مجله البيان (صفحة 2644)

دراسات شرعية

المدح: أنواعه وضوابطه

بقلم: حمود بن جابر الحارثي

المدحُ: نقيضُ الهجاءِ، وهو: حسن الثناء، وقيل: هو الوصف الجميل.

وعدّ المآثر [1] ، وقيل: هو وصف المحاسن بكلامٍ جميل [2] .

والمدّاحون: هم الذين اتخذوا مدح الناس عادةً وجعلوه بضاعةً يستأكلون به

الممدوح ويفتنونه [3] .

ثبت في السنّة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مُدِح في الشعر والخطابة

والمخاطبة ولم يمنع المادح كمدح عبد الله بن رواحة رضي الله عنه [4] قائلاً:

إني تفرست في الخير أعرفه ... والله يعلم أن ما خانني البصر

أنت النبي ومن يُحرَم شفاعته ... يوم الحساب فقد أزرى به القدر

فثبّتَ الله ما آتاك من حَسَنٍ ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

فقال له النبي: وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة [5] .

ومدحه كعب بن زهير رضي الله عنه [6] في قصيدته المشهورة عندما جاء

تائباً مسلماً:

إن الرسول لنور يُستضاء به ... مهندٌ من سيف الله مسلول

في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلهم ... ببطنِ مكةَ لما أسلموا: زولوا [7]

وبما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهلٌ للمدح، وكل ممدوح من البشر

سواه ناقص. إلا أننا نجده أرشد إلى ما يجوز من المدح، وسد وسائل الإطراء

والغلو التي تؤدي إلى الشرك في مدحه أو مدح غيره، أو تؤدي إلى فتنة الممدوح.

ضابط المدح المباح:

ومن خلال استقراء بعض نصوص السنة في المدح والثناء تتجلى ضوابط

المدح المباح وهي:

1- الصدق: وهو أن يكون الممدوح أهلاً لما يُقال فيه، ولا يتجاوز المادح

الصفات الحقيقية الصادقة في الممدوح.

أما الثناء بما يُعلم حقيقة فهو جائز ومستثنى من التمادح المكروه [8] .

2- التوسط في المدح وعدم المبالغة ومجاوزة الحد:

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- اصطفاه ربه بالرسالة، وهو أفضل خلقه،

وهو أهل لكل مدح إذا لم يتجاوز التأدب مع الله؛ ومدح الرسول -صلى الله عليه

وسلم- لا يتعدى كونه بشراً رسولاً، تشرّف بالعبودية لله، وبَلّغ ما كُلّفَ به بلاغاً

كافياً، فمنع المبالغة في إطرائه ورفعه أعلى من بشريته.

روى الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قال: (سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا تطروني كما أطرت

النصارى ابن مريم. فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله) [9] .

وروى أبو داود رحمه الله بسنده عن مُطرِّف [10] قال: (قال أبي: انطلقت

في وفد بني عامر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: أنت سيدنا، فقال:

السيد: الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طَوْلاً [11] ، فقال:

قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) [12] .

هؤلاء أعراب كانوا حديثي عهد بالإسلام، وكره لهم المبالغة في مدحه، فقال

لهم: تكلموا بما يحضركم من القول ولا تتكلفوه، فيستعملكم الشيطان فيما يريد من

التعظيم للمخلوق بمقدار لا يجوز [13] .

3- الأمن من فتنة الممدوح وحدوث الكبر والاستعلاء والفتور عن العمل

الصالح.

روى الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن أبي بكر رضي الله عنه [14] (أن

رجلاً ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأثنى عليه رجل خيراً، فقال النبي:

ويحك قطعت عنق [15] صاحبك يقوله مراراً إن كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل:

أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله، ولا يزكي على الله

أحداً) [16] .

فالنهي في الحديث محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الوصف أو

من يُخاف عليه فتنة من إعجاب أو كبر، أما من لا يُخاف عليه ذلك لكمال إيمانه

وعقله فلا نهي في مدحه إذا لم يكن فيه مجازفة [17] .

4- تقييد المدح بقول: (أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً) .

تأدباً مع الله في رد علم السرائر إليه؛ فهو أعلم بمن اتقى. وإنما الأحكام

تجري بالظاهر، والله يتولى السرائر.

