المسلمون والعالم
النظام الجزائري.. والبحث عن الشرعية!
بقلم: د.يوسف الصغير
لقد حاول الجيش الجزائري منذ بداية الانقلاب العسكري وإلغائه نتائج
الانتخابات التي فازت بها جبهة الإنقاذ أن يبحث عن الشرعية، فمن مجلس انتقالي، إلى استيراد أحد رموز حرب التحرير (بوضياف) الذي لم يشارك في الحكم
وبالتالي لا يتحمل أوزاره، وقد قتلوه بعدئذٍ لما أحسوا أنه يريد أن يمارس السلطة
حقيقة، وفي نهاية المطاف جاؤوا (بزروال) الذي يبدو أنه يتصرف كأنه يسير على
حبل مشدود؛ فهو تارة يدعو إلى المصالحة ويُخرج شيخي جبهة الإنقاذ من السجن
إلى الإقامة الجبرية؛ ومن ناحية أخرى تزداد وتيرة العمليات العسكرية والأمنية،
وهو في الوقت نفسه يؤيد الحوار والاستئصال! وقد تطورت الأوضاع بحيث
أصبحت مسرحية البحث عن الشرعية لا تكفي لها الأختام المحلية المزورة، بل إن
هناك رغبة عالمية في إعطاء النظام العسكري الشرعية؛ لأنه الوحيد القادر على
مواجهة الإسلاميين وتأخير وصولهم إلى الحكم، فلم يعد يكفي مندوبو الجامعة
العربية الذين بدوا مندهشين من المهمة الجديدة وهي مراقبة تطبيق الديمقراطية في
الوطن العربي! حتى رأينا ويا للعجب مشاركة الغرب في إخراج المسرحية بصورة
مباشرة؛ فقد شارك في ذلك مندوبون من بريطانيا وأمريكا على حين اعتذرت فرنسا
عن المشاركة (لأن شهادتها مجروحة) .
وبالنظر في الانتخابات الأخيرة وما سبقها فإن هناك جملة ملحوظات منها ما
يأتي:
أولاً: لقد صِيغ نظام الانتخابات الجديد بحيث لا يكون لـ (المجلس الشعبي
الوطني) سلطة مؤثّرة، ولا يكون هناك إمكانية سيطرة أي طرف على الأغلبية؛
حتى ولو حصل أحد الأحزاب على أكثر الأصوات متقدماً بذلك على غيره من
الأحزاب؛ فإن رئيس الدولة يمكنه تكليف رئيسٍ للحكومة ولو من خارج الأحزاب،
إضافة إلى أن هناك مجلساً ثانياً أعلى وهو مجلس الأمة ثلثه مُعَيّن من قِبَلِ رئيس
الدولة، وثلثاه منتخب من خلال المجلس الشعبي والمجالس الولائية!
ثانياً: لقد نص النظام الجديد على أن (أحد عشر حزباً) فقط يحق لها دخول
الانتخابات وهي التي تتفق والشروط الجديدة التي من بينها ألا يكون الحزب قائماً
على مبدأ ديني أو لغة أو جهة؛ بمعنى أن تكون الأحزاب بدون هوية مميزة؛ ومن
المعروف أن المقصود: هو ألا يكون هناك أي حزب إسلامي صريح؛ فقد أُجبرت
الأحزاب على حذف ما يشير إلى الإسلام في اسمها، فمثلاً: (حركة النهضة
الإسلامية) أصبحت: (حركة النهضة) وحركة: (المجتمع الإسلامي حماس)
أصبحت: (حركة مجتمع السلم) .
ثالثاً: لقد قام النظام بتشجيع أو تدبير انشقاقات عديدة في جبهة التحرير
الوطني وجبهة القوى الاشتراكية في محاولة لفك ارتباطهما مع جبهة الإنقاذ. وقد
اضطر (حسين آيت أحمد) للاشتراك في الانتخابات الأخيرة من أجل المحافظة على
تماسك حزبه.
أما جبهة التحرير الوطني فقد كانت قطاعات منها بدايةً تشجع الانقلاب على
الأمين العام السابق عبد الحميد مهري الذي كان مصراً على مشاركة جبهة الإنقاذ في
أي حلٍ؛ مع الإيحاء للانقلابيين أن جبهة التحرير ستكون هي حزب الرئاسة.
