مجله البيان (صفحة 25)

مفهوم السببية عند أهل السنة

طارق عبد الحليم

تعتمد الأمم الناهضة في بناء ذاتها، وشحذ قوتها، على ركيزتين أساسيتين

أولهما: صحة المفاهيم التي تبنى عليها تلك النهضة، والثانية: إخلاص ومصداقية

الفئة التي تحمل عبء النهوض بالأمة والسير بها في طريق الرقي والتقدم المادي

والسلوكي جميعاً.

وعلى أساس من صحة المفهوم، ووضوح الفكرة، تصح الوجهة وتتضح

معالم الطريق، وتكون الأمة على بينة من غايتها وأهدافها بلا زيغ ولا انحراف كما

أن زاد الإيمان والإخلاص لدى الرجال القائمين على النهضة يُعدّ الوقود الدافع

للحركة والاندفاع بها نحو الهدف، واجتياز العتبات والمحن التي تعرقل تلك

المسيرة.

وحين نسبر الواقع الإسلامي المعاصر بهذين المقياسين الموضوعيين نشعر -

برغم تباشير النهضة الإسلامية اللائحة في الأفق بفضل الله تعالى ومنّه - بألم

يعتصر الفؤاد اعتصاراً، لما نجده من اضطراب في المفاهيم، واختلاط في الفكر،

وتشتت في الجهد وتفرق عن الصف، ثم انهزامية منكرة في بعض النفوس، يقابلها

حماس متهور غير مدروس لدى البعض الآخر

أسباب عديدة أدت بالواقع الإسلامي إلى ما آل إليه من حال، منها ما يتعلق

بصحة المفهوم، ومنها ما يتعلق بعزائم الرجال.

ولسنا بصدد الحديث - في هذا المقال - عن الأمر الثاني المتعلق بالرجال،

فإنه أمر وعر المسالك، خفيّ الدروب، متعدد الشعاب، له ظاهر يفضح مكنون

الباطن، وله باطن يشرح جليّ الظاهر، وإن كانت لنا إليه رجعة في موضع

مستقل نطل فيه إطلالة قصيرة على ظواهر الأقوال، وواقع الأفعال، ودلالات

الأمرين على العزائم. وإنما سيقتصر بحثنا على بعض المفاهيم التي أصابها الخلط

والاضطراب في الفكر الإسلامي، وانعكاس ذلك انعكاسا مباشراً على الواقع

الإسلامي عموماً، وعلى مسار النهضة الإسلامية المرتقبة خصوصا، جاهدين في

تصحيح تلك المفاهيم، وتوجيهها الوجهة الصحيحة التي تعين على بلوغ الهدف

وإدراك الغاية بعون الله تعالى.

ومن تلك المفاهيم - بل من أهمها وألصقها بالواقع الإسلامي على الإطلاق -

مفهوم السببية - أو العليِّة كما يطلق عليه باحثو الأصول - الذي ينتظم بشموله

السنن الطبيعية والاجتماعية للحياة والأحياء على السواء، والذي يبحث -بكلمات

موجزات - في ترتيب النتائج على أسبابها، وارتباط العلة بمعلولها، سواء في

مجال المادة الجامدة وحركاتها، أو أفعال الأحياء وتصرفاتهم، كما يتناول - بشكل

أساسي - فكرة التلازم بين العلة والمعلول عند اكتمال الأسباب، وعوامل تخلف

النتيجة في حالات معينة وما يتعلق بتصور مفهوم خصائص المادة وطبائعها، وقيام

الإرادة الإنسانية واستقلالها ومدى تدخلها في ترتب النتائج على الأسباب التي أدت

إليها. وقد اعتمد مفهوم السببية على عدد من القضايا والأفكار التي تعتبر روافد

لتطور ذلك المفهوم، كمسألة خلق الأفعال، ومفهوم القضاء والقدر، ومجال الإرادة

الإنسانية، وقضية التحسين والتقبيح كما أن ذلك المفهوم قد ارتبط بأمر يعتبر غاية

في الأهمية في فهم العقيدة ذاتها من جهة، وفى منهج استقاء الأحكام الشرعية من

النصوص من جهة أخرى، ألا وهو مبدأ تعليل الأحكام الإلهية، أو - بعبارة أخرى- وجود الحكمة في أفعال الله وأحكامه، وأنه سبحانه لا يفعل إلا لحكمة بالغة

يقتضيها علمه وعدله وحكمته، مما يضطرنا إلى أن نمسّ تلك القضايا مسّاً رقيقاً

موجزاً، متحاشين الدخول في التفصيلات والتفريعات التي كادت - بسبب علم

الكلام - أن لا تنتهي.

