في دائرة الضوء
بقلم:سليمان بن عبد العزيز الربعي
في الوقت الذي كانت فيه الجرّافات اليهودية تشرع في أعمال التمهيد لبناء
مستوطنة (جبل أبو غنيم) التي سموها بالعبرية (هارحوما) ، كانت دوائر الإعلام
في بعض البلاد العربية تخصص تلك الفترة لمواكبة الاحتفال بذكرى وفاة مطربهم
الشهير! .
وفي الوقت الذي كان فيه مركز البحوث الاستراتيجية في جامعة (تل أبيب)
يُجري استطلاعاً للرأي حول أعمال البناء في المستوطنة الجديدة لحشد التأييد اللازم؛ كانت تلك الدوائر الإعلامية مشغولة باستطلاع من نوع آخر، كانت شبكات
الإذاعات والتلفزة تُجري اتصالات عشوائية بالمواطنين لمعرفة انطباعاتهم عن
(مطرب الشعب) [1] في (ذكراه الخالدة) [2] ، مسدية (خدمات جليلة) [3]
للجماهير في اتصالاتها المستمرة بأقرباء الراحل وجيرانه وأصدقائه؛ كيما يعطوا
المتابع (المتلهف) [4] أدق التفاصيل اليومية عن (معشوق) [5] الجميع، في ملبسه
ومشربه، وحركاته وسكناته، بل في طريقة ضحكته.. إي والله! ! .
ولئن أبان استطلاع الرأي اليهودي عن وعي جماهيرهم بقضايا أمتهم اللقيطة، المفروضة، الـ ... ،...؛ فإن الاستطلاع الآخر لم يكن بحمد الله الذي لا يحمد
على مكروه سواه بأقل وعياً وهمّاً؛ إذ تجلت المعارف الخطيرة عن الفن والطرب
وأربابهما؛ أولئك الذين أضافوا إلى الأمة بحسب تعبير أحد المشاركين في الاحتفالية: (مجداً حضاريّاً لا يُنكر) ! ! .
فروق بين الاستطلاعين:
وإذا كان ثمّ تعليق تمكن به قراءة هذه المفارقة بين أمتين متباينتين تبايناً عقديّاً
وواقعيّاً حادّاً يضاف إلى ما يعطيه الحدث نفسه من دلالات فهو التأكيد على وجوب
النظر إليه (أي إلى ذلك الحدث) في سياق القضايا الكبرى التي تشكل بها الأمم سلباً
أو إيجاباً، بحيث يُدرك المتابع أن وعياً يمنح آحاد أمة بلا تاريخ اجتماعي وسياسي
موحد مثل (يهود) قيمة التفاعل المؤثر في مسألة حساسة تتعلق ببعد جوهري يقف
عليه مصيرها وأمنها ومستقبلها، إنما ينتظم على سبيل الحقيقة في سلك مشروع
كبير يهدف إلى صياغة إنسان مسؤول، بحيث ينتج بدوره الهوية في فكره وقدراته
لتستحيل سلوكاً ذا معطى يجاوز الرقم الإحصائي إلى أن يكون بذاته شرطاً مهمّاً في
مسيرة أمته، ليس على مستوى التشييد العفوي فحسب، بل على مستوى العملية
النقدية التي تضطلع بدور التخطيط والتقويم والترشيد للمجريات بعموم.
ومع التأكيد ثانية على أنّ هذا الدور لم يكن ليتأتى جُزافاً، بل سُبق بمراحل
الإعداد والتهيئة لقيمة الوعي في الذوات المسؤولة، من خلال حيثيات بناء الثقة
المطلقة بقضاياهم المصيرية وأحقيتها المادية والتنظيرية، وبالجزم المتناهي بأن
المصير الفردي والجمعي متعلق بالمفردات الصغيرة ونجاح المساعي فيها، تماماً
كما هو مرتبط بالمشكلات الكبرى التي لا يتعدد فيها الحل، بل هو واحد ينطلق من
رؤية مصلحية عامة، بعيداً عن المكاسب الفردية التي تعني في قاموسهم الجمعي
خيانة لا تغتفر، وهي منطلقات ترى في المرجع الديني نصّاً أو وسيطاً القداسة
المطلقة التي تصدر عنه مسلكية الفرد والأمة.
وإلى هذا وفي الجانب المقابل يتبين المراقب أن تخلفاً بحجمٍ ما نجحت في
ترميزه تلك الاحتفالية الليلاء التي لا يمكن أن تقرأ مفردة عن مسلسل هوان الأمة
اللاغبة، إنما يعكس نمطاً فريداً من عدم الوعي الذي تعيشه الأمة، بحيث نجح
العدو المتربص من خلال وسائل كثيرة في استلاب قيمة التفاعل الإيجابي من
العقول والقلوب على السواء من ناحية، ومن ناحية ثانية: استطاع استقطاب ما
تبقى من فكر وتفاعل إلى فضاءات العبث المبرر بحيثيات مضحكة ومبكية في آن.
ولقد كانت جهود الاستلاب والاستقطاب ناجحة إلى مدى بعيد؛ فأمة يعيش
أفرادها هم التأوه الطروب، على أنغامٍ مدغدغة للعواطف والشهوات المستعرة، في
ظل أوضاع عاصفة تتعلق بمصير أمةٍ ومقدّسٍ، لأمة تعيش اغتراباً خطيراً في
المفاهيم والقناعات، وهي أمة لم تعد تنشغل على الحق باعتباريات بقائها، فضلاً
عن النظر في شروط تطورها.
