المسلمون والعالم
بعد مرور مئة عام على المؤتمر الأول لدهاة هيون؟
بقلم: عبد العزيز كامل
(لو أردت أن اختصر مؤتمر بازل في كلمة واحدة، لقلت: في بازل أسست
الدولة الصهيونية، إن العالم سيرى بعد خمسين سنة على وجه التأكيد هذه الدولة) .
هذا ما سطره مؤسس الصهيونية الحديثة بقلمه في مذكراته قبل نحو قرن من
الزمان تعليقاً على المؤتمر الأول لقادة اليهود، الذي انعقد في مدينة بازل بسويسرا
سنة 1897م، وذلك في الجزء الثاني من مذكراته وبالتحديد في صفحة (581) .
فهل كان هرتزل من المتنبئين بالغيب، الذين كشفت لهم أسراره وأستاره
عندما بشر بقيام دولة اليهود بعد خمسين عاماً؟ .. لا.. لا! .
إنه في رأيي لم يكن أكثر من لص، أسس عصابة للسطو على بيت مأهول
وسط قرية كبيرة، عبر طريق وعر طويل، فظل هو وعصابته يتحسبون لأخطار
الطريق، وعقبات الوصول، واحتمالات التصدي، وتوقعات الثأر والانتصار؛
ففوجئوا جميعاً بسرعة الوصول وإنجاز المأمول، بسبب واحد، وهو: أن الطريق
خلت من الشرطة، والقرية افتقرت إلى الساهرين، وأهل البيت كانوا نائمين؛ فمن
يصدق أن مقولة هرتزل تحققت قولاً وعملاً في موعدها المحدد؟ !
إن مؤتمر بازل هذا انعقد في الفترة ما بين 29 31 أغسطس عام 1897م،
وبالفعل، لم تنقضِ الأعوام الخمسون بعدها حتى أُعلِنَت دولة اليهود في مايو
1948م.
وها نحن نعيش زمن انقضاء الخمسين الثانية بعد استيلاء العصابة على البيت، وبعد أن أعلنوا عن سكناه وملكيته إلى الأبد؛ رغم أنف كل أهل القرية!
وها هي الأجيال تلو الأجيال من العصابة تتوارث الإصرار على النجاح
والانتصار بالعمل، وها هي أيضاً الأجيال تلو الأجيال من أهل القرية تتوارث
التواصي بالأمل بالعودة.. الأمل بالتحرير.. الأمل بالنصر، مجرد أمل مع قليل
من العمل حتى صاح فيهم متكلموهم أخيراً: لا داعي للأمل! بل لا داعي للعمل!!
هل يقال بعد ذلك: إن هرتزل تنبأ (بمعجزة) إنشاء دولة (إسرائيل) ؟
إنني أقول: إن تلك لو كانت (معجزة) لما كان السبب فيها (إعجاز) العقل
اليهودي المستهدي بالتوراة وبرؤى الأنبياء كما يرددون ويكررون بقدر ما كان
السبب هو (عجز) العقل العربي بعد أن أريد عزله عن هدي النبوة ووحي السماء،
نعم! لقد صادف التفاف اليهود حول باطلهم التفات قومنا عن الحق الذي معهم،
وتوافق إقبالهم على دينهم، مع الإدبار عن ديننا!
كثيراً ما حاولنا تجاهل هذه الحقيقة، فرددنا مراراً: أن زعماء اليهود، بدءاً
من هرتزل، وحتى بن جوريون وبيجن ورابين (علمانيون) لا صلة لهم بعقائد
التوراة، ولا تأويلات التلمود!
أتدري أيها القارئ ما الحدث الذي أوجد فكرة (الدولة اليهودية) عند هرتزل
قبل مائة عام؟ اسمع ذلك منه، يقول متحدثاً في مذكراته عن رؤيا رآها: (ظهر
لي المسيح (الملك) على صورة رجل مسن في مظهر العظمة والوقار، فطوقني
بذراعيه، وحملني بعيداً على أجنحة الريح ... والتقينا على إحدى تلك الغيوم
القزحية بصورة موسى، فالتفت المسيح إلى موسى مخاطباً إياه: من أجل هذا
الصبي كنت أصلي) ، إلا أنه قال لي: اذهب وأعلن لليهود بأنني سوف آتي عما
قريب لأجترح المعجزات الكبيرة، وأسدي الأعمال العظيمة لشعبي وللعالم) .
