متابعات
دعوة لإعادة النظر
في أسلوب الإسلاميين لإدارة معركتهم مع العلمانيين
بقلم: أسامة محمد إبراهيم
قرأت مقالاً للأستاذ جمال سلطان في مجلة (البيان) الغراء بعددها الرقم 115
الصادر في ربيع الأول 1418هـ، حيث اختار الكاتب عنواناً لمقاله هو: (في
الصراع الفكري ملاحظات على معركة حسن حنفي وجبهة علماء الأزهر) .
وبادئ ذي بدء فإنني أسجل تقديري واحترامي الشديدين للأستاذ جمال سلطان
بوصفه أحد الكتاب الإسلاميين في مصر، وله باع طويل في الدفاع عن الصحوة
الإسلامية التي شهدتها البلاد منذ عقود مضت، فضلاً عن إسهاماته المهمة في مجال
الدعوة الإسلامية سواء من خلال الكتب أو المقالات أو غيرها من السبل التي
تيسرت له.
غير أن كل ذلك لا يمنع من التعليق على بعض ما جاء في مقال الأستاذ جمال
السالف الذكر؛ فقد لفت نظري في مقاله عدم وضوح الرؤى لدى بعض إخواننا
الذين يتصدون للدعوة الإسلامية؛ وذلك فيما يتعلق بالأسلوب الأنسب الذي يجب
اتباعه في هذه الدعوة، خاصة في مواجهة الأبواق والمنابر العلمانية التي ازداد
عددها وانتشرت كالسرطان في جسد الأمة في السنوات الأخيرة، سواء تلك التي
تستخدمها بعض الأنظمة السياسية في بلادنا كأحد الأسلحة الوقائية ضد التيار
الإسلامي، أو تلك التي تهيمن عليها العناصر الماركسية والإلحادية والعلمانية التي
نجحت في التغلغل داخل العديد من الصحف والمؤسسات الإعلامية واسعة الانتشار
بمؤازرة من هذه الأنظمة التي جعلت شغلها الشاغل مهاجمة كل ما هو إسلامي
والسخرية منه والتنديد به وتمجيد ما عداه!
ولقد تعرض الأستاذ جمال في مقاله إلى تلك الحادثة المتعلقة بالدكتور حسن
حنفي التي بدأت ببيان د. يحيى إسماعيل أستاذ علم الحديث بجامعة الأزهر وأمين
عام جبهة علماء الأزهر، الذي هاجم فيه د. حسن حنفي ووصف أفكاره بأنها
تدميرية، وقامت على أثر ذلك كالعادة حملة إعلامية شعواء من قِبَلِ الكتاب
العلمانيين الذين يسيطرون على عشرات المجلات والصحف، فشن هؤلاء هجوماً
على الأزهر وجبهة علماء الأزهر وعلى الإسلاميين من دون استثناء.
وبما أن مثل هذه الحملات الإعلامية المنظمة التي تهدف في الأساس إلى وأد
الصحوة الإسلامية واستعداء السلطات على رموزها، أصبحت من الأمور اليومية
المعتادة في الصحف ووسائل الإعلام بسبب وبدون سبب، فإن ما يجب أن يعنينا
هنا: هو البحث عن (صيغة موحدة) يلتزم بها الدعاة والإسلاميون في مواجهة مثل
هذه الحملات، وليسمح لي الأستاذ جمال أن اختلف معه في بعض الطرح الذي
وضعه في كيفية إدارة الصراع، أو ما أطلق عليه (المعركة التاريخية والفاصلة بين
الإسلام والمناهج الوافدة) .
يقول الأستاذ جمال في مقاله: (إن إثارة معركة مع حسن حنفي في هذا الوقت
لم يكن له ما يسوغه أبداً، ومن أي وجه من الوجوه، فالأخطاء العقدية والفكرية
عند الرجل، قديمة، وليست جديدة، والكتب المشار إليها صدرت قبل سنوات،
ومرت دون أن يشعر بها أحد، كذلك فإن أسلوب د. حسن حنفي المسهب والمطنب
في التأليف يجعل القارئ غير المتخصص زاهداً في قراءته، ولذلك لم يشعر أحد
بأي خطر فكري لحسن حنفي يستحق هذه الضجة الكبرى إلا بعد البيان الذي نشره
الدكتور (يحيى إسماعيل (.
