متابعات
تعقيب على تعقيب
حول الحوار مع الشيخ القرضاوى
بقلم: طاهر العتباني
وردنا رد مطول من الأخ الفاضل الأستاذ طاهر العتباني يعقب فيه على
الدكتور محمد بن عبد الله الشباني في محاورته مع الشيخ د. يوسف القرضاوي
الذي تم نشرها في العدد (112) ، وحيث إن المساحة المتاحة في هذه الزاوية لا
تستوعب ما ذكره الأخ الكريم لطوله، فقد اضطررنا إلى اختصار الموضوع بذكر
أهم وقفاته، وهي ما نحسب الكاتب يقصده في تعقيبه، مع العلم أننا عرضنا الرد
كاملاً على الدكتور الشباني فأورد وجهة نظره في آخر المقال والتي لم تسلم من
الاختصار، راجين أن يكون في هذا الحوار ما يوضح الحقيقة التي هي رائد
الجميع، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح. والله من وراء القصد،،
-البيان-
لقد قرأت مقال (وقفات متأنية مع آراء فضيلة د. القرضاوي حول العلاقة مع
أهل الكتاب) الذي نشرته (البيان) في العدد (112) وتصورت أن صاحب المقال
وفقه الله قد قرأ كل ما كتبه الدكتور القرضاوي في موضوع التعقيب الذي كتبه، مما
قد أفرد له الدكتور القرضاوي بعض كتبه، ومما ورد في بحوثه المختلفة أو كتبه
الأخرى التي لا يتسع المقام لذكرها.
لكني وجدت الكاتب أخذ أقوال الشيخ من (من مجلة المجتمع الكويتية) ثم بنى
عليها مقاله وآراءه وانتقاداته.
من هنا جاء هذا التعقيب على ذلك التعقيب الذي توخيت فيه أمرين أسأل الله
تعالى أن يبلغني إياهما وهما:
1- رجاء حسن المثوبة بإحسان القصد والوجهة فيه لله تعالى.
2- أن ينفع الله به قارئه، بأن يصيب الحق أو يقاربه.
أما التعقيب فإنه يتضمن عدة وقفات هي:
الوقفة الأولى: أني أشكر لصاحب المقال حرصه على نفع المسلمين بما لديه
من علم وغيرة، كما ظهر من مقدمته، كذلك أحمد له أدبه الشديد في حديثه عن
الشيخ وجهوده المعروفة من خلال كتبه ومحاضراته ودروسه وخطبه وأبحاثه
وفتاواه وما شارك فيه من الندوات واللقاءات في كثير من أقطار المعمورة، فضلاً
عما ابتلي به عافاه الله من إيذاء واضطهاد بسبب الحق الذي جاهد في سبيله، فجمع
بذلك بين العلم والعمل، والجهاد والتضحية، نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله
أحداً.
ثاني هذه الوقفات: التنبيه على عدد من الملحوظات على الأخ الكاتب في نقده، ومنها:
[1] أن تقويم الآراء والرد عليها يجب أن يراعى فيه جميع أقوال المردود
عليه في موضوع الرد، ولا يكون الرد على عبارات عارضة في حديث مجمل في
مقام معين وظرفٍ محدد؛ وذلك الأصل المنهجي مبناه على عدة أمور:
1- أن الفتوى وهي ألصق وأقرب للدقة والضبط والإحكام وتحرير المسائل
وتنقيحها تراعي ظروف الزمان والمكان ومقتضى الحال والعرف، وهي قاعدة
مشهودة معروفة. فكيف بحديث الناس فيما يعرض لهم من محاورات وأحاديث
للصحف مما هو ليس على سبيل الفتوى.
2- أن في الكلام ما هو إجمال وما هو تفصيل، وهذا وارد حتى في كتاب
الله تعالى وفي سنة رسوله.
وكما أنه لا يصح النظر إلى نصٍ دون غيره من أقواله -صلى الله عليه
وسلم- في الاستدلال على حقيقة رسالته، وإنما يجب أخذ مجموع النصوص حتى
في استخراج حكم المسألة الواحدة، كذلك فلا يصح أن تلصق تهمة بعالم من علماء
المسلمين لعبارة وردت في حديث له وَهَمَ منها السامع معنى لم يدُر بخلد قائلها،
وهو أنه يحصر الإسلام في الجانب الأخلاقي فقط دون العقيدة والعبادة، وغير ذلك
من جوانب الرسالة الإسلامية عند الوقوف مثلاً أمام الحديث النبوي: (إنما بعثت
لأتمم مكارم الأخلاق) .