ونحن نعرف أن عقيدة (المسيح المنتظر) محور يدور حوله المسلسل التاريخي
اليهودي القديم والمعاصر، وهي عقيدة لا يستطيع أحد أن يدعي أنها فكرة علمانية!
وفي الصفحة الأولى من يومياته، نجد هرتزل يتحدث عن (الأرض الموعودة)
التي اتخذها عنواناً لرواية عقد العزم على كتابتها، وهي التي قرر بعد ذلك أن
يترجمها إلى برنامج عملي. أما كيف دفعته تلك الأحلام والعقائد إلى السير في
طريق إكمال البرنامج فيقول: (شُغلت لمدة خلت بعمل لا حدّ لعظمته، ولا أعرف
الآن ما إذا كنت سأمضي به حتى النهاية، يتراءى لي كحلم جبار، لكنه استحوذ
عليّ أياماً وأسابيع إلى ما وراء حدود الوعي، يرافقني أنى توجهت، ويرفرف فوق
حديثي اليومي، ثم يتطلع من خلف ظهري إلى عملي الصحفي التافه لدرجة
السخرية، يزعجني ويسكرني، من السابق لأوانه الظن بما سيؤول إليه أمره، لكن
تجاربي قد علمتني أنه حتى ولو كان حلماً، فهو شيء عظيم) ! (يوميات هرتزل
ج 1 ص3) .
لقد تجاوز هرتزل مجاراة النفس مع الأحلام بوصفها أحلاماً، ولكنه أيقظ تلك
الأحلام من سبات ألفي عام، وشرع ينظم وينسق الأفكار المتعلقة بالآلام وآمال
اليهود لكي يصل إلى عرضها على شكل مشروع (حل) أمام كبار المتمولين اليهود،
أمثال البارون (دي هيرش) ومجلس إدارة أسرة (روتشيلد) ، ولم يكن اليهود يملكون
في ذلك الوقت إلا المال، الذي كانوا لا يدرون ماذا يفعلون به!
وعبر عامين كان يصيد فيها الأفكار من فضاء الخواطر، تبلورت الفكرة في
رأس هرتزل ودوّنها في كراسة، صارت بعد ذلك كتاباً باسم (الدولة اليهودية) وكان
ذلك عام 1896م، ووصف ما دوّنه بأنه (محاولة لإيجاد حل عصري للمسألة
اليهودية) وبعد ذلك بعام، جمع هرتزل أساطين اليهودية في العالم لمناقشة أفكاره،
وكان المؤتمر الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م، الذي استمر في الانعقاد
بشكل دوري، حتى يومنا هذا.
لقد تمكن الأب الروحي لليهود المعاصرين (تيودور هرتزل) من استقطاب
مختلف الاتجاهات والتيارات الصهيونية السائدة بين يهود العالم في ذلك الوقت،
لكي يجمعهم على هدف واحد لا يختلفون عليه ولا ينفضّون من حوله وهو: إعادة
اليهودية إلى المجد من خلال دولة، ولكن أي دولة؟ ! قال هرتزل: (إن الشعار
الذي يجب أن نرفعه هو: دولة داود وسليمان) !
ولم تكن هناك دولة لداود وسليمان عليهما السلام إلا في فلسطين، ولكن
(فلسطين) كانت تطلق على مساحة تفوق بكثير حدود فلسطين المعروفة الآن
جغرافياً، لتشمل جميع الأراضي اللبنانية والسورية والأردنية وبعض الأراضي
العراقية والمصرية، وأراضي من شمال الجزيرة العربية، وهذه الأراضي في
جملتها هي ما اصطلحت برامج التوسع اليهودي على تسميته بـ (إسرائيل الكبرى) ، الذي حددته نصوص العهد القديم بأرض الميعاد، من النيل إلى الفرات.
والذي يعنينا هنا، أن المؤتمر الصهيوني الأول الذي دعا إليه هرتزل، حدد
هدف الصهيونية القديم في عبارة معاصرة وهو: (إيجاد وطن للشعب اليهودي
يضمنه القانون الدولي العام) .
أما الوسائل التي اعتبرها المؤتمر الصهيوني كفيلة بتحقيق ذلك الهدف فهي:
أولاً: تعمير كل ما يمكن من الأراضي الفلسطينية بسكانٍ يهود مستقرين، من
عمال وزراعيين وصناعيين، لإنشاء أجيال تتشبث بالأرض، ويستحيل اقتلاعها
أو إجلاؤها.
