مجله البيان (صفحة 2609)

هل يمكن التعاون بين المسلمين مع.. الاختلاف؟ (2)

دراسات شرعية

هل يمكن التعاون بين المسلمين

مع وجود الاختلاف؟

(2من2)

بقلم:هيثم بن جواد الحداد

خلص الكاتب في الحلقة الأولى إلى أن التعاون واجب بين المسلمين، فيما

يصح أن يكون براً من الأعمال مع من يصح إطلاق وصف الإسلام عليه وأقام على

ذلك الأدلة، وفي هذه الحلقة مزيد من التفصيل.

-البيان -

الخلاف السائغ: الذي يظهر لي بعد طول بحث ونظر أن الخلاف يكون سائغاً

إذا تحقق فيه شرط واحد فقط، وهو: صدوره ممن يُعذر شرعاً؛ كأن يكون جاهلاً

فيما يجوز له جهله، أو مُكْرَهاً فيما يسوغ له أن يُكره عليه، أو متأولاً فيما يصح

التأوّل فيه، أو مخطئاً، والجامع لهذه الأعذار كلها: أن يكون الباعث للفعل مقصداً

شرعياً معتبراً، سواء كانت المسألة التي خالف فيها من المسائل الاجتهادية، أو من

غيرها.

فهنا لدينا أربع حالات وذلك بالنظر إلى طبيعة المسألة، وطبيعة الفاعل:

إما أن يكون الفاعل ممن يعذر، سواء في مسألة اجتهادية، أو غير اجتهادية.

أو يكون الفاعل ممن لا يعذر سواء في مسألة اجتهادية أو غير اجتهادية.

فإن كان الفاعل ممن يعذر، فقد دخل في عموم الآية: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي

شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] [النساء: 59] ، فهو راد إلى الله ورسوله، ولا

دخل لطبيعة المسألة عندئذ، حتى ولو كانت المسألة من مسائل الاعتقاد. وقد انعقد

الإجماع على أنه ليس كل من فعل الكفر يكون كافراً؛ إذ قد يقوم بالفاعل موانع

تمنع من مؤاخذته بما فعل، وهذه المسألة من هذا القبيل.

ومن هذا؛ عُذْرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل، حين سجد له [1] ، ومنه كذلك إعذار الله عز وجل للرجل الذي أوصى أبناءه بحرقه، وقال:

(لئن قدر الله عليّ ليعذبني، فلما بعثه الله قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال:

خشيتك) [2] ، فهذا ظاهر في أنه متأول، ومن ذلك أيضاً قصة عمر بن مظعون [3] ، حينما شرب الخمر متأولاً استحلالها من قول الله عز وجل: [لَيْسَ عَلَى

الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا] [المائدة: 93] ، مع أن المستحل

لمثل هذه الكبيرة في عصر مثل عصر الصحابة، ومن رجل مثل الصحابة، لا

شك أن فعله هذا يعد كفراً مخرجاً من الملة، ولكن استحلاله لم يكن تكذيباً وردّاً أو

عناداً واستكباراً، بل كان اجتهاداً، وخطأً صادراً عن حسن نية.

أما إذا كان الفاعل ممن لا يعذر، فإنه غير منتظم في سلك الآية، بل هو

متبع لأحد الأقوال؛ لا لأن الله عز وجل أمر باتباعه، بل لأمر آخر، وهذا منشأ

المخالفة، حتى ولو كان ذلك في مسألة اجتهادية؛ ولهذا فإن من أنكر ولو سنة من

السنن الثابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتفق عليها، حتى ولو كانت

من فروع السنن إذا وافقنا على هذه التسمية من غير تأوّل فإنه يعد مبتدعاً، وقد عدّ

العلماء من بِدَع الشيعة إنكارَهم للمسح على الخفين.

ولهذا فإن الإمام أحمد لما سئل عن الصلاة في جلود الثعالب قال: إن كان

متأولاً أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلاً ينهى، ويقال له: إن النبي -

صلى الله عليه وسلم- نهى عنها [4] .

وكذلك فإن من صدر منه فعل في مسألة اجتهادية، وهو يعتقد أن الحق خلاف

ما فعل فإنه يعتبر عاصياً، فإن كان الفعل مما يحتمل الصحة والفساد حكم بفساده؛

فلو صلى إنسان ممن يعتقد نقض الوضوء من النوم، أو من أكل لحم الإبل، بعد

نومه أو أكله لحم إبل، لحكمنا ببطلان صلاته، ولوجبت عليه الإعادة، ولما جاز

الائتمام به في تلك الصلاة، ولو ممن يرى عدم نقض الوضوء في ذلك.