ولسنا في هذا المقال بمؤرخين لفترة معينة من الزمان، أو لفرقة محددة من

الفرق، إنما ستجدنا -كما هو الأنسب لغرضنا - قاصّين آثار الفكرة منذ نشأتها

وتطورها عبر مساحة من الزمان تمتد منذ نهاية القرن الأول الهجري، وحتى نهاية

القرن الرابع الهجري، من خلال آراء الفرق التي أطلت برأسها بعد انشعاب الآراء، وتفرق الأهواء، كالجبرية، والقدرية المعتزلة، ثم الصوفية التي حازت قصب

السبق في إهدار قيمة اتخاذ الأسباب تذرعاً بالتوكل، ومذاهب الأشاعرة الذين قابلوا

غلو المعتزلة بغلو مقابل في نفي العلة والسبب، ثم توسط أهل السنة في ذلك الأمر

كله.

القدرية وخلق الأفعال:

في بداية الربع الأخير من القرن الأول الهجري كان (معبد الجهنيّ) [1] يتنقل

بين العراق والحجاز مروّجاً لبدعته - التي كان أول من أحدثها في الإسلام - وهى

نفيه للقدر، وإنكاره للقضاء الإلهي بزعم أن الله سبحانه لا يقدّر على الناس ما

ينهاهم عنه، ولا يقضي عليهم بما يحاسبهم عليه. وعن معبدٍ هذا أخذ (غيلان

الدمشقي) [2] وراح ينشر تلك الآراء التي ذهب ضحيتها حين قتله هشام بن عبد

الملك عليها بدمشق.

وعن هذين انتقلت بدعة القول بنفي القدر إلى المعتزلة وظهرت كأصل من

أصولهم الخمسة [3] منذ زمن (واصل ابن عطاء) [4] (وعمرو بن عبيد) [5]

وحتى (القاضي عبد الجبار) [6] المعدود في الطبقة الحادية عشرة منهم - وقد

أطلقت المعتزلة على أصلهم ذاك (العدل) واتفقوا على أن: (العبد قادر خالق لأفعاله، خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثوابا أو عقاباً في الدار الآخرة، والرب

تعالى منزه عن أن يضاف إليه شر أو ظلم، وفعل هو كفر ومعصية، لأنه لو خلق

الظلم كان ظالماً ولو خلق العدل كان عادلاً) [7] .

وقد تطور ذلك القول بعدم خلق الله سبحانه لأفعال العباد، وأنها لا تدخل تحت

المشيئة الإلهية، بل هي بمحض الإرادة والاختيار الإنساني، ومن خلق العبد نفسه، إلى القول بعدم قدرة الله تعالى على خلق الشر، أو الأفعال الموصوفة بالمعصية

والكفر من العباد كما ذهب إليه (النظام المعتزلي) [8] وفي مقابل تلك الآراء التي

بلغت الغاية في إنكار عموم المشيمة الإلهية، وقدرة الله سبحانه وخلقه لكافة

الموجودات، والتي جعلت العبد خالقا مستقلا لأفعاله تحت دعوى الحرية الإنسانية،

ومنطقية الثواب والعقاب، قام (الجهم بن صفوان) [9] في أوائل القرن الثاني

الهجري ينادي بآراء تقع منها على طرف النقيض، فزعم أن العبد لا دخل له في

أفعاله، ولا اختيار ولا استطاعة، بل هي فعل الله على الحقيقة والإنسان مجبور

عليها، كأفعال الجمادات سواء بسواء، قال: (إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا

يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله، ولا قدرة ولا إرادة ولا اختيار.

وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما بخلق في سائر الجمادات، وتنسب

إليه الأفعال مجازا كما تنسب إلى الجمادات، كما قال أثمرت الشجرة وجرى الماء،

وتحرك القِدْرُ، وطلعت الشمس، وغربت.. . والثواب والعقاب جبر، كما أن

الأفعال كلها جبر) [10] .