رابعاً: لقد حرص النظام في هذه الانتخابات على دخول حزب جديد يمثل
النظام الذي كان قبل ذلك يعتمد على بعض الأحزاب القائمة مثل: حزب التجمع من
أجل الثقافة (الفرانكفوني البربري) و (حزب حماس الإسلامي) وذلك من أجل
إعطاء إحساس باستمرار التعددية الحزبية. أما الآن فقد كوّن النظام حزبه الخاص
(الوطني الديمقراطي) حتى إن محفوظ نحناح زعيم حركة مجتمع السلم أطلق عليه
اسم: (الطفل المدلل) تمييزاً له عن الأطفال غير المدللين!
خامساً: وهي أهم قضية: أن النظام ومع أنه روّض معظم الأحزاب
الموجودة وكوّن حزبه الخاص، فإنه لم يجرؤ على تكرار تجربة انتخابية فيها
احتمال الإخفاق والتفريط في السلطة؛ ولهذا فإنه لم يسمح لأكبر قوة شعبية في
البلاد بالمشاركة.
ولنتخيل أن كلينتون أصدر قراراً بحل الحزب الجمهوري المنافس للديمقراطي، وسمح بتشكيل عشرات الأحزاب الصغيرة التي ليس لها شعبية، ثم دخل
انتخابات تشرف على نتائجها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومندوبون عن أعرق
الدول الديمقراطية (بريطانيا) ليعلن بعدئذٍ فوز الحزب الديمقراطي فوزاً كاسحاً؛
فهل هذا يدل على شعبية حزبه المطلقة؟ بالطبع لا؛ بل ولا يُتوقع أن تشارك
المنظمات الشعبية والدولية السابقة بهذه المهزلة؛ فكيف يُحَلّ أكبر حزب منافس
وتكون هناك ديمقراطية؟ وكم كان (جون ميجور) قبل هزيمته يتمنى لو أن النظام
البريطاني يخوّله أن يصدر قراراً بحل حزب العمال قبل الانتخابات، ليخوض بعد
ذلك انتخابات نزيهة مع حزب الخضر!
ونحن هنا لا نقول فقط: لماذا يتم حظر جبهة الإنقاذ، وهل تكون هناك
انتخابات نزيهة إثر ذلك؟ بل نسجل هنا سقوط ما يسمى بالديمقراطية الغربية التي
ختمت بشرعية النسخة المعدلة من الديمقراطية أو النسخة المعدة للتصدير للدول
الإسلامية ألا وهي حكم (حزب النظام) مع عدد من الأحزاب الاسمية الصورية؛ مع
الحظر الرسمي لأي حزب إسلامي؛ وهذه الديمقراطية مطبقة بنجاح في عدد من
الدول الإسلامية! ! وهناك محاولة لإرساء قواعدها في الجزائر وتركيا.
نعم لقد أرسلت بريطانيا وأمريكا مندوبيها ليقولوا: إن الانتخابات نزيهة! ولم
يقع فيها تزوير واسع للأصوات ولم يتحقق ذلك الأمل ليتم دعم النظام الديمقراطي
الجديد والتواصل معه بكل حرية من أجل الوقوف ضد الإرهاب الإسلامي! !
سادساً: حيث إن الدعاية الانتخابية العادية غير كافية لدفع الناس للمشاركة،
فقد طبق في الجزائر أسلوب جديد مخترع؛ فقبل كل انتخابات سواءً لتعديل
الدستور أو الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية تطغى على وسائل الإعلام المحلية
أنباء مجازر رهيبة تقتل فيها النساء والأطفال والشيوخ، ويبالغ الإعلام المرئي في
نقل مشاهد الصور المشوهة وبقع الدماء على الأرض والجدران، وكيف قتل
الأبرياء بالسكاكين والمناشير، وأن المهاجمين كتبوا شعارات إسلامية على الجدران
بدماء الضحايا. وكان الخطاب المحلي الموجه وصداه الخارجي يصران على أن
الإسلاميين هم الذين يرتكبون كل هذه المجازر مع تكرر نفي جبهه الإنقاذ
لمسؤوليتها وإدانتها بل واتهامها النظام وميليشياته بارتكاب تلك الفظاعات، وذلك
في الوقت الذي بدأت تتكشف فيه بعض الحقائق، وهي كما يلي:
1- كثير من الضحايا هم من عوائل المجاهدين في جبهه الإنقاذ، وإشاعة
النظام أن المجازر تحدث نتيجه الحرب بين الإسلاميين أنفسهم! !
