مجله البيان (صفحة 2549)

معالم إسلامية فى شعر محمود غنيم

دراسات أدبية

معالم إسلامية في شعر محمود غنيم

بقلم: د.. صابر عبد الدايم

إن الشاعر (محمود غنيم) يُعَدّ في الطليعة من أولئك الشعراء الكبار.. الذين

أخلصوا لفن الشعر.. وهو فن العربية الأول.. وهو ديوان العرب.. وسجل

أمجادهم، ومناط فخارهم ... ولقد كان الشاعر (محمود غنيم) رحمه الله وسيظل

(في طليعة من أنجبتهم مصر من شعراء العربية وأدبائها، فحولة وأصالة، وصدقاً

والتزاماً، فقد تميز شعره بغزارة الفكر، والثقافة الواسعة، والصياغة المحبوكة؛

لمعرفته بأصول اللغة العربية، وأسرارها، وحلاوة الإيقاع لحسه المرهف

وشاعريته الأصيلة) .

وتمثل الرؤية الإسلامية في شعر (محمود غنيم) تياراً رئيساً في مرحلته

الشعرية الخصبة الممتدة.. وآيةُ ذلك: أن ديوانه الأخير الذي أعدّه وَبوّبه، ثم طُبع

بعد وفاته، جعل عُنْوانَه: (مع الإسلام والعروبة) ، وكأنه يعلن أن الرؤية الإسلامية

من خلال التصور الإسلامي هو المنهج الذي ارتضاه سلوكاً.. وتعبيراً فنيّاً يقدم من

خلاله خطابه الأدبي للناس..، وهو على يقين أن الرؤية الإسلامية في الشعر

المعاصر لا تقتصر على الشعر الديني المباشر المتمثل في شعر المناجاة والتضرّع،

وشعر الوعظ..، وكذلك تستوحي هذه الرؤية جَوّ الحضارة الإسلامية في مواقفه

وشخوصه، وأماكنه وأزمنته، ولا تَرْوي هذه الرؤية الشعريةُ الإسلاميةُ في

صياغتها الفنية التاريخَ في صورة سردية تقريرية، بل تمتزج بروح ذلك التاريخ،

وتشكل منه واقعاً له شخصيته ونفاذه وتأثيره.

وحين نرْصد المظاهر الإسلامية في شعر الشاعر (محمود غنيم) ندرك أنه

يخصص جانباً من دواوينه، ويجعله تحت هذا المسمّى: (إسْلاميات) .. وأرى أن

هذا التخصيص يفرض حصاراً على رؤية الشاعر الإسلامية.. ويُقيِّدها؛ لأن

الشاعر، مهما تعددت أغراض الشعر لديه في دواوينه، فهي تدور حول محور

الإسلام، منه تنطلق، وإليه تعود.

وقد نشأ الشاعر في بيئة دينية محافظة، وبدأ تعلّمه في الأزهر، وفي مدرسة

القضاء الشرعي، وفي دار العلوم..

هذه البيئات كان لها أثرها العميق في توجه الشاعر، وفي اتساع آفاق الرؤية

الإسلامية وتأثيرها في شاعريته، وهو يصور هذه المعالم الرئيسة في تكوين

وجدانه، وصقل مواهبه.. فيقول منوِّهاً بقريته (مليج) وبالمعاهد العلمية التي تلقى

فيها العلم:

سلام عليها في (مليج) مثابةً ... حفِظت بها السبع القصار المثانيا

سلام على (دار القضاء) وأهلها ... وربْع من العرفان أصبح خاويا

لقد وأَدُوها منذ خمسين حجة ... وما زال قلبي غائر الجرح داميا

سلام على (دار العلوم) وعهدها ... وهيهات هذا العهد يرجع ثانيا

رياض غَرفْتُ العلم من غرفاتها ... وأوْدَعْتُ فيها بضعة من شبابيا

أروح إليها كل يوم وأغْتديي ... إلى العلم عطشاناً من العلم راويا

ورؤية (محمود غنيم) الشعرية الدائرة في فلك التصور الإسلامي يمكن أن

نحدد بعض معالمها في الظواهر الآتية:

أولاً: الرؤية الحضارية للمدّ الإسلامي:

وهذه الرؤية الحضارية للوجود الإسلامي في بعض تجاربه الشعرية يبثها من

وحْي زيارته للأراضي المقدسة حين قام بأداء فريضة الحج.. فهو يبث المكان

أشْجانه، ويشتاق إلى المشاعر المقدّسة، وفي الوقت ذاته: لا ينسى واقع المسلمين، فيدعوهم أن يكونوا على قلب رجل واحد، وأن يكونوا أمة واحدة كما أراد لهم الله

(عزّ وجل) . يقول (محمود غنيم) :

دَارَ النبوة ذَنبْي عنكِ أبعدني ... وحسن ظنِّي بربِّي مِنك أدْناني

ما غبْتِ عني وإن لم يمتلئْ بصري ... من أهلك الصِّيد أو من رَبْعِكِ الغاني

قد كنتُ ألقاكِ في لَوْحي وفي كُتُبي ... وفي سطور أحاديثي وقرآني

ما زلتِ رسْماً جميلاً في مخيّلتي ... حتى كأنّا التقينا منذُ أزمانِ

ثم يشيد الشاعر بفضل رسالة الإسلام التي انطلقت من مكة المكرمة ومن

المدينة المنورة.. ويصور ذلك متأثراً بمهنته في رحاب التربية والتعليم:

هنا بنى المصْلحُ الأميّ جامعةً ... على أساسين من عِلْم وعرْفانِ

ربّى العتيق أبا بكرٍ بها.. وأبا ... حفْصٍ، وربّى عليّاً، وابن عَفّانِ

طُلاّبُها في ربوع العالم انتشروا ... مبشرين بإصلاح وعُمْران

ساسوا الشعوب بأحكام الكتاب فما ... أحسّ شعب بجورٍ أو بطغيان [1]

وتمتزج هذه الرؤية الحضارية لدور الإسلام الفاعل والمؤثر في حركة الحياة

بمشاعر التضرع والمناجاة.. والاعتراف بفضل الله (عز وجل) ، ففي نهاية قصيدة: (في أرض النبوة) يتأثر الشاعر بمعاني القرآن الكريم ... في أسلوب مشرق

واضح.. ويناجي ربّه في تضرع وخشوع:

يا ربِّ قد عشْتُ في دنْياي مغترباً ... ويْلاَهُ إن أغتربْ في العالم الثاني

أستغفر الله من كفران نعمته ... بل فوق ما أستحقّ.. الله أعطاني

ألم يجدْني أخا غيٍّ فأرشدني ... وهائماً غيْر ذي ماًوى فآواني؟

ألم يجدْني أخا جهْل فعلّمني ... وعائلاً غيْر ذي وُجْد فأغْناني

لبيك ملء فمي.. لبيك ملء فمي ... يا رب يا رب من قلبي ووجْداني

ثانياً: الأحداث والمواقف الإسلامية:

وحينما نتأمل هذا المعْلَم من معالم رؤية الشاعر الإسلامية نجد أنه لم يُعْنَ

بتسجيل الأحداث التاريخية الإسلامية عناية كبيرة، حيث لم يسجِّل المناسبات

الإسلامية التي أَلِفَ الشعراء أن ينظموا في ظرْفها الزمني قصائدهم كلما حان موعد

المناسبة، وكأن الشاعر (محمود غنيم) يعلن بهذا المسْلك الفني أنّ التاريخ الإسلامي

ليس أحداثاً تُرْوى، ولا أطلالاً ننوح عليها، بل يتجاوز التاريخ هذه الأحداث إلى

التغلغل في صميم الحياة الإسلامية الناطقة بالوجه الحضاري للإسلام.

ولنتأمل تصويره الرائع في قصيدته (الركب المقدّس) وهو يتابع الهجرة

المباركة من مكة إلى المدينة المنوّرة.. ويَرْصد آثار ذلك الحدث الإسلامي الكبير..