المدح المباح:

إذا تحققت ضوابط المدح الآنفة الذكر، فإن الممدوح لا يزداد بها إلا كمالاً،

بأن ينشط في فعل الخير والازدياد منه، أو الدوام عليه. خاصة إذا كان المادح من

ذوي المكانة والحكمة الذين يقدرون الأمور بقدرها ويحرصون على درء المفاسد

وجلب المصالح.

روى الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن سالم [18] عن عبد الله بن عمر

رضي الله عنهما قال: (كنت غلاماً شاباً، وكنت أنام في المسجد على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم-، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار،

فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت

أقول: أعوذ بالله من النار. قال: فلقيَنا مَلَك آخر، فقال لي: لم ترع. فقصصتها

على حفصة فقصتها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: نعم الرجل

عبد الله لو كان يصلي من الليل. فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً) [19] .

هذا مدح من معلّم الناس الخير -صلى الله عليه وسلم- كانت ثمرته عظيمة

للممدوح؛ حيث أخذ على نفسه عهداً بقيامِ الليل حتى إنه كان لا ينام منه إلا قليلاً.

وليأمن الممدوح من مداخل الشيطان والفتنة والرياء فإنه يدعو بهذا الدعاء:

(اللهم اغفر لي ما لا يعلمون. ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما

يظنون) [20] .

وعليه أن يتحرز من آفة العجب أو الفتور. ويظهر كراهة المدح ويراقب

نفسه.

المدح المذموم:

وهو ما انعدمت فيه ضوابط المدح المباح. فانعدم فيه الصدق، أو صاحبه

النفاق، أو اتّخِذَ مهمةً للتكسب، وزادَ الممدوحَ بطراً وتكبراً وظلماً ورئاءً.

وهذا النوع هو الذي عناه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام

مسلم رحمه الله بسنده عن أبي معمر [21] قال: (قام رجل يثني على أمير من

الأمراء، فجعل المقداد [22] رضي الله عنه يحثي عليه التراب. وقال: أمرنا

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحثي في وجوه المداحين التراب) [23] .

قال النووي رحمه الله: (حمل المقداد رضي الله عنه هذا الحديث على ظاهره

ووافقه طائفة. وقال آخرون: معناه: حيوهم فلا تعطوهم شيئاً لمدحهم كأنهم من

الذين يتكسبون به وقال آخرون: قولوا له: بفيك التراب) [24] .

وقال الطيبي رحمه الله: (يحتمل أن يراد به: دفعه وقطع لسانه عن عرضه

بما يرضيه من تراب الدنيا استهانة به) [25] .

وقال العلماء في الجمع بين أحاديث الإباحة والنهي: إن كان الممدوح عنده

كمال إيمان ويقين، ومعرفة تامة بحيث لا يُفتن ولا يغتر من ذلك فليس بحرام.

وإن خيف عليه شيء من هذه الأمور كُرِه مدحه في وجهه كراهة شديدة [26] .

هذا في حق الممدوح.

أما المادح فيتحمل وزر قوله إن كان كاذباً، أو متكسباً، ويؤجر إن كان من

أهل الحكمة والعلم وإرادة الخير بالناس.

آفاتُ المدحِ المذمومِ:

قال الغزالي رحمه الله: في المدح المذموم ست آفات [27] :

أربع على المادح وهي:

1- قد يفرط فيه فيذكره بما ليس فيه فيكون كاذباً.

2- وقد يُظهر له من الحب ما لا يعتقده فيكون منافقاً.

3- وقد يقول له ما لا يتحققه ولا سبيل إلى الاطلاع عليه، فيكون مجازفاً.

4- وقد يُفرِحُ الممدوح وهو ظالم أو فاسق فيكون مناصراً لظالم.

وآفتان على الممدوح:

1- قد يُحدث فيه كبراً وإعجاباً؛ وهما مهلكان.

2- قد يفرح؛ فيفسد عمله، أو يغتر.

أسأل المولى عز وجل أن أكون قد وفقت في بيان بعض جوانب هذا

الموضوع، واستغفره من الزلل والنقصان.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015