مجله البيان (صفحة 2513)

هموم ثقافية

إشكالية البلورة الثقافية للديمقراطية

بقلم: سامي محمد الدلال

مدخل:

تعرض الكاتب في حلقات سابقة إلى عرض رؤية إسلامية لإشكاليات مفهوم

الديمقراطية، ثم إلى تحليل إشكالية زاوية النظر للديمقراطية.. فتطرق إلى

المقصود بالديمقراطية ومبادئها وتطبيقاتها في المجالات الفردية والجماعية، ثم

عرض كيف تختلف النظرة إليها بحسب الناظرين سواء أكانوا حكاماً أم أحزاباً..

وتناول أيضاً اختلاف مفهومها بحسب اختلاف المكان والزمان..

ويواصل الكاتب في هذا المقال عرض أبعاد أخرى لهذا الموضوع المهم.

-البيان -

هل تنجح الديمقراطية في بلورة ثقافية ذات أبعاد محددة للمجتمع المحكوم بها؟ وما هي الآليات العملية التي تصيغ تلك البلورة؟ وإلى أي مدى كمّي وكيفي

تتغلغل تلك البلورة في المقوِّمات التي تشكل النسيج الثقافي لذلك المجتمع؟ وما أثر

كل ذلك على الموروث الحضاري الإسلامي وعلى بعثرة المعالم المؤصلة من الكتاب

والسنة في أذهان الإسلاميين النيابيين؟

هذه الأسئلة، وغيرها، تبرز إطار إشكالية البلورة الثقافية للديمقراطية.

وللإجابة على تلك الأسئلة لا بد أن نسبر أغوار التأثيرات الثقافية الناتجة عن

الحكم الديمقراطي، مع ملاحظة أننا نخص بالحديث البلاد الإسلامية، إلا ما أشير

إليه بخلاف ذلك. وابتداء نتساءل عن طبيعة الإفرازات الثقافية المنبثقة من

المجالس النيابية وعن أهدافها.

فأما عن طبيعة إفرازاتها فهي:

أ- إفراز ثقافي علماني:

وهذا أمر بدهي طالما أن ثقافة الأغلبية البرلمانية علمانية، أي منعتقة عن

الالتزام الديني، وقد يكون أصحاب هذه الثقافة العلمانية من المنتسبين للدين

الإسلامي أو من النصارى أو من اليهود أو من المرتدين أو من الكفار الأصليين.

إن هؤلاء وإن تنوعت مشاربهم الثقافية واختلفت تبعاً لذلك توجهاتهم المعرفية، فإن

إطاراً واحداً يضمّهم جميعاً، أو قل إن شئت: هناك صبغة واحدة تصبغهم جميعاً؛

ذلك الإطار وتلك الصبغة هي العلمانية، وبما أن كل إناء بما فيه ينضح، فإن

الإفراز الثقافي لهذه (التركيبة) سيكون علمانياً، قولاً واحداً! ! .

ذو توجه غربي:

إن الثقافة العلمانية، وإن تنوعت مغذياتها، إلا أن الثقافة العلمانية الغربية

تحتفظ بمراكز الثقل، وبشكل أكثر تحديداً أقول: إن النواب الديمقراطيين، وإن

كانت ثقافاتهم العلمانية المنتسبة لأدبيات انتماءاتهم الدينية أو المذهبية لها رصيد ما

في صياغة أفكارهم التصورية أو إنتاجاتهم الكتابية، إلا أنها لا تشغل إلا حيزاً

صغيراً من مجمل الثقافة العلمانية لديهم، في حين تحتل الثقافة العلمانية الغربية

الحيز الأوْفى، حيث إنها النتاج الطبيعي للمناهج التعليمية التي بلورت أفكار

وتوجهات أولئك النواب، كما أنها أيضاً نتاج الكم الهائل من دور الترجمة والنشر

المرئي والمسموع والمقروء التي تتبنى الضخ اليومي لمفردات وتراكيب الثقافة

الغربية العلمانية باللغة العربية واللغات الأجنبية من خلال مؤسسات كبرى

استطاعت باستخدام أحدث الوسائل التقنية الوصول إلى جميع الطبقات الشعبية على

مختلف أعمارهم ومهنهم وأجناسهم، وإن النواب المشار إليهم يمثلون طلائع ركب

تلك الثقافة العلمانية الغربية.

وأما أهدافها فهي:

1- خدمة النظام الحاكم:

لا أتكلم هنا عن المعارضة النيابية، فهي جزء لا يتجزأ من اللعبة الديمقراطية، ولذلك فهي دوماً أقلية، دورها لا يتجاوز المسحة التجميلية التي مهمتها تزيين

المهرجان النيابي، لتؤكد للجميع أن الذي أمامهم هو بالفعل كيان ديمقراطي! ! .