حيث يتساءل في عزة وإيمان:

أيّ دين ذلك الدين الذي ... ... حوّل الأفْكار عن كُلِّ اتجاهْ

صَهَر الأنْفس حتى لم تَعُدْ ... تدرك الأنفس شيئاً ما عداهْ

كم أبٍ خاصم في الله ابنَه ... وأخ حارب في الله أخاهْ

باسمه أمسى يسوس الأرض مَنْ ... يحلب النوق ومن يَرْعى الشياهْ

ويجوب البحر من لم يَرَهُ ... غير طيف من خيالٍ في كراهْ

ناشراً من فوقه أعْلامه ... تفزع العقْبان منْها والبزاهْ

ثالثاً: التأملية في ظلال الرؤية الإسلامية:

إن التأمل في شعر (محمود غنيم) لا يمثل تياراً رئيساً، فشعره ينزع إلى

تجسيد العاطفة، وإذكاء المشاعر، ولا يقحم تجربته في شعاب الفكر.. بحيث تخبو

العاطفة.. ويعلو صوت الذهن، وإيقاع الفكر.. وشاعريته لم تبتعد كثيراً عن آفاق

التجربة التأملية، ولكن التأمل في شعر (محمود غنيم) ممتزج بالعواطف الحارّة،

والمشاعر الإنسانية الدافئة، ولا يلقيه التأمل بعيداً عن ظلال الرؤية الإسلامية.

وأهم جوانب التأمل النابع من رؤية الشاعر الإسلامية.. ما يلي:

أ - التأمل الشعري ورحلات الفضاء:

وللشاعر مطولات في هذا الاتجاه..، وهو يتأمل هذه الظاهرة العلمية،

ويحلِّق في آفاق الفضاء، ولكنه يظل مرتبطاً بالأرض، حريصاً على رخاء

البشرية، متمسكاً بحبل الله المتين.. يقول الشاعر بعد تأمل حدث الصعود إلى

القمر:

تعالى الله إن العلم نور ... سناهُ من سناهُ مستعارُ

أفوق الأرض يُضمن ليت شعري ... بهذا الكشف للعلم انتشارُ؟

ويُرْسى للسلام به أساس ... ويكتب للحضارة الازدهارُ؟

أمانٍ تلك إنْ هي أخطأتنا ... فلا نصرٌ هناك بل اندحارُ

ثم ينتهي الشاعر من تأملاته إلى الاحتماء بمظلة الإيمان، ودائرة التوحيد،

ولم تنته به التأملات إلى القلق أو الشك.. وإنما لأنه شاعر مسلم تنطلق تجاربه من

نبع إيمانه الفياض بالتسليم المطلق لخالق الكون.. نجده يقول:

سلوا الأفلاك إذ طرتم إليها ... أكان لها من الضحك انفجارُ؟

وقبلكمُ بنى هامانُ صرحاً ... فكاد النجم يدركه انهيارُ

أضعتم في الهواء كنوز مالٍ ... وملء الأرض بؤس وافتقار

ب - تأمّلُ الطبيعة وتوظيفها في تشكيل التجربة الشعرية:

والطبيعة في تجربة (محمود غنيم) الشعرية التأملية تظل عاملاً خارجيّاً وتصل

في بعض تجاربه إلى مرتبة (الاشتراك) مثل تجارب الرومانسيين.. ولا تتجاوز

الطبيعة هاتين المرتبتين إلى مرتبة الفناء الوجداني في مشاهد الطبيعة ومرائيها..

واتخاذها معادلاً موضوعيّاً أو بديلاً عن الذات.. شأن الرمزيين الذين تتحد ذواتهم

بكائنات الطبيعة ومشاهدها وظواهرها المتعددة.

وفي قصيدة (نيسان) يتجوّل الشاعر في عوالم الطبيعة؛ ويبدع في وصف

مغانيها ومجانيها، ويتأمل مرائيها ومراميها.. وهو يبدع أيما إبداع في هذا الجانب

الوصفي المحلِّق.. وفي نهاية القصيدة يرسم لوحة إيمانية تأملية مستمدة إيقاعها

العذب من أجواء الرؤية الإسلامية. ولنتأمل هذه النفثات الشعرية الإيمانية الصادقة!