ومن حيث المبدأ، فإنني أتفق مع الأستاذ جمال فيما ذهب إليه من أن الصراع
الفكري، مثل الصراع العسكري أو السياسي، يحتاج إلى فنون خاصة في إدارة
معاركه، ويحتاج إلى حكمة وتخطيط وذكاء ووعي بالواقع واقع الناس وواقع
الصراع فيه إلا أنني أختلف معه في مسألة (التوقيت) الذي يراه غير مناسب في
إثارة معركة مع المذكور؛ وذلك على الرغم مما يعلمه كاتب المقال ويعلمه الجميع
أيضاً من أن د. حسن حنفي هو أحد غلاة العلمانيين في مصر، ونحن نسأل
الكاتب هنا عن الوقت الذي يراه مناسباً لمواجهة مثل هذه الكتابات التي تثير الحيرة
والبلبلة في نفوس العامة من الناس وعقولهم فضلاً عن التدمير الفكري الذي تحدثه
لدى الشباب والناشئة خاصة في الجامعات التي ابتليت بمثل هؤلاء الناس، وهل أن
قِدَم الكتب التي قام د. يحيى إسماعيل بمهاجمتها وفضحها مسوّغ لعدم التعرض لها، كما أن قول الكاتب بعدم وجود خطر فكري من كتابات حسن حنفي كلام في
نظري تنقصه الدقة؛ لأن مثل هذه الكتب مقررة على مئات الطلاب في كلية الآداب
ومطلوب منهم قراءتها مرات ومرات واستيعابها حتى ينجحوا في اجتياز امتحانات
آخر العام!
يخطئ من يظن أن هناك خلافات وتناقضات داخل المعسكر العلماني فيما
يتعلق باستراتيجيتهم في مهاجمة الإسلام والداعين له، وبالتالي فإننا نختلف مع
القائلين بضرورة وضع (أولويات) في مواجهة رموز العلمانية، فكما أن حربهم
على الإسلام ودعاته شاملة؛ فيجب أن تكون مواقفنا منهم أيضاً شاملة، ويكفينا هنا
طمأنة الباري (جل وعلا) لنا بقوله في كتابه العزيز: [إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَذِينَ
آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] [الحج: 38] .
أما الدكتور حسن حنفي فمعروف أن نهجه الفكري، وأستشهد هنا بكلام
الأستاذ جمال سلطان نفسه في وصفه إياه بأن قناعاته الفكرية والاعتقادية في قضايا
الدين بوجه عام مادية، والإيمان بالغيب عنده مسألة فيها نظر، وهو متأثر كثيراً
بالفيلسوف اليهودي الشهير (باروخ اسبينوزا) ... ولذلك نجد الدكتور يحيى إسماعيل
لم يجاوز الحقيقة عندما وصف د. حنفي بأن مشروعه ذو خطر تدميري، فهو
يحقر الأنبياء والرسل ويدعي عليهم بما ليس فيهم، وأن الله عز وجل عنده مثل
مجنون الحارة الذي يطارده الغلمان في الأزقة! ! ، وأنه ينكر النبوة ولا يعتبر
القرآن الكريم كتاب تحليل وتحريم، بل كتاب فكر يجوز إنكار سورة منه مثل
سورة يوسف؛ لأن الجنس عيب وتحليله رذيلة، وأنه يمجد إبليس وينكر الجنة
والنار، ويقول: إن سؤال الملكين خيال شعبي حول الخوف من عواقب الأمور،
ويضيف د. إسماعيل ونحن معه في ذلك: أن يدرس الطلاب مثل هذا، ماذا
ننتظر من جيل يتخرج على ذلك بعدما أهان الله رب العالمين والرسول والقرآن
الكريم ومجّد إبليس، [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ إلاَّ كَذِباً]
[الكهف: 5] .
ذلكم هو حسن حنفي الذي يعتبره كاتب المقال يمثل شرخاً نفسياً عميقاً في
معسكر العلمانية، وأن حرصه على أن يقدم نفسه بوصفه مفكراً إسلامياً متحرراً
ومستنيراً ونصيراً للمستضعفين جعله يهاجم بقوة وجرأة الأقلام والرموز العلمانية
المتحالفة مع الفساد، في الوقت نفسه الذي يتعاطف فيه بوضوح مع الحركات
الإسلامية (سياسياً ونفسياً وإن كان يختلف معهم بطبيعة الحال فكرياً.
وليس من شك أن مبعث كلام الأستاذ جمال سلطان هنا هو حرصه على كسب
أي صوت يؤازر الإسلاميين ويدافع عنهم في الحرب الشعواء التي تُشن عليهم منذ
أمد طويل بتحريض صريح من الداخل والخارج، غير أننا نذكّر الكاتب هنا بقوله
تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ
عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [التوبة: 23] وأظن بعد ذلك
أن الأمر لا يستأهل المزيد من التوضيح أو الإسهاب.