وفي منتصف القرن الثاني الهجري أطلق ضرار بن عمرو - وهو رأس

الضرارية المعدودة لدى كتاب الفرق من الجهمية المجبرة - القول بأن الله سبحانه

خالق لأفعال العباد حقيقة (وأنها مكتسبة لهمم) [11] ، وكان هذا القول إرهاصاً

بظهور مذهب ثالث - على يديّ أبي الحسن الأشعري في منتصف القرن الثالث

كان أوسع انتشاراَ وأعمق تأثيراً من سابقيه - الجبرية والمعتزلة.

الأشاعرة وخلق الأفعال:

رأى الأشعري ما ساد بين المعتزلة من آراء أدت إلى إهدار المشيئة الإلهية

في سبيل إثبات العدل الإلهي، بل إنه عاش ما يقرب من أربعين عاماً داعياً لذلك

المذهب الاعتزالي، وما ضاد ذلك لدى الجبرية من إهدار للعدل في سبيل المشيئة

الإلهية المطلقة، فاختار القول (بالكسب) الذي ردّده من قبله ضرار. ابن عمرو من

الجبرية، وأن الله سبحانه خالق لأفعال العباد، وهم (يكتسبونها) ! .

ولو أخذنا في استعراض آراء الأشاعرة في معنى (الكسب) لوجدنا اضطرابا

شديداً في تحديد معناه، مما ينبئ بأنه قد وضع أصلاً كمجرد اسم لا يحمل معنىً

معيناً مقصوداً، ثم حاول كلٌّ أن يحد له حدّاً وينحل له معنى، حسب ما يؤديه إليه

نظره، فقد ذهب الأشعري - كما رواه عنه الشهرستاني في الملل والنحل - إلى

التفرقة بين أفعال العبد الاضطرارية كالرعدة والرعشة، وبين أفعاله الاختيارية،

وبناء عليه فقد عرف (المكتسب) أي الفعل - بأنه هو (المقدور بالقدرة الحادثة) [12] أي: الفعل هو ما يفعله المرء بقدرته المخلوقة له. ثم عاد فنقض ما قرره مرة أخرى حيث قال: إنه لا تأثير للقدرة الحادثة -أي التي خلقها الله في العبد - في إحداث الفعل (والله سبحانه أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة- أي المخلوقة للعبد - أو تحتها أو معها: الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، وسمى هذا الفعل كسباً) [13] .

وفى هذا النص ينقض الشهرستاني ما سبق نقله عن الأشعريّ إذ أنه يقرر أن

العبد لا أثر لقدرته - وإن أقر أن الله سبحانه يخلق له قدرة - على أي فعل وأن

الفعل إنما يخلقه الله عقب خلقه للقدرة في العبد وليس مسبباً عنها، ثم ننتقل إلى

آراء القاضي (أبي بكر الباقلاني) [14] ، فنرى أنه مع تقريره أن القدرة التي

يخلقها الله سبحانه للعبد لا دخل لها في إيجاد الفعل، إلا أن (كون الفعل حاصلاً

بالقدرة الحادثة أو تحتها، نسبة خاصة تسمى ذلك (كسبا) [15] ، ويحاول ابن القيم

أن ينفذ إلى معنى لذلك الأمر الذي هو (الكسب) عند الباقلاني فيقرر أن مقصد

القاضي هو (أن القدرة التي خلقها الله تعالى للعبد - وإن لم تؤثر في الفعل - إلا

أنها مؤثرة في صفة من صفاته، وتلك الصفة تسمى كسباً، وهي مُتعلّق الأمر

والنهي، والثواب والعقاب) [16] .

لكنه يفند ذلك الزعم ويبيّن تفاهته قوله: إن تلك الصفة التي يكون بها الثواب

والعقاب، إما أنها داخلة تحث القدرة الإنسانية، وهو ما نفاه القاضي؛ أن يكون

للقدرة الإنسانية أي دخل في الفعل أو أنها لا تدخل تحت القدرة، فكأنه (لم يعد للعبد

اختيار ولا فعل وكسب البتة) وهو عين القول بالجبر [17] .

والإمام (أبو المعالي الجويني) [18]- وهو من أكابر الأشاعرة - قد أنكر

نظرية (الكسب) قائلاً: إنه لا معنى له عند التحقيق بل إنه مجرد (اسم محض ولقب

مجرد من غير تحصيل معنى، وذلك أن قائلاً لو قال: العبد يكتسب وأثر قدرته

الاكتساب، والرب سبحانه خالق لما العبد مكتسبٌ له، قيل له: فما الكسب وما

معناه؟ ‍!) [19] .