3- أن للكلام اعتباراتٍ ووجوهاً، فعلى الناظر في كلام أي أحد أن ينظر في
وجوهه المختلفة؛ فالجملة من كلام بعض العلماء قد تكون صحيحة من وجه من
الوجوه، فاسدة من وجه أو وجوه كذلك. وموقف الإمام علي رضي الله عنه والإمام
ابن عباس مع الخوارج عند وقوفهم عند قوله تعالى: [إن الحكم إلا لله] معروف
للجميع.
(ب) أنه لو اتُبع هذا المنهج في الرد على أقوال مبتورة مجملة مقطوعة عن
سياقها وظرفها، واعتبر منهجاً في الرد لما سلم لأحدٍ من علماء الأمة شيء مما قال
أو كتب.
(ج) أن كلام المسلم في عمومه يجب أن يحمل على المحمل الحسن إلا أن
تقوم القرينة القاطعة على فساده، فإذا كان الكلام لعالم جليل له خبرته بالعربية
وأصولها وبلاغتها وقواعدها من نحو وصرف، وبالأصول والقواعد والأدلة من
نصوص القرآن ونصوص السنة وجب عندئذ أن يحمل كلامه على أفضل وجوهه
وأحسن تأويلاته.
(د) أن انتقاد عبارة أو جملة أو عدة جمل لعالم استفاضت أبحاثه وتنوعت
وكثرت في جميع جوانب علوم الإسلام، وتلقاها عنه كثير من العلماء وطلبة العلم
بالقبول في مجموعها الأعم على مدار ما يقارب أربعين عاماً، والوقوف أمام هذه
العبارة دون غيرها مما يتصل بموضوعها وتقويم آرائه من خلالها منهج غير
صحيح. ولقد ذكر أهل العلم كابن تيمية في (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) المنهج
الصحيح تجاه أقوال العلماء مما يجب أن يحتذى.
الوقفة الثالثة: أن عالماً مشهوداً له بالعلم والعدالة والبلاء الحسن يجب النظر
إلى مجموع حسناته وجهاده قبل أن يُشنّع على آرائه التي يجتهد فيها فيصيب أو
يخطئ.
لا سيما وأن فضيلة الدكتور القرضاوي حفظه الله وأمد في عمره قد فهم
الإسلام بمعناه الشامل الذي يبدأ من العلم والاعتقاد والعبادات والشعائر حتى جوانب
التشريع في نواحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والثقاقية وغيرها،
وأسهم في التوعية بذلك للناس كافة.
وأنا لا أعني بكلامي هذا عدم الرد إذا ما لزم الأمر؛ لكن على أن يكون الرد
منهجياً مبنياً على القواعد والأصول التي تُتبع في الرد على العلماء ونقد أقوالهم مما
ألمحت إلى شيء منه.
الوقفة الرابعة: أن صاحب المقال جزاه الله خيراً أفاض في التعقيب على
ثلاث عبارات وردت في حديث الدكتور القرضاوي، ورتب عليها كلاماً كثيراً هو
صحيح من حيث معناه، ومن حيث الاستدلال عليه بآياتٍ وأحاديث؛ ولكنه في غير
موضعه مما اعتبره صاحب المقال رداً يوهم القارئ أن في كلام الدكتور ما يناقض
كلام صاحب المقال فيما ساق من حديث، والأمر غير ذلك!
وأحسب أن صاحب المقال لو تعامل مع هذه العبارات بموضوعية لاستخراج
وجوه الكلام الممكنة أولاً في كل عبارة، وحملها على المحمل الحسن ثانياً، ثم أيد
هذا الذي ذهب إليه بما عُرف من فهم الشيخ للإسلام فهماً صحيحاً مما يدل عليه ما
جاء في بقية كتبه وأبحاثه ودراساته وفتاواه، لو فعل ذلك لكان أصاب الحق
والصواب.
