل اللفظين يجب أن يُفهم من كل منهما معنى يليق بالمقام،
وإذا تأملنا الكرسي المضاف إلى المخلوق في اللغة نجد أن ابن منظور ذكره في مادة: (كرس) وقال: كرس: تكرس الشيء وتكارس: تراكم وتلازب. وتكرس أسّ
البناء: صلب واشتد.
والكرس: أبوال الإبل والغنم وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار ثم
قال: والكرسي في اللغة الشيء الذي يعتمد عليه ويجلس عليه كما يقال: اجعل لهذا
الحائط كرسياً: أي ما يعتمد عليه [15] .
أقول: ولعل هذا هو المراد في قوله تعالى: [وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً]
وهو الكرسي الذي كان يجلس عليه نبي الله سليمان عليه السلام للحكم؛ فهذا معقول
المعنى؛ فهو بمقدار ما يسع شخصاً واحداً في جلوسه؛ فإن زاد على مجلس واحد
وكان مرتفعاً فهو العرش كما تقدم في قوله تعالى: [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ]
[يوسف: 100] فهذا هو الكرسي المضاف إلى البشر معقول المعنى، مشاهد
محسوس؛ فهو من عالم الشهادة.
أما قوله تعالى: [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ
العَلِيُّ العَظِيمُ] [البقرة: 255] فهو من عالم الغيب كما قدمنا؛ فيكون طريقنا إلى
فهمه النقل والنص؛ لأن الكرسي هنا مضاف إلى الله عز وجل. ومعنى هذه الجملة
يقال: وسع فلان الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به. ولا يسعك
هذا: أي لا تطيقه ولا تحتمله؛ ومنه قوله: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا
اتباعي) أي لا يحتمل غير ذلك. والمعنى أنها صارت فيه، وأنه وسعها ولن يضيق
عنها لكونه بسيطاً واسعاً. وقوله: [وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا] آده يؤوده: إذا أثقله
وأجهده أي لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما [16] .
والضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى ويجوز أن يكون للكرسي؛ لأنه من
أمر الله؛ فالآية تدل على أنه شيء عظيم دون التعرض لذات الكرسي. وروي عن
عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (إن كرسيه وسع السماوات والأرض،
وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من الثقل) [17] .
الأقوال في معنى الكرسي:
وهنا يتأخر العقل وينتهي الدور المنوط به، ويتقدم النقل؛ فمن التزم النص
والنقل فاز وظفر بالمطلوب، ومن خالف فقد وقع بالزلل، ومن هؤلاء:
1- جماعة من المعتزلة نفوا وجود الكرسي وأخطأوا في ذلك خطأ بيِّناً.
واختار هذا الباطل: القفال، والزمخشري، وقالوا: ما هو إلا تصوير لعظمته
وملكه؛ ولا حقيقة له، وقيل هو ملكه [18] .
2- وذهب جماعة إلى أن كرسيه هو قدرته التي يمسك بها السموات والأرض
كما يقال: اجعل لهذا الحائط كرسياً أي ما يعتمد عليه.
3- وقيل إن الكرسي هو العرش رواه ابن جرير الطبري عن الحسن
البصري وذكره ابن كثير واختار هذا جلال الدين السيوطي. قال القرطبي: (وهذا
ليس بمرضٍ) [19] . وقال ابن كثير: والصحيح أن الكرسي غير العرش،
والعرش أكبر منه؛ كما دلت على ذلك الآثار والأخبار [20] .
4- وقال جماعة: كرسيه: علمه وهو عبارة عن العلم، رواه الطبري عن
ابن عباس من طريقين؛ ومنه قيل للعلماء: كراسي؛ لأن العالم يجلس على كرسي
ليعلِّم الناس، ومنه الكراسة التي يُجمع فيها العلم، ورجح هذا ابن جرير
الطبري [21] ، وهي رواية شاذة عن ابن عباس كما قال الشيخ أحمد شاكر.
5- والمحفوظ عن ابن عباس كما رواه ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، والحاكم في المستدرك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: [وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ] أنه قال: الكرسي: موضع القدمين، والعرش لا يقدِّر
قدره إلا الله [22] ، وصحح هذه الرواية الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فقال: (هي
رواية علم الله شاذة لا يقوم عليها دليل من كلام العرب؛ ولذلك رجح أبو منصور
الأزهري الرواية الصحيحة عن ابن عباس التي تقول: إن الكرسي موضع القدمين، وقال: هذه الرواية اتفق أهل العلم على صحتها؛ ومن روى عنه في الكرسي أنه
العلم فقد أبطل) [23] ، ورجحه الشوكاني في تفسيره فقال: (والحق القول الأول
موضع القدمين ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت عن
جهالات وضلالات [24] والله أعلم. وهنا نطوي الكلام خشية الإطالة.
من محاسن هذا المنهج في تعليم العقيدة:
وفي الختام أقول: لعل هذه الطريقة فيها بعض الجدة والابتكار والمرغبة
فتأخذ بمجامع قلب الطالب، وتؤثر في سلوكه والفضل لله وحده. ومن محاسنها أنه
يتعلم اللغة العربية من خلال الشرح اللغوي لمفردات الموضوع الواردة في القرآن
وتتبع موادها وصيغها المتنوعة؛ فيكون بذلك حصل له تعلم تفسير القرآن الكريم؛
وهو مطلوب لذاته.
فهذه الطريقة جمعت بين شرفين عظيمين: شرف الوسيلة، ونبل المقصد؛
فالمنهج الذي قصدناه لشرح الموضوع هو في حد ذاته مراد لنفسه إرادة الغايات
والمقاصد، مطلوب لذاته؛ بل إنه من أهم المقاصد لفهم معاني الكتاب العزيز،
ولأن العقيدة لا تنفك عن القرآن، ومن أهم محاسنها ربط الطالب بالقرآن. ومن
فوائد هذه الطريقة أن يتعلم الطالب الشمولية والاستيعاب لمكونات الموضوع
وأساسياته؛ فقد اشتملت على ما ذكره ابن أبي العز وزيادات كثيرة؛ وإن هذا
المنهج خلا من السرد وحكايات ضلال المتكلمين وشبهاتهم إلا لماماً.
ومن محاسنها أيضاً أن يتعلم الطالب العقيدة بطريق غير مباشر؛ فينبغي أن
تكون نتيجة يبرهن عليها الأستاذ من خلال الكتاب والسنة بالتحليل والمقارنة،
ويجب على أستاذ المادة أن يجعلها ضالة ينشدها في عرضه ونتيجة يصل إليها فهم
الطالب ذاتياً فتؤثر فيه وتثمر بإذن الله فينقاد، ويذعن عن طريق الاقتناع الذاتي.
وهذا المنهج موافق للمنطق العقلي؛ حيث تدرج العرض بالطالب من المعاني
المحسوسة إلى المعاني المعقولة إلى حيث يعجز الإدراك وينقطع الطمع؛ وحينئذ
نمتطي به سبيل السمع، ونركب له طريق النص، فنكل الأمر إلى مولاه، ونثبت
اللفظ على ما جاء على مراد الله بدون تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل؛ بل نؤمن به،
ولا نبحث عن حقيقته ولا نتكلم فيه بالرأي. والله أعلم.