كما أن ما أريد أن أخلص إليه أيضاً من هذا كله وما يجب أن نسخر له جل
تفكيرنا وجهدنا له هو: البحث عن أنسب السبل والوسائل التي يلتزمها جميع
الداعين إلى الإسلام والساعين لإعلاء كلمته، وأن يوحدوا جهدهم في التصدي لمثل
هذه الهجمات الشرسة التي ما فتئ العلمانيون يشنونها على الإسلام ودعاته، وألا
تكون مثل هذه الوسائل قائمة على جهد فردي محض كما فعل الدكتور يحيى
إسماعيل؛ فإن مجرد الاتفاق على مثل هذه الصيغة كفيل بالذود عن الإسلام وفضح
المهاجمين له والذين معهم على الأقل أمام الرأي العام في العالم الإسلامي: [وَمَا
النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [الأنفال: 10] .
تحية وتوضيح من الأستاذ جمال سلطان
سعدت بقراءة التعليق الذي كتبه الأستاذ أسامة محمد إبراهيم، تعليقاً على
مقالي: (في الصراع الفكري) المنشور بالبيان الغراء (العدد 115) ، والحقيقة أننا
في حاجة ماسة إلى سعة الصدر في تقبل الآراء المختلفة المهمومة بقضايا الدعوة،
بل وتنشيط طاقات الاجتهاد والبحث فيها، ولا نفزع من وجود بعض الخلاف فيها؛
إذ إن هذا مما يخصب الفكرة ويوسع الآفاق فيها، وأنا أحيي الأخ الكريم على
مبادرته وعلى غيرته التي استشعرتها من التعليق، وأما بخصوص المعركة مع
(حسن حنفي) وما رأيته من استعجال لها وكان هناك ما هو أهم وأخطر، فإنني
أؤكد أن هناك في مجتمعاتنا كثيرين من أمثال حسن حنفي في الفكر والتصور
والمعتقد، ولكنهم أخطر منه بكثير، كما أنهم جمعوا إلى فساد العقيدة فساد الخلق
والضمير والذمة، وسفاهة الكلام والقسوة في التبجح والإعلان في خصومتهم
للإسلام وشريعته وحضارته والانتماء إليه، فكانوا حرباً على الإسلام ضارية،
بينما رجل مثل حسن حنفي كان، رغم فساد عقيدته، يمتاز بشرف الموقف
السياسي والإنساني مع الإسلاميين، ودفاعه عن المضطهدين ودعواته الواضحة إلى
منحهم الحرية في الدعوة، ويهاجم المرتزقة من العلمانيين الذين يهيجون أجهزة
الدولة ضد الإسلاميين، ويحرضون السلطات على البطش بهم وحرمانهم من أن
يكون لهم صوت أو منبر.
وكان سؤالي هو: لماذا نترك كل هؤلاء الفجرة ونبدأ بمن يدافع عنا ويجيرنا
في أوقات المحنة؟
لماذا نترك أبا لهب ونحوّل حرابنا إلى المطعم بن عدي! كما أن حسن حنفي
يمثل شرخاً حقيقياً في صفوف العلمانيين المصريين والعرب أيضاً، ويدرك ذلك
بوضوح من يخالط الحياة الثقافية عن قرب، وقد عاينت ذلك بنفسي، وهجومه
على النخب الثقافية العلمانية واتهاماته القاسية لهم بممالأة الفساد والظلم ونحو ذلك:
هي أمور علنية وليست مستترة، وينبغي، ونحن نخوض صراعاتنا الفكرية أن
نلاحظ مثل هذه الحقائق وأن نستثمرها جيداً ولا نغمض أعيننا عنها بعاطفية ليست
في أوانها ولا في محلها.
وأما مخاطر تدريسه على الطلبة في الجامعة فهو كما أشرت مهموم بمشروع
سياسي أكثر منه عقدي أو فكري؛ ولذلك فخطره محدود من هذه الناحية، بل إن ما
لا يعرفه كثيرون أن ابن حسن حنفي نفسه هو من المتمردين على منهجه الفكري
وهو شاب من شباب الإسلام الملتزم والغيور، فلا أظن المبالغة في التوجس من
هذه الناحية لها ما يسوّغها.
وحاصل الكلام هنا أن الصراع الفكري يتطلب منا البصيرة بالواقع،
وموازناته ودقائقه، لكي نضع خطط المواجهة على بصيرة ونور، وبحيث تؤدي
دورها وتؤتي أكلها، بدقة وفاعلية.