مقال
بقلم: أحمد العامر
الحمد لله القائل: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] [المجادلة: 11] ، وصلى الله على البشير النذير وعلى آله
وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فما تزال الأمة بخير ما وُجِدَ فيها العلماء العاملون؛ ومتى ما كان للعلماء
العدول فيها التقدير والإجلال بين العامة والخاصة؛ وهذا هو نهج الأمة في صدرها
الأول وفي قرونها المفضلة مع العلماء؛ فهم ورثة الأنبياء، وحسبهم وصف
الرسول لهم بأنهم مثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست
النجوم فيوشك أن يضل الهداة.
ولا شك أن فقد العلماء مصيبة وأي مصيبة على الأمة؛ لا سيما في عصورنا
المتأخرة؛ حيث كثرت الفتن وادلهمت الخطوب مما يتحتم معه وجود العلماء الثقات
الأثبات الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، ويوجهون الأمة في التعليم والإفتاء
والتحذير من المنزلقات.
ووفاة العالم الجليل (الشيخ حماد بن محمد الأنصاري) رحمه الله من هذا القبيل؛ فقد كان عالماً محققاً أدى واجبه في التعليم والإفتاء، ونفع الله به طلبة العلم في
مختلف أنحاء العالم الإسلامي؛ حيث تلقوا العلم على يديه وبخاصة في الجامعة
الإسلامية بالمدينة النبوية.
ولمكانة الشيخ رأيت التعريف به وذكر شيء من مناقبه.
نبذة عن حياته:
ولد الشيخ رحمه الله في بلاد (تادمكة) في دولة مالي عام 1344هـ، ونشأ
في بيت علم ودين؛ وعلى يد خاله الشيخ محمد الأنصاري حفظ القرآن في الخامسة
عشرة من عمره، وأخذ العلم من علماء بلدته، ثم رحل إلى السعودية، وواصل
أخذ العلم على علماء الحرمين الشريفين أمثال الشيخ عبد الرزاق حمزة، والشيخ
حسن المشاط، والشيخ (عمر بري) ، والشيخ محمد بن تركي، والشيخ محمد
المدني، والشيخ (محمد الخيال) ، والشيخ (محمد بن إبراهيم آل الشيخ) ، وغيرهم.
وأخذ الإجازة في كثير من العلوم والفنون على كثير من العلماء في الهند واليمن
وإفريقيا والشام والسعودية.
قام بالتدريس في المدرسة (الصولتية) بمكة المكرمة، ثم انتقل إلى (المعهد
العلمي) بالرياض عام 1374هـ، ثم إلى معهد إمام الدعوة بالرياض عام 1375 هـ، ثم انتقل عام 1385هـ، إلى المدينة النبوية؛ حيث درس بكلياتها. وفي
عام 1396هـ استقر بالدراسات العليا بالجامعة نفسها، ورأس قسم العقيدة، ثم قسم
السنة، وأشرف على العديد من رسائل (الدكتوراه) و (الماجستير) في العلوم
الشرعية، ووصل إلى درجة (أستاذ) حتى إحالته للتقاعد عام 1407هـ، وبقي
معها يلقي الدروس العلمية على طلبته وتلاميذه.
وكان منزله دوحة لطلاب العلم يستشيرون الشيخ ويستفيدون من علمه ومن
مكتبته الحافلة بأمهات المراجع والمخطوطات حتى توفي رحمه الله بعد مرض ألم به
استمر لمدة سنة تقريباً، وكانت وفاته بتاريخ 21/6/1418هـ وصلي عليه في
المسجد النبوي. والله نسأل أن يتقبله، وأن يعلي درجته، وأن يخلف له الخير في
عقبه، وأن يسكنه فسيح جناته.
أهم مؤلفاته:
ألف الشيخ حماد الأنصاري العديد من الكتب والرسائل العلمية التي تتراوح
بين المجلدات والكتب والرسائل العلمية، ومن أهمها:
1- أبو الحسن الأشعري وعقيدته: وهو من أوائل ما ألف عن هذا الإمام
حديثاً؛ إذ تتبع فيه رحلته في العقيدة حتى استقر على منهج السلف أهل الحديث كما
توضحه رسالته (الإبانة) ، وفيه الرد على ما يزعمه المتمشعرون المتأخرون.
