من قضايا المنهج
العمل الإسلامي
ومنهجية التغيير
بقلم: د.جلال الدين صالح
لقد بات تجديد الإسلام في نفوس المؤمنين به أكبر هَمٍّ يؤرق شانئيه، وصار
تتبع توسعه، واقتفاء نموه بين جيل الشباب بخاصة يشغل حيزاً واسعاً واهتماماً
كبيراً في عقول أعدائه من الذين أوتوا الكتاب من قبلنا والمارقين من من صفوفنا،
حتى تمخض عن ذلك هذه الأساليب المشؤومة لكبح المد الإسلامي وإعاقته مما سُمّيَ
بـ (مكافحة الإرهاب) ، وليس في هذا ما يدعو إلى القلق والانزعاج ما دام خط
العمل الإسلامي في حد ذاته منضبطاً بضوابط الشرع، ومحكوماً بقواعد التصور
الصحيح في تأسيس مفاهيمه، فما كان الدين أبداً على ودٍ مع خصومه، ولن
يضيره ذلك إلا حين تدب في المؤمنين به مفاهيم التدين المنحرف، وتجتالهم عن
مصادر التدين الصحيح إلى مساقط الزيغ والهلاك؛ ذلك أن إمامة المسلمين في
الأرض مرهونة بوعي الإسلام على النحو الذي كان عليه جيل الصحابة (رضوان
الله عليهم) فالرب (عز وجل) كما يقول المفسر ابن سعدي (رحمه الله) : (عندما
سأله نبيه إبراهيم أن يوقف الإمامة على ذريته من بعده قال: [لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ] [البقرة: 124] [1] والظلم من أبلج صوره الانحراف المنهجي، وتتعدد
صور هذا الانحراف تبعاً لتعدد مصادر التلقي والتفقه، وأكبرها مقتاً عند الله وأشدها
أذى على العمل الإسلامي تلك التي تكدّر صفاء الرؤية العقدية وتشذ عن مألوف
الدين ومعروفه، وتحاول أن تجعل منه مادة جامحة، أو جافة مخلوطة بما هو
غريب عنه. وقد عرف مجتمع الإسلام هذا النوع من الانحراف في وقت مبكر من
تاريخه، وكان من جراء ذلك تنامي توجهات تحمل خللاً منهجياً في تدينها؛ فمنها
من آثر خلخلة قواعد المجتمع وقتال أهله على مواجهة الكفر ومجاهدته ظناً منه أن
ذلك أفضل ما يتقرب به المرء إلى الله كالخوارج الذين يقرؤون القرآن ولا يجاوز
حناجرهم، وإن منها من كسب انحياز السلطان نحوه؛ فسخر ذلك لإعلاء كلمته،
واستغله في فرض انحرافاته المنهجية على غيره؛ كما فعل المعتزلة في عهد
المعتصم (رحمه الله وغفر له) مع الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) .
الانحراف المنهجي في واقع العمل الإسلامي:
والعمل الإسلامي اليوم ليس على براءة من ذلك الإرث المنحرف؛ فكثير من
شبابه وبعض من قياداته من يؤصل لهذا الفهم السقيم ويزيّنه في قلوب المتحلقين
حوله حتى إن قيادياً بارزاً رأيت له مؤلفاً يعدّد فيه منجزات حركته التي منها إعادة
الاعتبار إلى الفكر الاعتزالي في نطاق الحركة وتفاعلاتها الفكرية. وهذا من شأنه
أن يحيي تلك المواقف التاريخية التي انبهرت بأطروحات الفلسفة اليونانية
ومعاييرها في إصابة الحق، ويبعث فيها من جديد روحَ تخطي النصوص
وإخضاعها لتلك المعايير؛ الأمر الذي يحول دون تعميق التمايز الفكري بين الجانب
الإسلامي والآخر المزاحم، في حين أن نقاء مصدر التغيير الإسلامي وتفرده في
تكوين الذات وتشكيل مفاهيمها ومنهجها ضرورة لا بد منها تحتمها طبيعة هذا الدين. ولقد أدرك سيد قطب رحمه الله هذه الحقيقة حين أكدها بقوله: (ولكني أقرر وأنا
على يقين جازم بأن التصور الإسلامي لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ
إلا حين نلقي عنه جملةً كلّ ما أطلق عليه اسم الفلسفة الإسلامية، وكل مباحث علم
الكلام، وكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضاً، ثم نعود إلى القرآن الكريم) [2] .
ولا شك أن هذه العودة بجانب ما تعمقه فينا من أصالة التفكير والتحرر من
التبعية تضفي على مشروعنا التجديدي خاصيتي: العلم بالحق، والرحمة بالخلق؛
على نقيض الاتجاهات المنحرفة، فلا يصدر لنا قول أو فعل إلا عن معرفة بالحق
ورحمة بالعباد، كما قال ابن القيم رحمه الله في وصف أهل السنة والجماعة:
(يعرفون الحق ويرحمون الخلق؛ فلهم نصيب وافر من العلم والرحمة، وربهم
تعالى وسع كل شيءٍ رحمة وعلماً، وأهل البدع يكذبون الحق، ويكفرون الخلق؛
فلا علم عندهم ولا رحمة) [3] .