2- القرى والمناطق التي وقعت فيها أبشع عمليات الذبح هي التي ظلت
رافضة تسلم السلاح من الحكومة والمشاركة في ما يسمى بالمقاومة الشعبية أو الدفاع
الذاتي.
3- تتركز المجازر في البلدات والقرى التي تشكلت حول المزارع الضخمة
التي خلفها المستعمرون الفرنسيون في سهل (متيجه) الخصب وقد شاع أن جماعات
القتل تخدم خطة لإخلاء هذه المناطق من أجل إعادة توزيعها على المتنفذين الجدد.
4- لوحظ أن المجرمين كانوا ينفذون جرائمهم وهم في منتهى الاطمئنان مع
أن تسليحهم يقتصر غالباً على السكاكين والبلطات، وبعد خروجهم من القرى تأتي
قوات الأمن مع الوفود الإعلامية.
5- لقد تتابعت الانفجارات العنيفة في بدايه شهر رمضان المبارك الماضي في
أسواق ومقاهي العاصمة الجزائرية عن طريق سيارات مفخخة؛ وذلك في أيام
متتالية؛ وقد وجهت أصابع الاتهام إلى أطراف في النظام نظراً لكمية المتفجرات
الكبيرة التي لا يمكن للإسلاميين تدبيرها ونقلها داخل العاصمة التي تكثر فيها
الحواجز الأمنية بالإضافة إلى استهداف أماكن تعتبر معاقل للإسلاميين.
6- تواتر اختراق المخابرات الجزائرية لبعض الجماعات المسلحة إلى
مستويات قيادية عليا، وبالتالي توريطها في أعمال منافية للشرع ونسبتها للعموم؛
مع ملاحظة ضعف العلم الشرعي عند بعض هذه الجماعات وسيادة روح الانتقام من
تجاوزات النظام في حق أهاليهم.
7- يلاحظ في الوقت نفسه تغير نبرة الإعلام الغربي تجاه الأحداث؛ فمن
عبارة: (قام المتطرفون بـ ... ) إلى (حدثت مجزرة ... يعتقد أن الإسلاميين
المتطرفين قاموا بها) إلى (حدثت ... وتنسب هذه الأعمال عادةً إلى ... ) .
8- يحرص النظام بشدة على تعتيم أخبار الصراع العسكري مع الإسلاميين؛
حيث يمنع وجود المراسلين الأجانب، ويحظر على وسائل الإعلام المحلية نشر أي
أخبار إلا التي ترد من قِبَلِ وزارة الداخلية. وبعملية بسيطة فإنه إذا كان يقدر عدد
القتلى بين ستين ومائة ألف في خمس سنوات فإنه يعني حوالي خمسين قتيلاً يومياً.
نعم من أجل شرذمة من العسكريين الذين يسيطرون على كل شيء في الجزائر يقتل
يومياً خمسون فرداً لا يسمع عنهم أحد، بل ويطرح النظام في هذه المرحلة أسلوباً
استئصالياً جديداً؛ فبدلاً من الاستئصال الخاص للإسلاميين يطرح الآن وبدون حياء
أو وجل أسلوب الاستئصال العام للمناطق التي ينبت ويتوالد فيها التطرف (كما
زعموا) .
هل الانتخابات حل للأزمة القائمة؟
وأخيراً: هل تمثل هذه الانتخابات حلاً لمشكلة الجزائر؟ بالطبع: لا؛ وهذا
ما أجمع عليه المراقبون، ولكن في تصوري أن ما يجري سيجعل الصراع أكثر
تميزاً؛ فإذا كانت جبهة الإنقاذ تباطأت في المبادرة بالعمل العسكري مما ترك
الفرصة لنشوء جماعات كثيرة غير منضبطة؛ فإن اشتراك الجبهة أيضاً في (عقد
روما) كان يعطي غير الإسلاميين دوراً في حال سقوط النظام مع عدم مشاركتهم في
الصراع المسلح. إن على الجبهة وهي تقف الآن وحيدة في الجانب السياسي أن
تستغل بقوةٍ ميزةَ أنها تمثل الآن المعارضة السياسية الجادة الوحيدة بعد تدجين بقية
فصائل المعارضة، والتركيز على كسر شوكة النظام، وهذا لا يكون إلا بالعمل
الجاد على جمع شتات الجماعات المسلحة المنضبطة بضوابط الشرع؛ مع تحييد
ومحاصرة المجموعات المخترَقة من قِبَلِ النظام أو التي لا تسير على المنهج
الشرعي الصحيح.