2- ومن أهم كتبه في علم الحديث: (بلغة القاصي والداني في تراجم شيوخ
الطبراني) وهو عدة مجلدات صدر الجزء الأول منه عام 1415هـ، وهو من
أحب مؤلفاته إلى نفسه.
3- ألف في تاريخ بلاده كتاب: (تاريخ ملّي مالي في القديم والحديث) وهو
مجلدان.
4- له عشرات الرسائل العلمية في العقيدة، والفقه، والرد على المبتدعة
صدر بعضها ضمن (السلسلة الأنصارية) وفي الجزء الأول منها احتوى على
الرسائل التالية:
أ- (كشف الستر عما ورد في السفر إلى القبر) : بيّن فيه مرتبة الأحاديث
التي يستند عليها المبتدعة في شد الرحال للقبور؛ إذ هي: ما بين ضعيفة
وموضوعة لا يصح الاحتجاج بها.
ب- (إسعاف الخلان بما ورد في ليلة النصف من شعبان) جمع ما ورد في
هذا الموضوع من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء، وبيّن ضعف ما ورد فيها،
وأنه لم يثبت في قيام وصيام هذه الليلة شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ج- (تحفة القاري في الرد على الغماري) ناقش فيها العالم القبوري المغربي
(عبد الله الغماري) ورد على رسالته: (إتحاف الأذكياء في التوسل بالأنبياء
والصالحين والأولياء) على ضوء أقوال العلماء المحققين قبله، وبين تدليسات
الغماري في استدلالاته، ثم بيّن التوسل المشروع: وهو ما كان بأسماء الله الحسنى
وصفاته العلى، وبما شرع من الأعمال الصالحة من الدعاء والطاعات واتباع
الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وبيّن التوسل غير المشروع: وهو توسل شركي: كالحلف بغير الله، أو
الدعاء لغير الله، وتوسل بدعي: كالتوسل بجاه فلان أو بحرمته وبفضله وعلمه.
منهج الشيخ في العلم:
عُرِفَ الشيخ حماد الأنصاري بالقوة في المناقشة، وبغزارة العلم وبخاصة في
أداء الدروس والمحاضرات، وبالتحقيق فيما يؤلف ويكتب. ويمكن إجمال منهج
الشيخ رحمه الله في النقاط التالية:
1- عرف بالعقيدة السلفية والمعارضة للمبتدعة من الصوفية والفرق الضالة.
2- اهتمام الشيخ بالدليل، وأخذه به؛ فما صح دليله فهو منهجه؛ فهو ليس
مذهبياً.
3- عنايته بالتوثيق للأحاديث والآثار فيما يؤلف ويكتب ويلقي من دروس.
4- أخذ عن كثير من العلماء الفحول في مختلف التخصصات مما أوجد لديه
ملكة علمية وغزارة في الفهم؛ فهو كالبحر يتحف سامعيه بمختلف المعلومات
واللطائف والحكم.
5- الاستقصاء في بحثه ودراساته سواء أكانت دراسات مطولة كبلغة القاصي
والداني، أم في الرسائل العلمية الموجزة.
6- تواضعه رحمه الله فكثيراً ما كان يقول بأنه ليس أهلاً لما يبحث ويؤلف.
أهم ما كتب عن الشيخ في التعريف به:
ما كتبه عنه الشيخ الأديب (محمد المجذوب) في موسوعته: (علماء مفكرون
عرفتهم) المجلد الأول.
ما نشرته صفحة (مشكاة الرأي) من صحيفة (الوطن الكويتية) العدد (2240)
الصادر في 26/6/1418هـ بإشراف الدكتور عبد الرزاق الشايجي؛ حيث كتب
عنه عدد من طلابه وهم المشائخ: (رياض الخليفي) ، و (جاسم الفهيد) ، و (عواد
الخلف) ، و (محمد بن ناصر العجمي) ، مقالات غنية بالمعلومات عن الشيخ رحمه
الله.
وأرى أن على طلابه دَيْناً بأن يُقَدّم عن حياته وعلمه وفضله رسالة علمية
أسوة بغيره من العلماء أمثاله؛ فحياته مصدر ثر للباحث سيجد فيه محاور عديدة،
ولعل الجامعة الإسلامية التي درّس فيها منذ نشأتها وحتى إحالته للتقاعد تشجع أحد
طلابها على القيام بهذا الدور المطلوب.
والله نسأل أن يغفر للفقيد، وأن يجمعنا وإياه في مستقر رحمته، والله الهادي إلى سواء السبيل.