الوقفة الخامسة: أن آراء عالم كالدكتور القرضاوي في العلاقة مع أهل الكتاب
لا تؤخذ من مجرد تصريح أدلى به لمجلة أو جريدة هذا إذا صحت نسبته إليه فعلاً
وإلا فأحياناً تنسب الصحف للناس ما لم يقولوه، أو تنشره مشوهاً لتصرّفها فيه طلباً
للاختصار أو طلباً للتشويق والإثارة مما هو معروف في أعمال الصحف والمجلات؛ بل لعل بعضهم ينقل من كتابات العلماء وآرائهم من كتبهم ما يُنشر مشوهاً مبتوراً
عن سياقه.
ثم إن الدكتور القرضاوي لا يتساهل في مثل موضوع: (العلاقة بأهل الكتاب)
بل إنه ليحرص في هذا الباب على تحرير الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وينبه
حتى في الأمور المباحة بيننا وبينهم على ما يمكن أن يخرج بهذه الإباحة عن
مقصودها الذي شرعها لأجله الشارع الحكيم. كما وضح ذلك في كتابه: (غير
المسلمين في المجتمع الإسلامي) .
وفي ختام هذه الوقفات أود ألا أكون جانبت الصواب، وأسأل الله تعالى أن
يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
* * *
رد الكاتب الدكتور الشباني:
وبعد عرض أصل الموضوع على الكاتب د. محمد بن عبد الله الشباني كتب
وجهة نظره حول ما ورد في التعقيب على النحو التالي:
أود بادئ ذي بدء أن أشكر للأخ طاهر العتباني رده وتعقيبه على ما نشرته
حول ما نسب لفضيلة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله وأحسن الله له
قصده، وجعلنا وإياه ممن يسعى للحق ويهدي إليه.
لقد ترددت كثيراً في التعقيب على تعقيبه ولكن حيث أورد الأخ طاهر بعض
الأمور التي يجب التنبيه عليها لما لها من صلة بأصل المحاورة ولما ظنه من أن
محاورتي لفضيلة الدكتور القرضاوي، هو طعن في مكانة الشيخ القرضاوي، وما
أشار إليه من أن استفادتي من كتب القرضاوي مزعومة، ويعلم الله أنني لم أقصد
من ذلك إلا النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم في أمر له أهميته العقدية، ولم أقصد التقليل أو صرف الناس عن قراءة كتبه كما توهم الأخ العتباني عفا الله
عنا وعنه.
كما أن الأخ العتباني أشار في معرض تعقيبه إلى أنه كان ينبغي عليّ الاتصال
بفضيلته لمناقشته، ولقد قمت بالاتصال، ولكن من خلال الوسيلة التي تم نشر ما
نسب إليه فيها، فقد أرسلت نسخة من محاورتي التي قامت البيان بنشرها لمجلة
المجتمع لعل المجلة أن تقوم بدورها باستيضاح رأي الشيخ القرضاوي وتنشر وجهة
رأيه فيما نسب إليه، ولكن مع الأسف تجوهل الموضوع حتى كتابة هذا التعقيب؛
وللأسباب المشار إليها وحتى لا يلتبس الأمر على قارئ التعقيب فقد ارتأيت أن
أوضح وجهة نظري فيما أورده الأخ العتباني من وقفات على النحو التالي:
أولاً: ما أشير إليه من ضرورة مراعاة جمع أقوال المردود عليه في موضوع
الرد، فأود أن أهمس في أذن الأخ طاهر أنني لم أقصد دراسة كل ما كتبه فضيلة
الشيخ القرضاوي والرد على آرائه؛ فهذا لم يكن هدفي من محاورته؛ وإنما قصدت
من الرد على ما جاء في مجلة المجتمع في الموضوع من آراء تصب في الدعوة
الخطيرة التي يدعى لها في هذه الأيام وهي فكرة وحدة الأديان والتي تنبه لها سماحة
الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي المملكة السعودية أطال الله في عمره ونفع الله به فقد
أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة فضيلته فتوى في الموضوع
نشرت في أكثر من مجلة وصحيفة.
