البيان الأدبي.. دراسات أدبية
الإبداع في الشعر العربي
بقلم: إبراهيم نهار العنزي
الشعر ملكة يمتلكها الشعراء، وموهبة يتميز بها ذوو الشعور المرهف
والأحاسيس الجامحة والعواطف الجياشة، فهم يعبرون بشعرهم عما يحسون به إزاء
ما يواجهونه في حياتهم من حزن وفرح، وغضب ورضا، وحب وكره، والشعر
صعب كما قال الحطيئة:
الشعر صعبٌ وطويلٌ سُلّمهْ ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهْ
زلّت به إلى الحضيض قدمهْ ...
فإذا كان قول الشعر ونظمه صعباً؛ فإن الإبداع في الشعر أصعب، بل في
غاية الصعوبة. وقد تفنن الشعراء منذ القدم في كيفية الإبداع في الشعر حتى
عصرنا الحديث، وتنافس الشعراء في هذا الإبداع، فيلقي كل شاعر ما في جعبته
من نتاج شعري حتى تولد لنا عبر التاريخ هذا الموروث من الدواوين الشعرية عبر
العصور التي مرت بها الأمة الإسلامية والعربية والتي حفظت لنا التراث الأدبي
الجم لعدد كبير من الشعراء المشهورين والمبدعين. والإبداع في الشعر لا يكون إلاّ
إذا توفرت ظروفه، وتهيأت أسبابه، ووجدت عوامله، ومن أهم هذه العوامل:
أولاً: الموهبة الشعرية التي قد تكون كامنة في الشاعر ذاته ولا تخرج إلى
النور إلا بمحاولاته الشعرية التي تكشف الستار عن هذه الملكة الفطرية.
ثانياً: العزيمة والرغبة الصادقة في الإبداع الشعري، ولا يكونان إلا إذا توفر
الإنتاج الجيد الذي يحاول الارتقاء بالشعر إلى آفاقٍ أرحب وأوسع.
ولا بد أن يتوفر لدى الشاعر مجموعة كبيرة من الأفكار التي تفرزها مخيلته،
وتكون هذه الأفكار غير مطروقة من قبل، عند ذلك يكون الشاعر قد وصل إلى
محطة من محطات الإبداع الشعري.
ثالثاً: ثقافة الشاعر، وثروته العلمية، واطلاعه على مختلف العلوم، والأخذ
من كل علم بطرف؛ لأن ثقافة الشاعر تنعكس في إنتاجه الشعري، وقد يدرج كثيراً
من معلوماته التي اكتسبها في أبياته الشعرية.
رابعاً: معرفة الشاعر وإحاطته بالنحو العربي والمسائل النحوية؛ لأن فهمه
للنحو ينعكس في إنتاجه الشعري، ولهذا يجب أن يكون ما يكتبه من شعر مطابقاً
لكلام العرب وللغتهم الفصيحة في عصور الاحتجاج. وقد قعّد علماء اللغة الأوائل
اللغة العربية لتيسير فهمها على دارسيها لِمَا طرأ على اللغة الأم من تغيير بعد
عصور الاحتجاج للأسباب والظروف التي مرت بها الأمة العربية والإسلامية في
تاريخها المجيد، فعلى الشاعر أن يولي النحو بالغ اهتمامه، ولا يتأفف من طلب
مسائله وكثرتها، ولا يكون حاله كقول القائل:
أفٍّ من النحو وأصحابه ... قد صار من أصحابه نفطويهْ
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصيّر الباقي صراخاً عليهْ
خامساً: إلمام الشاعر باللغة والمفردات والاشتقاق وذلك من خلال اطلاعه
على كتب الصرف والمعاجم اللغوية ومعرفة دلالات المفردات ومعانيها واشتقاقاتها،
واطلاعه يكون على قدر ما تسعفه نفسه.