هذا، وشروط كل صنف من هؤلاء الأصناف المعذورين شرعاً: الجاهل،

أو المكره، أو المخطئ، وما يمكن أن يعذروا فيه، مفصلة في كتب الفقه وأصوله، ومواطن اللبس فيها ضيقة، فلا حاجة للتعرض لها هنا.

أما المتأول فقد يكون فيه نوع إشكال يحتاج إلى بحث مستقل لا يمكن الإتيان

به في هذه العُجالة. والذي يظهر أن المتأول: هو من اعتمد على ما يصلح

الاعتماد عليه من أدلة شرعية، أو نحوها؛ حيث يكون بذلك داخلاً في قوله تعالى:

[فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] [النساء: 59] ، وما في معناها من آيات وأحاديث.

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين

اجتهدوا واعتقد بعضهم حل أمور واعتقد الآخر تحريمها، كما استحل بعضهم بعض

أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل

والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء غايتهم أنهم

مخطئون، وقد قال الله تعالى: [رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَاًنَا]

[البقرة: 286] وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء) [5] .

وضد التأول صور كثيرة: منها الهوى، كمن يأخذ ببعض الأقوال اتباعاً

لهواه وشهوته، حتى لو كانت هذه الأقوال من الأقوال المعتبرة كما سيأتي في

الشرط الثاني ومن أشهر أمثلة ذلك الذين يتتبعون رخص المذاهب، من إباحة بعض

صور الربا، والغناء، وغيرها [6] .

ومنها التقليد لمن لا يحق له التقليد، كمجتهد قادر على الاستنباط ومع ذلك قلد، أو قادر على موازنة الآراء، واتباع الأدلة، ومع ذلك ركن إلى الدنيا وترك الأدلة

خلفه ورضي بالتقليد، قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: (اعلم أن المقلدين اغتروا

بقضيتين ظنوهما صادقتين، وهما بعيدتان من الصدق ... وذكر الأولى، ثم قال:

وأما الثانية: فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ، وإيضاحه: أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بعض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ، يكون لهم

من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لذلك الإمام الذي قلدوه؛ لأنهم متبعون له،

فيجري عليهم ما جرى عليه ... وهذا ظن كاذب باطل بلا شك؛ لأن الإمام الذي

قلدوه بذل جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وفتاويهم، فقد شمر، وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به، وطاعة الله على ضوء الوحي

المنزل، ومن كان هذا شأنه؛ فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده؛ وأما

مقلدوه: فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله، وأعرضوا عن تعلمها

إعراضاً كلياً، مع يسره وسهولته، ونزّلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون

منزلة الوحي المنزل من الله، فأين هؤلاء من الأئمة الذين قلدوهم؟) [7] .

ومنها التعصب، للآباء والمشايخ، أو المذاهب، ومنها الحقد والحسد

والبغض [8] .

فأي خلاف خرج عما يعذر المكلف فيه يكون خلافاً مذموماً غير سائغ.

لكن يبقى هنا سؤال يحتاج إلى جواب محرر، وهو:

كيف نعرف الباعث، أو المقصد الحامل لهذا الخلاف، أليس ذلك من الأمور

الخفية؟

الجواب: يُعلم ذلك بالقرائن؛ فمثلاً: إذا بُيِّن لهذا المخالف الحق، على وجه

صحيح، ثم ظهر عناده واستكباره، وكذلك إذا ظهر منه المعاداة والهجران قبل أن

يقيم الحجة على من عاداه أو هجره، فكان مقصده العداوة لا الوصول إلى الحق،

ومن القرائن أيضاً تجنبه الاستماع للنصيحة ورأي المخالف، فكأنه لا يريد إلا رأيه.

يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (لا يخلو المنسوب إلى بدعة أن يكون

مجتهداً فيها، أو مقلداً ... فالقسم الأول على ضربين: أحدهما: أن يصح كونه

مجتهداً؛ فالابتداع لا يقع إلا فلتة وبالعرض لا بالذات، وإنما تسمى غلطة أو زلة؛

لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب، أي لم يتبع

هواه ولا جعله عمدة؛ والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقر به. ومثاله

ما يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع

عنه، وقال: (وأول ما أفارق غير شاك أفارق ما يقول المرجئون..) وقد ذكر

الشاطبي رحمه الله عدة أمثلة لرجوع من كان يقول بأمور عظام اجتهاداً وتأولاً [9] .