ثانياً: تشجيع وتنظيم هجرة اليهود في العالم إلى أرض فلسطين لتكثيف
الوجود اليهودي فيها، وربط هذه الهجرة بمنظمات محلية ودولية.
ثالثاً: بعث الشخصية اليهودية، بما ينبغي أن تحمله من مشاعر وعقائد
وشعائر وتقاليد على المستوى الفردي والجماعي، وذلك بإحياء ما اندرس من تراث
الديانة اليهودية نظرياً وعملياً.
رابعاً: العمل على ضمان موافقة القوى الدولية على إنشاء هذا الكيان عند
تهيؤ الفرصة لإعلانة.
ولم يضيّع اليهود الوقت في التشاغل بالخلافات رغم تشعبها بينهم في كل
العصور ولكنهم تخطوا الدعوة إلى ما تتحد عليه القلوب، إلى السير خلف ما تحتمه
العقول.
ولم يكد يمضي وقت طويل بعد انعقاد المؤتمر الأول، حتى كانت المساعي
اليهودية الجماعية نحو الهدف والشعار، تتحرك في خطوات وئيدة، لكن نتائجها
أكيدة، وإذا أرض (داود وسليمان) تبرز إلى الوجود تحت اسم نبي ثالث هو يعقوب
أو (إسرائيل) !
ولنلق الآن نظرة على السنوات التي أعقبت المؤتمر الأول، وكيف سارت
الأمور فيها، لنرى العلاقة بين (الأمل) و (العمل) عند اليهود في عصورهم الأخيرة، ولنقارن بعد ذلك بينها وبين العلاقة بين (الأمل) و (العمل) عندنا نحن المسلمين
في عصورنا المتأخرة.
* في عام 1898م أي في العام التالي للمؤتمر الأول وحّد هرتزل الجماعات
اليهودية ولمّ شعثها في كيان واحد، واستطاع كسب تأييدها لمشروعه، وتمكن من
رص صفوفها خلف برنامجه.
* في عام 1899م، تم تأسيس المصرف اليهودي، الذي كُلّف بمهمة تمويل
نشاطات الاستيطان في فلسطين، وتأمين الخدمات المالية التي تحتاجها الحركة
الصهيونية الموحدة.
* في عام 1901م، تأسس (الصندوق القومي اليهودي) ليكون مسؤولاً عن
شراء الأراضي في فلسطين من أصحابها العرب لتمليكها لليهود.
* في عام 1903م قرر المؤتمر الصهيوني تركيز جهود الحركة اليهودية
العالمية على أرض فلسطين وحدها، دون تشتيت الجهود في أماكن أخرى في العالم، اقتُرحت على اليهود لتأسيس دولة لهم فيها كأوغندا أو العريش.
* في عام 1907م قرر المؤتمر الصهيوني السادس أن يتولى بنفسه مهمة
مباشرة النشاط الاستيطاني الاستعماري في أرض فلسطين، وشكّل من أجل هذا
شركة تعمل كفرع من فروع (المصرف القومي اليهودي) .
* في عام 1908م، أطلق أحد الاقتصاديين اليهود شعار: (التغلغل
الاقتصادي) ووضع برنامجاً لتنفيذه باعتبار أن الاقتصاد هو المحرك الفعال للسياسة، إذا أُحسِن استغلاله.
* في عام 1913م قررت الحركة الصهيونية إنشاء (الجامعة العبرية) في
فلسطين، لتتولى مشروع البعث الديني اليهودي بشكل أكاديمي منظم يضمن تنشئة
الكوادر المخلصة للمبادئ الصهيونية.
* في عام 1914م، نشبت الحرب العالمية الأولى، فكانت نقطة انطلاق
جديد للحركة الصهيونية ومؤتمراتها، حاولت من خلالها السعي للحصول على
كسب التأييد الدولي للقضية اليهودية؛ نظراً لما حدث خلال هذه الحرب من تعرض
قطاعات من اليهود للإبادة في أفران الغاز على يد الزعيم الألماني الحانق على
اليهود (أدولف هتلر) .
* في عام 1917م، أثمرت جهود المؤتمرين اليهود في الوصول إلى
استصدار (وعد بلفور) الذي أعطت بريطانيا بمقتضاه الحق القانوني لليهود بإنشاء
وطن قومي لهم في فلسطين، وقد كانت هذه مرحلة فاصلة في تاريخ اليهود
المعاصر، حتى إن أحد الصهيونيين المعاصرين [1] ، حدد تاريخ الصهيونية في
مراحل محددة فقال: (إذا أمعنا النظر، نرى أن تاريخ الصهيونية ينقسم إلى أربعة
أزمنة مختلفة: الأول: زمن التوراة، والثاني: الزمن السابق لهرتزل، والثالث:
الزمن المعاصر لهرتزل، والرابع: الزمن التالي لتصريح بلفور) .