ثم يخرج الجويّني -في النظامية- بقول قد أصاب فيه وأجاد -كما علّق عليها

بن القيم- وهو أن الله سبحانه يخلق للعبد قدرة، وهذه القدرة مؤثرة في إيجاد الفعل

عند اختيار العبد بإقرار الله سبحانه -أي خلقه لتلك القدرة- كما سنرى في حديثنا

عن مذهب أهل السنة والجماعة في المسألة

والحق أن (الكسب) الذي ذهب إليه الأشاعرة، لا معنى له ولا حد، وصدق

من قال: إن محالات الكلام ثلاثة: كسب الأشعريّ، وأحوال أبي هاشم، وطفرة

النظام! .

مسألة التحسين والتقبيح:

ثم إنه كان من تفريعات مذهب المعتزلة - الذي يخرج بالعقل عن دوره

المرسوم وحدّه المعلوم - أن العقل يمكنه أن يدرك الحسن والقبح في الأشياء

والأفعال عامة مستقلاً عن الشرع، فهو يدرك - وحده - قبح الزنى وشرب الخمر، كما يدرك - وحده - حسن إنقاذ الغرقى وبذل الصدقة، ذلك أن تلك الصفات -

الحسنة والسيئة - صفات ذاتية لا تحتاج في تعريفها إلى وساطة رسل أو وحي من

السماء، حتى الإيمان بالله تعالى وشكره على نعمائه يدرك بالعقل قبل التكليف،

والإنسان محاسب عليه قبل ورود الشرائع [20] .

ولم يكن من الأشاعرة - إزاء الغلو الاعتزالي -إلا أن قالوا بالتحسين والتقبيح

الشرعيين، فأنكروا كل دور للعقل في إدراك الحسن والقبح في الأفعال والأشياء،

وذهبوا إلى أن الأفعال كلها مستوية في أصلها - أقبح القبائح وأحسن الحسنات -

ولا فرق بينها إلا بمجرد الأمر والنهي الإلهي - فلو أن الله تعالى أمرنا بقتل الأنبياء

وارتكاب الزنا لكان ذلك حسناً، ولو نهينا عن الخير والعدل لكان الخير والعدل سيئاً

إذ أن الأعمال لا تحمل في ذاتها خيراً ولا شراً، والعقل إذن -لا يستقل- بل لا

يدرك أصلاً - الخير أو الشر والحسن أو القبح [21] .

وكان مما حداهم إلى تأصيل ذلك الأصل الفاسد هو خلطهم بين الإرادة

والمحبة الإلهية، فقد اعتقدوا أن الله سبحانه إن أراد أمراً كان ذلك الأمر محبوباً له، مرضيّاً عنده، وإن كره أمراً لم يشأه، ولم يخلقه أصلاً؛ إذ كيف يخلق أمراً

ويشاؤه وهو يكرهه ويبغضه؟ ! أفيكون أمراً في كون الله مكروها لله مفعولا برغم

مشيئته؟ ! .

هكذا تصوروا المسألة حين خلطوا بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية -

كما سنرى في عرضنا لآراء أهل السنة - ومن هنا اضطروا إلى نفي القبح

والحسن في الأفعال والأشياء كلية إذ أن العقل العادي - الذي لم تغشاه غواشي

الشبهات - لو تأمل الأفعال والأشياء لأدرك فيها حسناً وقبحاً هو عين ما كلفته به

الشرائع، وأوجبته عليه الرسالات، وهي حقيقة لم يتمكنوا من المكابرة فيها، إنما- لمّا لم تضطرد على أصلهم في عدم التفرقة بين الإرادة الشرعية والكونية -

ذهبوا إلى ذلك الرأي الشاذ في نفي صفة الحسن والقبح في الأشياء والأفعال نفياً

مطلقاً، وجعلوا العقل عاجزاً عن إدراك الخير والشر فيها.

يقول ابن القيم في شرح ذلك الأمر:

(ومن هذا الأصل الباطل نشأ قولهم باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه

وأنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح، فلا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر

والكفر، ولذلك قالوا: لا يجب شكره على نعمه عقلاً، فعن هذا الأصل قالوا: إن

مشيئته هي عين محبته، وأن كل ما شاءه فهو محبوب له، ومرضي له ومصطفى

ومختار، فلم يمكنهم بعد تأصيل هذا الأصل أن يقولوا إنه يبغض الأعيان والأفعال

التي خلقها، ويحب بعضها، بل كل ما فعله وخلقه فهو محبوب له، والمكروه

المبغوض لم يشأه، ولم يخلقه، وإنما أصلوا هذا الأصل محافظة منهم على القدر،

فحثوا به على الشرع والقدر، والتزموا لأجله لوازم شوشوا بها على القدر والحكمة

وكابروا لأجلها صريح العقل) [22] .