لكن مع ذلك يصعب في كثير من الأحيان معرفة المتأول من غيره، فعندئذ

ينظر للفعل نفسه، أي للمسألة نفسها بصرف النظر عن فاعلها، وهو الشق الثاني

في مسألة الخلاف والمختلفين.

فالخلاف يعتبر سائغاً إذا كان في المسائل الاجتهادية، وهذه القضية أعني

تحديد المسائل الاجتهادية تحتاج إلى تحرير، ومع الأسف فإن كثيراً من الكتاب

والباحثين حول هذا الموضوع، من يذكرها مروراً دون أن يقف عندها لتحريرها،

مع أنها من أكبر مواطن النزاع؛ لأن الناس وخصوصاً في هذا العصر انقسموا

تجاهها إلى طرفي نقيض: فطائفة ضيقتها، حتى قصرت المسائل الاجتهادية على

مسائل محصورة، هي التي لم يتبين لهم أنفسُهم وجه الحق فيها، وما عدا ذلك من

مسائل، ظهر لهم رجحان أحد الدليلين، أخرجوها من حيز الاجتهاد، بل ربما

ألزموا الغير بالأخذ بما يعتقدون، ومن ثَمّ اتخذوا موقفاً معادياً للمخالف، وربما

حملهم على التبري منه، ثم نشأ الخلل في الموضوع الذي نحن بصدده، وهو عدم

التعاون مع هذا المخالف.

وفي المقابل ظهر فريق آخر توسّع في هذه القضية حتى ربما جعل الخلاف

في كثير من مسائل الأصول، أو أمهات مسائل العقيدة من المسائل الاجتهادية،

ومن ثم أيضاً تسامح مع مثل هؤلاء المخالفين، وعليه: فلا بد أن نحرر ماهية

المسائل الاجتهادية.

ولتحرير المسائل الاجتهادية، لا بد أن ندرس موضوع الاجتهاد ومتى يكون،

حيث إن المسائل الاجتهادية نتيجة مباشرة للاجتهاد، وبعد دراسة موضوع الاجتهاد

في ضوء النصوص من الكتاب والسنة، نقارن ما خلصنا إليه من هذه الدراسة،

بما ورد عن الصحابة من مسائل اختلفوا فيها، وكيف كان موقفهم من هذا الخلاف،

وما أسبابه [10] .

وإذا نظرنا إلى موضوع الاجتهاد الذي يقودنا إلى تحرير المسائل الاجتهادية،

فإننا نجد أن الاجتهاد ينحصر في الأسباب التالية:

1- إذا لم تظهر صحة الدليل؛ وهذا يكون في الأحاديث التي اختلف العلماء

المعتبرون في تصحيحها، وتضعيفها، أو في الإجماع الذي لم يتواتر.

فالمسائل التي اختلف العلماء فيها، وكان سبب اختلافهم فيها مبنياً على

اختلافهم في صحة الحديث، أو ضعفه، أو ثبوت الإجماع أو عدمه هي مسائل

اجتهادية ولا شك.

2- إذا لم تظهر دلالة الدليل وهذا يكون في الأدلة التي دلالتها على المراد من

قبيل المجمل، أما إذا كانت أدلتها من قبيل النص، الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، أو من قبيل الظاهر، الذي يحتمل معنيين، لكن أحدهما أظهر من الآخر فليس

للاجتهاد من هذه الناحية فيها مساغ.

فالمسائل التي كان الخلاف فيها بسبب الخلاف في دلالتها، هي مسائل

اجتهادية ولا شك. ومن أكثر هذه المسائل شيوعاً: المسائل التي لا تخصها

نصوص مباشرة، وإنما بنيت على القياس؛ حيث القياس لا بد فيه من جمع بين

الفرع والأصل في علة الحكم، لكن كيف نستنبط علة الحكم؟ هناك طرق تعتمد

على دلالة الدليل وهذا مسرح للاجتهاد، فإذا عرفنا علة الحكم، فلا بد من تحقيق

وجود هذه العلة في الحكم، وهذا مسرح لاجتهاد كذلك راجع إلى السبب الرابع

الآتي ذكره.