وتتسلسل القصة بعد ذلك بما هو معروف بعد وعد بلفور؛ حيث وجد اليهود
في هذا الوعد فرصة تاريخية حقيقية سنحت لهم للمرة الأولى منذ أكثر من ألفي عام
لكي يحققوا ما بشرهم به نبيهم الكذاب (تيودور هرتزل) !
لقد حقق اليهود خلال المئة عام المنصرمة كثيراً من أحلامهم التي كانت كما
يقول الشاعر: حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحت حقيقة لا خيالاً، ولكن هل خلت
مخيلاتهم من الأحلام المستقبلية الآن؟ ! وهل توقفت أطماعهم عند هذا الحد من
العلو فقالوا: كفى؟ ! . أبداً، فما تزال جعبتهم ملأى بالأطماع، وما تزال الأهداف
أمامهم ينتظر كل منها سهمه في تراخٍينا وخمولنا؛ والذي أريد قوله: إن الصراع
الذي استمر قرناً ولا يزال مستمراً؛ مرشح للاستمرار عهوداً وعقوداً أخرى؛ فماذا
يا ترى دبر اليهود لمئة عام أخرى قادمة..؟ ! وماذا يا ترى أعددنا نحن المسلمين
لمواجهتهم ولو لعشر أعوام قادمة؟
بقي أن أشير إلى أن البرنامج المفصل لإفساد العالم على يد اليهود، والذي
اشتهر باسم: (بروتوكولات حكماء صهيون) كان قد بدأ في وضعه منذ المؤتمر
الأول لفيف من عتاة زعماء اليهود، يمثلون خمسين جمعية يهودية، ولم يكونوا
يخططون فقط للسيطرة على فلسطين، بل كانوا يخططون للسيطرة على العالم
منطلقين منها، ومن (أورشليم) لتثبيت عرش الحكومة العالمية برئاسة ملك من نسل
داود ومن هناك وعبر وسائل ووسائط سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية، يستغل
اليهود فيها جهود غير اليهود ويوظفونها لمصلحتهم هم، جاء في البروتوكول الثالث: (وحينما يأتي أوان تتويج حاكمنا العالمي سنتمسك بهذه الوسائل نفسها، أي نستغل
الغوغاء كيما نحطم كل شيء قد يثبت أنه عقبة في طريقنا) .
وجاء فيه: (إن المحفل الماسوني المنتشر في كل أنحاء العالم ليعمل في غفلة
كقناع لأغراضنا، ولكن الفائدة التي نحن دائبون على تحقيقها من هذه القوة في
خطة عملنا في مركز قيادتنا ما تزال على الدوام غير معروفة للعالم كثيراً) .
وجاء في البروتوكول الخامس: (إننا نقرأ في شريعة الأنبياء أننا مختارون
من الله لنحكم الأرض، وقد منحنا الله العبقرية كي نكون قادرين على القيام بهذا
العمل. إن كان في معسكر أعدائنا عبقري فقد يحاربنا، ولكن القادم الجديد لن يكون
كفؤاً إلا لأيد عريقة كأيدينا ... إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة مقهورة لم
ير العالم مثيلاً لها من قبل، والوقت متأخر بالنسبة لعباقرتهم، وإن عجلات جهاز
الدولة كلها تحركها قوة، وهذه القوة في أيدينا، هي التي تسمى.. الذهب) ! .
إذن فالبروتوكولات تحدثنا عن صراع لم تنته أكثر فصوله..
أما نحن ... فإننا نكتفي بالشك والتشكيك في البروتوكولات ومن وضعوها
ومن نشروها.. ونغمض العين عمن نفذوها أو معظمها، ونظل نوغل في التغافل
والتهرب، حتى نفاجأ بأن دولة اليهود (الصغيرة) قد أعدت لكل عاصمة عربية ما
لا يقل عن عشر قنابل نووية.. وعندها علت الأصوات: نحن عاجزون، نحن
مضطرون. نحن مدفوعون إلى الاستسلام.. عفواً إلى السلام ... بل سلام
الشجعان!