الخطأ -إذن- قد نشأ وتطور لدى الأشاعرة في هذا الأمر نتيجة خلطهم في

مفهوم الإرادة الإلهية من جهة، وفرارهم من غلو المعتزلة في مسألة الحسن والقبح

العقلي إلى غلو مقابل من جهة أخرى.

ثمة أمر آخر كان له أثر في توجيه النظرية، الأشعرية عن السببية، ذلك هو

ما ذهبت إليه المعتزلة - والمعتزلة مرة أخرى! - إلى أن الله تعالى لا يفعل إلاّ

الأصلح لعباده، بل إنه يجب عليه فعل الأصلح لهم، مراعاة لمصالحهم، وحفاظاً

عليهم من المفاسد بل إن منهم من تعدى ذلك إلى عدم قدرته -تعالى الله عما يقولون

علواً كبيراً- على فعل الشر أو المفاسد التي يتوهمونها كما ذهب إليه النظام

المعتزلي، فإن ذلك مقتضى عدله، ومسوِّغ ثوابه وعقابه، والعباد هم الفاعلون

الخالقون لتلك الشرور والمفاسد، وهى خارجة عن مشيئته سبحانه كما بيّنا، إذ أن

(الباري تعالى حكيم عادل، لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم، ولا يجوز أن

يريد من العباد خلاف ما يأمر، ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه) [23] .

وكما رأينا من قبل، فقد فرت الأشاعرة من النقيض إلى النقيض، فنفوا أن

يفعل الله سبحانه ما فيه مصلحة العباد والله سبحانه لا يسأل عما يفعل، إذ كيف

يتوهم العقل أن يفعل لمصلحة أو يترك لمفسدة، والله سبحانه يفعل من واقع المشيئة

المطلقة المجردة عن المصلحة، أو المفتقرة إلى علة في أفعالها، فهو (لا يفعل شيئاً

لشيء، ولا يأمر لحكمة، ولا جعل شيئاً سبباً لغيره، وما ثم إلا مشيئة محضة،

وقدرة ترجح مثلاً على مثل بلا سبب ولا علة) [24] .

ثم لا نغفل الإشارة إلى أمر قد كان له أثره في ذلك المنهج الذي انتهجه

الأشاعرة في مناقضة المنهج الاعتزالي، ذلك أن الطبيعة البشرية تميل إلى التطرف

ما لم تدركها رحمة الله تعالى، والهروب من التطرف قد يلقى بصاحبه إلى التطرف

المقابل ما لم تضبط حركته بضوابط تهديه إلى الوسط الأعدل. وقد عاش إمام

الأشاعرة الأول (أبو الحسن الأشعري) معظم سنيّ حياته معتزلياً ينافح عن عقيدة

الاعتزال، ولاشك أن لهذا الأمر صلة مؤكدة بالاتجاه الفكري الذي سلكه فيما بعد،

إذ دفعه دفعاً إلى تطرف مقابل في مسألة خلق الأفعال ومفهوم السببية وما حولها كما

بينا، كما أنه -من جهة أخرى- قد صاحبه أثر اعتزالي في بعض آرائه الأخرى،

وإن لم تكن محلاً لدراستنا الحاضرة.

وحين نصل إلى تلك النقطة من البحث، فإننا نكون قد أشرفنا على لب الفكرة

الرئيسية التي نقصد إليها منه، وهي عرض لمفهوم السببية الذي كان لانحرافه عن

وجه الحق أثر بالغ في فكر المسلمين، وبالتالي في واقعهم الممتد عبر قرون

التخلف والتقليد، وحتى عصرنا الحاضر الذي هو -في الحقيقة - محط اهتمامنا،

ومحل دراستنا، ليرتبط تقويم الفكرة وتوجيهها بإصلاح الواقع وتغييره، وهو ما

سنوالي عرضه في البقية الباقية من صفحات المقال في العدد المقبل إن شاء الله

تعالى.

[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] [آل عمران: 8]

طور بواسطة نورين ميديا © 2015