أما الأغلبية النيابية فهم لحمة النظام الحاكم وسداه، ويستمدون منه مكوثهم في

المجلس، بل المجلس النيابي كله يستمد وجوده أو عدمه، من رضا النظام الحاكم

أو سخطه! ! .

وبما أن الأنظمة الحاكمة، كلها أو معظمها، أنظمة علمانية، فإن الإفراز

الثقافي للمجلس النيابي ينبغي أن يكون منصبّاً في دعم ديمومة ذلك النظام وتأصيل

علمانيته! ! .

وهنا يأتي دور المجلس النيابي في سن القوانين التي تؤكد استمرارية ذلك

الاتجاه وتوطّد أطره، وذلك من خلال إتاحة الفرصة المغطاة قانونياً للجمعيات

الثقافية، والأقلام الصحفية والمؤلفات الأدبية والمؤسسات الإعلامية لممارسة جميع

التعابير العلمانية التي تسبِّح بحمد النظام العلماني الحاكم وتدعم مشروعيته.

2- صياغة مجتمع علماني غربي المنهج:

لا يستطيع النواب العلمانيون الاحتفاظ بكراسيهم النيابية إلا إذا نجحوا في

إضفاء الصبغة الثقافية العلمانية الغربية على المجتمع الإسلامي.

إن واحداً من التحديات المهمة التي يواجهها النواب العلمانيون هو قدرتهم على

مواصلة التقدم في ذلك الاتجاه، وهم يعتبرون أنفسهم في سباق مع الزمن، خشية

أن يسبقهم الإسلاميون إلى المواقع المفصلية التي تشكل قواعد الانطلاق في التغيير

الثقافي.

إن تطعيم المجالس النيابية بعدد ضئيل من الإسلاميين يساعد كثيراً في تحقيق

تلك البغية، حيث يتخذ العلمانيون من وجود أولئك النواب في المجلس دريئة

يمررون عبرها مشاريعهم الثقافية العلمانية، وعندما يحتدم النقاش يقول النواب

العلمانيون: لماذا تعارضون أيها الإسلاميون توجهات الشعب الثقافية؟ ! لو كان

الشعب يؤيد توجهاتكم لكنتم أنتم الأكثرية النيابية، أما وإن الشعب قد قال كلمته

وانتخبنا نوابه، فعلينا أن نعبر عن إرادته الثقافية العلمانية! وليس الواقع كما قالوا، إنما هي حجة يتذرعون بها لتمرير القوانين التي يُبث من خلال تطبيقها الفكر

الثقافي العلماني على أوسع نطاق.

إن النواب العلمانيين يحرصون كل الحرص على استغلال سني وجودهم في

المجلس للوصول إلى تلك النتيجة، حيث إن نجاحهم في ذلك يضمن لهم أو

لأعوانهم من العلمانيين استمرار السيطرة على المجلس النيابي، مصدر سن

القوانين ومنبر الرقابة على التنفيذ.

إن الوصول إلى تحقيق تلك الأهداف التي يراد تعميم نتائجها من خلال طبيعة

الإفرازات الثقافية المنبثقة عن المجالس النيابية يتطلب حل إشكاليات الصدام بين

المنبثق عن المجالس النيابية والمنبثق عن مختلف المنابع الثقافية للأديان والطوائف

والأعراق والفئات السياسية المتنوعة، وذلك في المجالات الثقافية التالية:

- الثقافة الدينية (وهي ثقافة علمانية فيما يخص المجالس النيابية) .

- الثقافة السياسية.

- الثقافة الفكرية.

- الثقافة الاقتصادية.

- الثقافة العامة.

- الثقافة الاجتماعية والترفيهية.

- الثقافة التخصصية (كالإعلام والمحاماة والهندسة والطب والتدريس

وغيرها) .

إن الناتج المتوقع من المجالس النيابية هو سعيها الحثيث لصياغة جميع أنواع

الثقافة المذكورة صياغة علمانية، ولأجل ذلك: فإنها توفر كافة الإمكانات القانونية

والتمويلية للوصول إلى تلك البغية، مع ما يتطلبه ذلك من افتتاح مؤسسات ونوادٍ

وشركات ومنتديات وملتقيات ودور نشر ومطابع، وإعداد دورات تدريبية لتخريج

(كوادر) وظيفية متخصصة توكل إليها مهمات تحقيق تلك الأهداف في البلورة

الثقافية الديمقراطية العلمانية.

فما هو التجهيز والإعداد لدى الإسلاميين لمقابلة هذه البلورة الثقافية

الديمقراطية؟ ! ! .

إن الحكم بالديمقراطية يوفر إمكانات النجاح للخط الثقافي العلماني من خلال

قنوات كثيرة، منها:

- مناهج التربية.

- مناهج الإعلام.