وأرى أن من أهم مقتضيات هاتين الخاصيتين: قراءة نصوص الاستدلال
قراءة بعيدة عن (تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) والالتزام
بمرادفها في تحقيق مفاهيم الدين وإلا كان فسادٌ في الأفهام، واعتراضٌ على شرع
الله ودفعٌ نحو الشتات والهوان.
يقول ابن قتيبة رحمه الله: (وقد تدبرت مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون
على الله ما لا يعلمون ... لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحدٍ في الدين:
ف (أبو الهذيل العلاّف) يخالف (النظّام) ، و (النجّار) يخالفهما.. وفلان وفلان ليس
منهم واحدٌ إلا وله مذهب في الدين) [4] .
وهذه المنهجية المعوجة لا تصلح أبداً لتصحيح المسار وإحداث التغيير في
واقعنا الحالي، وغالباً ما تكون مجالاً للاختراق الفكري، وتقويض دعائم المجتمع
الإسلامي وتخريبه.
اتقاؤها ومقاومتها:
وحيث إن وجودها لا يكون إلا على حين غفلة عن العلم الشرعي وغياب عنه
تأصيلاً وتربية، فإن اتقاءها ومقاومتها بداهة لا يكون إلا بتحصيل العلم الشرعي
والتزود منه، وإلا انقلب الأمر من غاية النهوض بالدين إلى الاستخفاف به، وهذا
ما نقله ابن عبد البر عن أهل البدع في كتابه جامع بيان العلم وفضله: (وما ينعى
على أهل البدع إلا أنهم اتخذوا الدين رأياً، وليس الرأي ثقة ولا حتماً.. فلا أجد
أحداً أشد استخفافاً بدينه ممن اتخذ رأيه ورأي الرجال ديناً مفروضاً) [5] .
ولكن لا معنى للعلم ما لم يكن مقروناً بالعمل سوى أن يوظف لمكاسب دنيوية
عابرة تعكس تناقضاً بين المقول والمعمول، وتجعل المتصف بهذا في مصاف
علماء السوء الذين يقول فيهم ابن القيم رحمه الله: (علماء السوء جلسوا على باب
الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم) [6] .
وفي هذا الصنف من العلماء يجد دعاة الضلالة وسيلة لإغواء الأمة وتخديرها
عن إدراك رسالتها في الحياة. والسقوط في هذا الخلق حتماً يتنافى مع غاية العمل
الإسلامي، ويحبس الذات في نطاق شهواني ضيق لا يتجاوز حد الهموم المادية،
ويسلب الشخصية الإسلامية تأثيرها بخلاف تلك التي تربط بين العلم والعمل؛ فإنها
لا محالة تكون مثالاً للاحتذاء والاقتداء، ومن ثَمّ طريقاً إلى التغيير المنشود.
التغيير الإسلامي بين خيارين:
والتغيير الإسلامي اليوم في مفاهيم كثير من الشباب يفتقر إلى تأصيل شرعي
تتوازن فيه المصالح والمفاسد ساعة الإقدام أو الإحجام، وأرى في هذا قصوراً في
فهم الواقع المعاش، وخللاً في فهم مقاصد الإسلام من عملية التغيير ذاتها، وأحسب
أن قصة عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أفضل ما يمكن إيراده عند مناقشة هذه
الظاهرة لدى هؤلاء الشباب فإنه رضي الله عنه بكى من غير جزع حين قرر الملك
الروماني إلقاءه في قدر يغلي بزيت متمنياً أن لو كانت له أكثر من نفس تعذب في
سبيل الله، ولكنه في الوقت ذاته رضي بتقبيل رأس الملك بعد أن اشترط عليه
إطلاق أسرى المسلمين، ولقد مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنهما صنيعه هذا
وكافأه بتقبيل رأسه حيث قال: (حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه) [7] .
هذا الموقف من عبد الله بن حذافة رضي الله عنه بكل ما فيه من إخلاص،
وصدق وتضحية يبرز لنا من جانب آخر قدراً عالياً من فقهه في حمل الرسالة
الإسلامية فلم تكن الدعوة في ذهنه تعني فقط إجادة الموت في سبيل الله، ولكن
أيضاً تعني إجادة الحياة في سبيل الله؛ والافتقار إلى هذا النوع من الفقه يعني خللاً
في العمل الإسلامي، واعتماده يعني اقتفاءً لجيل الصحابة؛ وواقعنا الإسلامي أشد
ما يكون حاجة إلى هذا الفقه، ومن ثَمّ تصريف العمل الإسلامي وفق قدرات الذات
في مغالبة تحديات هذا الواقع ومجاهدته.
يقول ابن سعدي (رحمه الله) : (لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار
وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها أفراد الشعب من حقوقهم الدينية
والدنيوية لكان أوْلى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية) [8] .
إن هذا التأصيل من ابن سعدي يحملني على لَوْم وتخطئة أولئك الشباب الذين
يحجّرون واسعاً، ويحشروننا بين خيارين لا ثالث لهما: القتال حتى الموت، أو
إقامة الدولة الإسلامية، دون النظر إلى واقع الذات من ضعف وقوة، وواقع
التغيرات السياسية دولياً وإقليمياً، وواقع الوعي الإسلامي في المجتمعات التي
ينشطون فيها، ويدفعني أيضاً إلى القول: بأن في الأمر سعة.
والله المستعان،،،