إن إطلاق سراح الشيخ (عبد القادر حشاني) بعد محاكمة صورية ثم ما تبعه
من إطلاق زعيم (الإنقاذ) الشيخ الدكتور (عباسي مدني) مع ما صدر له من أوامر
بعدم التعامل مع وسائل الإعلام يدل ذلك كله على أن الجزائر مقبلة على مرحلة
جديدة تواجه فيها جبهةُ الإنقاذ الاختبارَ الأخير الذي يوجب عليها أن تكون فيه على
مستوى الأحداث، وأن يكون لها موقف موحد مبني على نظر ودراسة، وأن
يحذركل مسؤول فيها على ألاّ يكون له رأي فردي خاص يتخذه في مكان عام أو في
مقابلة صحفية ثم يكون بعدئذٍ مثاراً للجدل؛ بل يجب أن يكون هناك موقف
استراتيجي ثابت مبني على دراسة شرعية تأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات؛
فالنظام لم يتخل عن منهجه الاستئصالي، بل اتجه للجمع بين (الاستئصال الأمني)
و (الاستئصال السياسي) .
وسياسة النظام المستقبلية تعتمد على تقديره الخاص للوضع؛ فهو بين أمرين:
أحدهما: الإحساس بأنه وصل إلى نهاية النفق المسدود؛ فالقوة العسكرية لم
تنجح، والمناورة السياسية الجديدة ليست ذات قيمة واقعية؛ وبالتالي يجب الحوار
مع الجبهة والوصول معها إلى حل وسط يكون أحد أركان جبهة الإنقاذ جسر الحوار
فيه.
والثاني: الإحساس بالانتصار، وأن الجبهة لم تعد تشكل خطراً على النظام،
وأن النظام قادر على التعامل والتعايش مع مستوى المواجهة الحالية بحيث يضبط
الأمن في المدن الكبرى، ويحرص على حماية خطوط أنابيب النفط والغاز؛ أما
بقية البلد فيترك فيها الأمر للصراع بين ميليشيا النظام وجماعات الإسلاميين.
أخي القارئ الكريم: إن الصراع في الجزائر هو صراع شامل؛ وإذا كنا لا
نحس بنقص الإمكانات العسكرية للإسلاميين، فإننا نحس وبقوه بضعف الجانب
الإعلامي الواضح؛ فليس لهم صحف ناطقة باسمهم، بل وإذا كان ثمة متحدث
رسمي في الخارج فإنه ليس على اتصال سريع أو مستمر بالداخل؛ ولهذا فإن
البيان المنسوب لأي جماعة يوجب الانتظار فترة قبل القطع بنسبته إليها، وذلك من
خلال عدم صدور بيان نفي له؛ ولهذا تُدبّج المقالات أن فلاناً هو مفتي الجماعات
المسلحة، وأنه يفتي وأفتى، ثم تفاجأ بالصحيفة تنشر اعتذارها للشيخ وتعترف
بكذب المعلومات المنشورة، وأن السبب في هذا الخطأ أن المصدر لم يكن موثوقاً،
بل ويصبح أحد الأشخاص غير الجزائريين والبعيد عن الجزائر دليلاً على نسبة
المجازر للإسلاميين بتصريحات غوغائية لا ندري ما هو هدفه منها. يجب أن
يكون للإسلاميين قنوات فعالة لتبليغ مواقفها الرسمية، وأن لا يكون اسمها مباحاً
لكل غالٍ ومنافق؛ بل إن كثيراً من البيانات المنسوبة للإسلاميين تبين أنها مدسوسة
من قِبَلِ المخابرات الجزائرية!
نسأل الله أن يلطف بشعب الجزائر المسلم، وأن يرزقه الحكام الصالحين
الذين يعيدونه لمنهجه الإسلامي الأصيل؛ وما ذلك على الله بعزيز.