سادساً: معرفة الشاعر بالتراكيب البلاغية والصور البيانية، وذلك من خلال
قراءة النصوص البيانية التي تحتوي على مثل هذه التراكيب البلاغية، التي تشتمل
على أنواع البديع من طباق وجناس وتورية ورد أعجازٍ على صدورها والتشبيه
والاستعارة والالتفات وغيرها من أنواع البديع. وأعظم نصٍ ينبغي على الشاعر أن
يطلع عليه هو القرآن الكريم؛ لأنه المصدر الخالد والمعين الذي لا ينضب
والمعجزة البيانية الكبرى التي تحدّت أولي البيان وأرباب الفصاحة واللسان؛ فهو
أعظم مصدر نهل من معينه الصافي معظم الشعراء المبدعين بدايةً من صدر الإسلام
وحتى عصرنا هذا، فعلى سبيل المثال، لا الحصر: تأمّل هذه الآيات وما تحويه
من تشبيهٍ بلاغيٍّ راقٍ، قال (تعالى) : [كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ] [المدثر: 50] ،
وأيضاً في قوله (تعالى) : [يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ] [القارعة: 4] ،
وأيضاً في قوله (تعالى) : [وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغَضَبُ] [الأعراف: 154] .
والصور البيانية والبلاغية في القرآن الكريم كثيرة جداً.
وكذلك ينبغي على الشاعر الاطلاع على الأحاديث النبوية الشريفة التي تمثل
قمّة البلاغة البشرية؛ لأنها كلام المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى وهو أفصح
العرب وقد أوتي جوامع الكلم، فيتأمل الشاعر ما تحويه هذه الأحاديث من صور
بيانية وبلاغية.
وكذلك الاطلاع على النصوص الأدبية التي كتبها الأدباء المتميزون في تراثنا
الأدبي، والاطلاع على كتب البلاغة وما فيها من تفاصيل لعناصر البلاغة التي
تثري ملكة الشعر عند الشاعر، وتعزز من جمال التذوق الشعري لديه. ولعل
اطلاعه على شعر شعراء الصنعة والبديع الذين اشتهروا في العصر العباسي يثري
هذا الجانب لدى الشاعر، فمن الشعراء المتميزين في البديع: (أبو تمام) ،
و (البحتري) ، و (ابن الرومي) على سبيل المثال.
ومعظم الشعراء يستخدم البديع ليدل على قدرته في التلاعب بالألفاظ والمعاني
وصياغتها كيفما يشاء، مثل قول أبي تمام:
فغرّبتُ حتى لم أجد ذكر مشرقٍ ... وشرّقتُ حتى قد نسيت المغاربا
أو كما قال أبو الطيب:
لنا ملكٌ لا يطعم النوم ... همّه مماتٌ لحيٍّ أو حياةٌ لميتِ
سابعاً: الاطلاع على الموروث الشعري للشعراء السابقين والاستفادة من هذا
الموروث في سبيل الارتقاء بالذوق الشعري والإحساس بجمال ما ابتكره الآخرون
من صور شعرية تندرج في ثنايا قصائدهم مما يعزز الملكة الشعرية لدى الشاعر
المطلع، وينمي معرفته بشعر مَنْ قَبْلَهُ محاولاً بذلك التقليد والمحاكاة.
ثامناً: التقليد والمحاكاة وهذه هي النقلة التي تؤدي إلى الإبداع فيما بعد، وهي
من أهم العوامل التي تصل بالشاعر إلى الإبداع والارتقاء الشعري.
فعندما يقلد الشاعر شاعراً مبدعاً من الشعراء السابقين عن طريق معارضته
لقصيدةٍ مشهورة من قصائد ذلك الشاعر السابق محاولاً من خلال هذه المعارضة
التقليد بالمحاذاة والمحاكاة للارتقاء بهذا العمل الشعري الجديد، سواء وصل هذا
العمل إلى مستوى تلك القصيدة المقلّدة (الأصل) أم لم يصل، فإنه يعتبر معزِّراً
ومثرياً لشاعرية الشاعر (المعارض) ودافعاً له نحو الإبداع.
تاسعاً: أهمية الاطلاع على جيد الشعر: قديمه وحديثه، والاستمرار على
ذلك حتى تستقيم الملكة الشعرية بالاطلاع على روائع أولئك الشعراء.
فإن تهيأت تلك الظروف بهذه العوامل فعند ذلك ينشأ الإبداع في الشعر من
خلال ما ينتجه الشاعر، وما عليه سوى اختيار الموضوعات الجديدة التي لم تطرق
بأسلوب جديد وبفكرة مبتكرة حتى تنفذ في أفئدة القارئين والمستمعين، ويحظى
قائلها عندئذٍ بتقدير الجميع.