- مناهج الترفيه.

- امتلاك وسائل النشر.

- التغطية المالية المقتدرة.

- الدعم البشري التخصصي على المستويين المحلي والدولي.

علماً أن مشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية لا تستطيع توفير السيطرة

على أي قناة من القنوات المذكورة؛ لأنهم أقلية في المعتاد، وإذا حصلوا على

الأغلبية تحركت جحافل الملأ فصادرت الديمقراطية (كالجزائر مثلاً) .

وعلى العموم، فإن الامتداد الثقافي الإسلامي عمقاً ومساحة يحمل في طياته

حالياً كثيراً من عوامل الوهن، منها:

- عدم امتلاكه قرار وضع المناهج التربوية في المحافل التعليمية (المدارس

والجامعات والدراسات العليا) ، ولذلك فهو يمارس توجيهاً تربوياً محدوداً لا يتجاوز

غالباً مجموع الأفراد المنتسبين إليه، وحتى هذا التوجيه فيه خلل ودخن.

- افتقاره للإمكانات والمنابر الإعلامية مما يؤدي إلى محدودية صدعه الثقافي.

- عدم جديته في استغلال المساحات المتاحة لتوفير مناهج ترفيهية ذات

مضمون وتوجيه إسلامي ثقافي.

- تعثره في استغلال وسائل النشر الثقافي؛ وذلك لأسباب ذاتية وأخرى

خارجية من أهمها مقص الرقيب الإعلامي الحكومي.

- ضعف الموارد المالية المخصصة للبث الثقافي الإسلامي.

- قلة أعداد الفريق البشري التخصصي في المجالات الثقافية المختلفة،

إضافة إلى تواضع الخبرات وضعف استغلال التقنيات الثقافية المتطورة.

وبناء على ما تقدم، فإن محصلة الصراع هي في صالح بلورة ثقافية علمانية

في ظل الأنظمة الديمقراطية الحالية؛ ذلك أننا إذا اعتبرنا أن طرفي الصراع هما

الإسلاميون والعلمانيون فإن الإمكانات المتاحة للعلمانيين هي أعظم وأكبر بكثير من

نظيراتها المتاحة للإسلاميين، فلا يوجد أدنى تكافؤ في المسألة حيث إن النظام

العلماني الحاكم يضع جميع إمكاناته الهائلة في خدمة الخط العلماني، بما يعطي

العلمانيين قوة برلمانية حتى وإن لم يشكلوا الأغلبية، فكيف لو كانوا هم الأغلبية؟

إن مشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية يضفي مزيداً من المشروعية الرسمية

والشعبية على المشروع الثقافي العلماني؛ ذلك لأنهم طرف محسوب على بلورة

صياغاته النهائية، علماً أنهم لم يشاركوا في تلك الصياغات العلمانية الثقافية (هذا

إذا أحسنا الظن في الموضوع، وإلا فإن الواقع المشاهد لكثير من الإسلاميين

النيابيين يؤكد وُلُوجَهم في ألوان إيجابية مدعمة للمشروع الثقافي العلماني! !) .

إن الساحة الثقافية في البلاد الإسلامية الديمقراطية وإن شهدت وتشهد صراعاً

غير متكافئ بين الثقافتين الإسلامية والعلمانية، إلا أنها تشهد صراعاً حقيقياً متكافئاً

بين المشاريع الثقافية العلمانية بعضها إزاء بعض مما تساعد حرارته على إضفاء

جوّ من الدفء على البرود الثقافي السائد، ذلك الدفء الذي تتسرب نفحاته العلمانية

إلى أذهان وعقول المثقفين أو رائدي الثقافة بما ينتج عنه بلورة ثقافية ديمقراطية

على المستوى المجتمعي بكافة شرائحه ومختلف فئاته وتنوع طبقاته.

إن ذلك سيؤدي إلى مزيد من ترسيخ وتجذير المفاهيم الديمقراطية على كافة

المستويات الثقافية السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والتخصصية، خلافاً

لما قرره المفكر الغربي المشهور (نعوم شومسكي) في كتابه (إعاقة الديمقراطية)

بقوله: (إن مفهوم الديمقراطية في الثقافة السياسية السائدة، إنما هو مفهوم يتلاشى

حتى بصفته مثلاً أعلى مجرداً) [1] .

إن الذي ذكره (شومسكي) ربما استقاه من الواقع الغربي رغم أننا لا نسلِّم له

بمقولته تلك بالنسبة للغرب ولكن بالنسبة للمثقفين في البلاد الإسلامية من العلمانيين

وكثير من الإسلاميين تعتبر الديمقراطية في الثقافة السياسية مثلاً أعلى! ! وكل ذلك

على حساب الإسلام وثقافته المؤصلة بالكتاب والسنة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015