3- إذا لم يختلف العلماء في ضعف الدليل، ولم يختلفوا في دلالته على المراد، ولكن وُجد له معارض صالح للمعارضة، واختلفوا في كيفية الجمع بين الدليلين،

أو في ترجيح أحدهما على الآخر، حسب القواعد التي قررها العلماء في هذا الباب؛ فإن السبيل ما قاله ابن القيم رحمه الله: (والصواب ما عليه الأئمة: أن مسائل

الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا

معارض له من جنسه فيسوغ فيها إذا عدم الدليل الذي يجب العمل به الاجتهاد

لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها) [11] .

4- فإن اتفقوا في جميع ما مضى، لكن اختلفوا في النازلة، بأي الصور

تلحق؟ أو بمعنى آخر كاختلافهم في تحقيق المناط أي تحقيق وجود العلة في الفرع

المتنازع على حكمه كانت تلك المسألة المختلف فيها من المسائل الاجتهادية، وهذا

السبب من أهم أسباب الخلاف بين المسلمين في العصر الحاضر؛ فكثير من مسائل

السياسة الشرعية من طرق تغيير المنكر، وطرائق الدعوة، وإقامة الخلافة

الإسلامية، بل ومسائل الاقتصاد والاجتماع هي من هذا القبيل.

والغالب أن الإشكال في هذه المسائل وأمثالها ليس في أدلتها صحةً ودلالةً،

فالغالب أن أدلتها عرفت، وسهل الاطلاع على أقوال العلماء وآرائهم حولها، لكن

الإشكال الأكبر في تكييف الوقائع وإلحاق المسائل بنظائرها، وعلى الرغم من

أهمية ذلك فإنه لم يأخذ حجمه المطلوب من الدراسة والتأصيل، ولذا فلا بأس من

إطالة الكلام عليه أكثر من سابقيه.

يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (وقد تقدم أن من الخلاف السائغ: الخلاف

في المسائل الاجتهادية، ولما كان تحقيق المناط في كثير من المسائل لا يمكن القطع

به؛ إذ تختلف فيه الأنظار، تعيّن علينا القول بأنه من المسائل الاجتهادية التي

يسوغ فيها الخلاف) ، وقال في موطن آخر: (الاجتهاد على ضربين: أحدهما: لا

يمكن أن ينقطع حتى أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة. والثاني: يمكن أن

ينقطع قبل فناء الدنيا. فأما الأول: فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط وهو الذي

لا خلاف بين الأمة في قبوله) [12] .

وهنا لا بد من شرط وهو: أهلية الناظر لتحقيق المناط فيما هو بصدده.

فمثلاً: إذا عرفنا علة الربا، ثم ظهرت لنا صورة من صور المعاملات التجارية؛

فإن تحقيق وجود هذه العلة في تلك المعاملة لا يُقبل إلا من متخصص يفهم تلك

المعاملة على وجهها الصحيح، حتى يستطيع إثبات وجود علة التحريم في تلك

الصورة، بطريقة صحيحة. قال الشاطبي رحمه الله تعالى: (قد يتعلق الاجتهاد

بتحقيق المناط، فلا يفتقر ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع، كما أنه لا يفتقر إلى

معرفة علم العربية؛ لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما

هو عليه، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث

قصدت المعرفة به، فلا بد أن يكون المجتهد عارفاً ومجتهداً من تلك الجهة التي

ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى؛ كالمحدِّث العارف

بأحوال الأسانيد وطرقها وصحيحها من سقيمها، فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف

به؛ كان عارفاً بالعربية أم لا، عارفاً بمقاصد الشارع أم لا، وكذلك القارئ في

تأدية وجوه القراءات والصانع في معرفة عيوب الصناعات، والطبيب في العلم

بالأدواء والعيوب ... ونحوها، وهذا كله مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير

مضطر إلى العلم بالعربية ولا العلم بمقاصد الشريعة وإن كان اجتماع ذلك كمالاً في

المجتهد [13] وقال الشنقيطي: (لأن تحقيق المناط يرجع فيه لمن هو أعرف به

وإن كان لا حظّ له من علوم الوحي) [14] .

فإذا كان الخلاف في مسألة ما مبنياً على ما سبق من الأسباب الأربعة، فلا

شك أنه خلاف قوي معتبر، وتكون تلك المسألة من المسائل الاجتهادية، التي

يسوغ فيها الخلاف.