ثانياً: ما أشار إليه الأخ، وهو أمر خارج عن نطاق التعقيب، من ضرورة
عدم معارضة العلماء المشهورين الذين بلغوا مكانة عالية من العلم والمعرفة
والإحاطة بفروع العلم وأصوله، وضرورة البحث عن مخارج لأقوالهم في حالة
وقوع أخطاء، والبحث عن تبريرات لهم، وفي حال الرد عليهم ... إلخ. فلي على
ما ذكره ملاحظتان:
1- إن مما أصيبت به الأمة في هذا العصر تقديس من تحب والتغاضي عن
أخطائه، والبحث عن التبريرات لأقواله والتشنيع والتسفيه للمخالف حتى ولو كان
الحق معه؛ وهذا منهج نهى الله عنه حيث إنه يؤدي إلى الانحراف والضلال يقول
تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] [التوبة: 31] .
وقد وضح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معنى هذه الآية بحديث عدي بن
حاتم الطائي بأن المقصود بعبادتهم اتباعهم فيما يفتون به مما هو على غير هدى
مستقيم.
2- إنني لم أخالف المنهجية في الرد؛ حيث اعتمدت فيما أوردته من محاور
على كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكنت حذراً أن أجزم بأن
ما ينشر في الموضوع هو قوله، وكنت كلما نقلت كلاماً عنه أشرت إلى ذلك بعبارة: إن ذلك منسوب إليه؛ تحفظاً من أن يكون هناك تحريف في كلامه؛ وعلى أمل
أن يطلع فضيلته على محاورتي فيرد أو يوضح ما ينسب إليه من ذلك؛ أما عدم
الرد على عالم جليل مثل الدكتور القرضاوي فهو أمر غير مقبول؛ ولنا في سلفنا
الصالح أسوة؛ حيث يقول الإمام مالك: كلّ يؤخذ من كلامه ويُرد إلا صاحب هذه
الحجرة. ومع احترامي وتقديري لجهود الدكتور القرضاوي المعروفة التي أرجو الله
أن يثيبه عليها لكن ذلك لا يمنع من مناقشته وعدم قبول كل ما يقوله على علاته،
والبحث عن تبريرات لما يفتي به؛ فالحق أحق أن يتبع.
ثالثاً: ما أخذته على فضيلة الشيخ من قوله: ( ... إن رسالة الإسلام أخلاقية
بالدرجة الأولى) ورد الكاتب أن أمر مفهوم الأخلاق في الإسلام يختلف عن المفاهيم
الغربية، واستطراده يذكر ما كتب حول مفهوم الأخلاق في الإسلام؛ فأنا لا أختلف
معه حول ما أشار إليه وما أحال عليه؛ لكن أعارض جعل رسالة الإسلام أخلاقية
بالدرجة الأولى؛ فما هو مستند الشيخ من الكتاب والسنة؟ لأن رسالة الإسلام هي
بالدرجة الأولى عقدية بتعبيد الناس لله تعالى، وتحقيق كلمة التوحيد؛ ويا ليت
فضيلة الشيخ يوضح وجهة نظره فيما ذكرت.
رابعاً: لقد أشار الأخ العتباني عند محاولته تفسير ما ينسب إلى الدكتور
القرضاوي في مجلة المجتمع: (لا مانع في الإسلام من أن يقف أتباع الديانات
السماوية الذين يتبعون إبراهيم الخليل ... ) إلى أن الشيخ القرضاوي يقصد حسب
زعم الكاتب تحالف أهل الأديان السماوية الذين يؤمنون بوجود الله ربّاً وخالقاً،
وبالجزاء والحساب، وقد استرسل الأخ العتباني في بيان ذلك.
فإذا كان هذا هو قصد الدكتور القرضاوي كما فهمه الأخ العتباني، فالأمر في
غاية الخطورة؛ لأنه يخالف أصل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فمشركو
العرب لم ينكروا ربوبية الله والبعث والجزاء، لكن ذلك لم ينفعهم ف (التوحيد الذي
جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الألوهية له وحده بأن يُشهد أن لا إله إلا الله ولا
يُعبد إلا إياه، ولا يُتوكل إلا عليه، ولا يُوالى إلا له، ولا يُعادى إلا فيه، ولا يعمل
إلا لأجله ...
وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية ... فليس كل من أقر بأن الله
تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابداً له دونما سواه ... وعامة المشركين أقروا
بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أنداداً.) [1] ؛ فحاربهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم للإيمان، ولم يقبل توحيد
الربوبية منهم؛ فلا بد من تحقيق العبادة لله وحده بتوحيد الألوهية، وكذلك بتوحيد
الأسماء والصفات.
والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا إلى سواء السبيل.