تعالَوْا نبتكر عهداً جديداً ... عُمّ الخيرُ فيه واليسارُ

شهدت بأن لله اقتداراً ... وغير الله ليس له اقتدارُ

وأن الجهل للإنسان مَهْما ... يزدْ علماً ومعرفة شعارُ

وأن وراء هذا الكون ربّاً ... له في الكون أسْرارٌ كبارُ

والشاعر يعلن بهذه التأملات الإيمانية أن الكون في المنظور الإيماني مسرح

التأملات؛ والشاعر يعود من رحلة التأملات بزاد روحيّ عميق وزاد أدبي مؤثر

ناضج بخصائص التجربة الإسلامية، وهذه التأملات لا تقود الأديب المسلم إلى

الهروب والارتماء في أحضان الطبيعة، ولا تجعل من الطبيعة إلهاً يعبده الأدباء،

ولا تتخذ من الغاب فردوس الشاعر المفقود، ومهاجره الآمن، ومستقر أحلامه،

هرباً من عالم الناس ودنيا الواقع، بل تصبح هذه الطبيعة مرآة مجلُوّة يرى فيها

الأديب نفسه وأمانيه وأحلامه: من جبالها يستمد مفردات الشموخ والإباء، ومن

بحارها يستلهم مشاعر الحب والنقاء والصفاء، ويتلقى دروس السموّ والعطاء،

ومن تقلبات فصولها يرسم للنفس طريق رؤاها، فهي صورة من وهج الصيف،

ودفء الربيع، وجدب الخريف، وخصب الشتاء [2] .

وللشاعر (محمود غنيم) مع الطبيعة تجارب تأملية عديدة، فهو ابن الريف

الأصيل، وهو عاشق الريف، وشاعر الجمال الموهوب، وعاشقه، وللبحر صداقة

وألفة ووجود في عالم الشاعر الأثير.. ومن خلاله يستجلي معالم القدرة الإلهية ...

ويتأمّل بديع صنْعة الخالق، وجلال آثاره.

ولنصغ إلى هذه التأملات الشعرية الممزوجة بسوانح الفكر وعبق العلم:

إنه يخاطب البحر.. في لغة شعرية شفيفة، وحوارٍ مقنع جذاب، وصور

شعرية مبتكرة:

سبحان من صوّر الدنيا فأبدعها ... فقل لربِّك ربِّ العرش: سبحانُ

آيات ربّك تترى في الوجود فهل ... للمرء عين؟ وهل للمرء وِجْدانُ؟

كل البقاع محاريب له صنعت ... وكل ما تَسْمع الآذان قرآنُ

ثم يواصل الشاعر هذه التأملات الإيمانية في رحاب الطبيعة الكونية.

ومن عيون قصائده وتجاربه الشعرية: قصيدة (راهب الحقل) وهي مزيج من

التأملات الفكرية والروحية.. مع عاطفة رومانسية دافئة ونزعة واقعية إيجابية

تنزع إلى جماليات الكون، وإضفاء ظلال الرؤية الإسلامية المشعة ببريق الصفاء

والنقاء.

إن الشاعر (محمود غنيم) يصوِّر في براعة واقتدار (الفلاح) تصويراً تأمليّاً

إيجابيّاً بلغ فيه ذروة الفن الشعري، يقول في لغة رقيقة هامسة:

قالوا عليك: أجاجُ الماء، قلتُ لهم ... بل ماؤك العذْب سيال بكل فمِ

ألمْ يحوِّلْ شعاع الشمس ماءك مِنْ ... ملح أجاجٍ إلى عذْب من الدِّيمِ؟

لولاه ما هطلت وطفاءُ أو هدلت ... ورقاءُ أوْ قبّلَتْ كأس شفاه ظمي

لم ينتسب شجر إلا إليك أباً ... ولا انتمى زهَرٌ إلا إليك نُمِي

سَرَيْتَ في طبقات الأرض مُنْسرباً ... فكيْف أصبَحْتَ تيجاناً من القممِ؟

وكيف طرْتَ بلا ريش وأجنحة ... في حالق الجوِّ كالعقبان والرخمِ؟

وبعد:

فالشاعر الكبير.. ما يزال صوته الشعري يدوِّي في عالم الشعر والشعراء

بآثاره الشعرية العظيمة، وشاعريته الخصبة العميقة المحلقة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015