لكن هنا لا بد من قيود مهمة جداً، وهي:

1- أنّ كون المسألة من المسائل الاجتهادية لا يعني أن كل الأقوال التي قيلت

فيها من الأقوال المعتبرة التي يجوز القول بها، بل لا بد أن يكون القول معتمِداً

على دليل صالح للاعتماد حسبما تقدم، وقد قال الشاعر:

وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر

2- يجب أن لا تخرج الأقوال في المسألة الاجتهادية، عن أقوال الصحابة

رضي الله عنهم وذلك في المسألة التي بحثوها بخلاف المسائل النازلة والحادثة كما

هو ظاهر، وذلك لورود عدة نصوص عن جمع من الأئمة في عدم جواز الخروج

عن أقوال الصحابة [15] .

3- وهذا الشرط قد تقدم ذكره؛ لكن أهميته وحدوث اللبس فيه أوجبت إعادة

التأكيد عليه، فكثير من الناس يظن أن كون المسألة من المسائل الاجتهادية مسوغ

لاختيار ما يشاؤون من الأقوال التي قيلت فيها هوىً وشهوة، وربما دفع ذلك كثيراً

من الناس إلى البحث عن أي خلاف في المسائل التي تعرض له، حتى يبرهن أنها

مسألة اجتهادية فيجوز له الأخذ بما يشاء فيها من أقوال، ولا يحق لأحد الإنكار

عليه، وهذا خطأ محض فهو مصادمة صريحة لوجوب الرد إلى الله ورسوله.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس

بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول أو إلى القول والفتوى أو العمل:

أما القول الأول: فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره

اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله.

وأما العمل: فإن كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات

الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها؟ ! والفقهاء من

سائر الطوائف صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة، وإن وافق فيه

بعض العلماء، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وكان للاجتهاد فيها مساغ

لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.

وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الاختلاف هي مسائل

الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم،

والصواب ما عليه الأئمة ... ) [16] .

وبناء على ما تقدم: فإن العمل بالأقوال المعتبرة في المسألة الاجتهادية سائغ

إذا كان الدافع له مقصداً شرعياً، حسبما تقدم، ولا يجوز أبداً العمل بتلك الأقوال

حتى ولو كانت معتبرة تشهياً وهوى، وعليه فالمعذور هو من عمل بأحد الأقوال

المعتبرة لمقصد شرعي فقط.

والخلاصة:

أن الخلاف السائغ، ما كان الباعث عليه غرضاً شرعياً، سواء كان في

مسألة اجتهادية، أو حتى غير اجتهادية؛ إذ يفرق بين الفعل، والفاعل، فإذا أشكل

علينا الباعث وكثيراً ما يشكل نظرنا إلى المسألة ذاتها، فإن كانت من المسائل

الاجتهادية، فإن الإنكار لا يتوجه إلى صاحبها، وربما يتوجه إليه المناصحة أو

الحوار، وإذا كانت المسألة غير اجتهادية، فإن صاحبها مستوجب للإنكار.

وعليه فإن الإنكار يتوجه إلى الخلاف غير السائغ دون غيره.

وعليه أيضاً، فإن موقف الإنسان من المخالفين خلافاً سائغاً مقبولاً، سيختلف

عن المخالفين خلافاً غير سائغ؛ فموقف المسلم من المخالفين ببعض القضايا الفقهية

الفرعية ليس كالمخالفين له في الأصول؛ وذلك مع الأخذ بالاعتبار من يُعذر من

هؤلاء ممن لا يعذر.

الخاتمة: وأعود هنا للأصلين العظيمين اللذين ذكّرتُ بهما ابتداءً، واللذين

يجب أن يستصحبهما الإنسان دائماً وأبداً لا سيما في هذه الأزمنة، وهما:

وجوب الاجتماع والجماعة بين المسلمين.

ووجوب المحبة والموالاة فيما بينهم في الجملة.

آخذين بعين الاعتبار ما يحيق بالمسلمين من ضعف ومذلة وبُعد عن الدين،

راجين أن نعيد الإسلام لهيمنته على الأرض، حتى نحقق الخلافة المنشودة.

ولا تزال هذه القضية بحاجة إلى مزيد تأصيل وتفصيل، يليق بأهميتها،

وتستحق أن تولى عناية خاصة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015