وإن الغريب الذي لا ينقضي منه العجب حقّاً أن تتماهى هذه الممارسة
الموجعة، بخلفية إرثٍ قديم عن الحقوق الضائعة، والمقدسات المغتصبة، و..، و.. إلى آخر هذه المنظومة التي أصبحت لازمة التشكل المظهري بهموم الأمة
وقضاياها (!) .. الأمر الذي يدعونا إلى التأكيد على بعد الأثر الذاتي في المشكلة،
وعدم التسليم لقول المتكئين على نظرية المؤامرة في التبرير أو الهروب من
المسؤولية في الواقع الذي يمس هؤلاء من القضاء المحتوم والقدر الغالب! ، ولئن
كان بيان خطل هذه الرؤية بالتدليل الشرعي على وجوب الدفع بالأسباب المباحة
يمكن أن يُقنع؛ فإن في التأكيد على عدم واقعية هذا التفسير ها هنا خروجاً من
القعود الخُلُوفِي، بإثبات أن للعامل الذاتي دوراً أساساً في تكريس التخلف والاشتغال
بما لا يفيد؛ ذلك أنه في مقابل عقيدة القناعات الواحدة في قضايا الآخر الذي سلف
بيانه آنفاً، بقيت قضايا أمتنا نسبية الحق والباطل، تبعاً لمتغيرات الزمان والمكان،
فما كان بالأمس محرّماً يمكن أن يصبح اليوم قابلاً للنقاش، و (لا) أمس يصح أن
يلوى عنقها لتصبح (نعم) ، وما لا يجوز التنازل عنه قبلاً يخضع بعداً لمداورات
الأيام ومصالح الأعلام..! ، من هنا: أصبح الفعل الجماهيري عاجزاً عن الوقوف
على أرض صلبة تسمح له بالمشاركة المؤثرة، بل وأضحت المسلمات المحترمة
في عقله ووجدانه ضرباً من (الأفكار) التي يصدق عليها التطور الحداثي القائم على
عدمية ثبات المضمون! .
وإلى هذه الحقيقة (المطلقة) لم يكن للمرجعية العقدية في الأعم الأغلب أيّ دور
في ثبات مُسَلّمات الجماهير وإعادتهم إلى الوعي الصحيح في قضاياهم المصيرية،
فأصبح هذا الغثاء بين مطرقة الشك وسندان العبث بفعل فاعل غير مستتر أو
موارب.
الغربة العقدية:
ومن غير ما شك، عُدّ هذا الوعي الرديء من أمارات الغربة العقدية التي
تحدث عنها الصادق المصدوق في قوله: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً ... [6] ، وتلك الصورة المتحدث عنها تمثل الجرح الأول، أو الصورة الكبرى للغربة
التي تمارسها الأمة الأم في مضامين الكشوفات المعرفية عن كل شيء، إلا معرفة
الشريعة التي كان قَدَرُهَا الوحشة، بحيث لا يدرك منها في كثير من البلاد إلا الرسم
المتعتع والهيكل الغفل، حتى إن المرء ليتهلهل وجهه لرؤية سمة للدين أشفق ألا
يراها في بعض بلاد المسلمين.. والله وحده المستعان! ، أما القلة المحافظة على
قيمة الوعي ذي المنحى المفيد الوسطي، فتعيش هم الغربة الثانية، أو المعنى
المراد في مدلول اللفظ الأسيف؛ إذ تصبح أمة وسط أمة، فريدة في الهم والطرح،
بل وفي الوعي المجرد، وذا هو الجرح الراعف الثاني:
جرحان تمضي الأمتان عليهما ... هذا يسيل، وذاك لا يلتامُ! !
ولئن كنا أوغلنا البيان في خلفيات ما نحن فيه وهو أمر ذو أهمية قصوى آمل
أن يتاح له عرض آخر؛ فإن من المفيد العود على تأكيد أن أزمة الوعي التي
تعيشها أمة الإسلام بوجه عام تعود بكل وضوح إلى البعد عن المصدرين المشرِّعين، مما أودى بالقوامة التربوية والثقافية على مطلق الصّعُد.
حقّاً، إن من يريد أن يقيس مسافات الوعي بين أمتين متباينتين فلا بد له أن
يقف طويلاً عند موقفين شبيهين بما افتتح البيانُ به، إنهما يعودان إلى جريمة
إطلاق النار من قِبَل يهودي على المصلين في مسجد الخليل إبراهيم (عليه السلام)
قبل أعوام، إذ بادر الوعي اليهودي بحشد التأييد الشعبي وشبه الرسمي لفعل
(البطل) [7] (جولدشتاين) من حيث دلالته العقدية والتأثيرية، بل وأصبح قبره
مزاراً قوميّاً وقيمة تربوية ضُمّ إلى قائمة الأماكن التي تُزار، ناهيك عن حجم
الاستفادة من خلفيات الحدث وتوظيفه دينيّاً وأمنيّاً.
وفي المقابل: أنتج الوعي المحسوب على العرب والمسلمين عينة مخجلة؛ إذ
بادر أحد المعلقين إلى الإفصاح عن رأيه في معالجة الحادث من قِبَل بعض المصلين، مؤكداً على أن رد الفعل كان ذا خلفية صراعية، غير مغفل وهوالمخلص أن
(يستنكر) ما قام به (الجاني) ، وإذا كان هذا الوعي يمثل عينة نخبوية؛ فإن عينة
الجماهير كانت ذات طابع وقتي، بالإضافة إلى فشلها الذريع في تقييم الوضع
وإعادة تمثله بوعي حصيف، مجلية وزرَ مَن حملها على اختزال الحل والردع
والثأر في شخص فلان أو علان! ! .
لقد كانت مسافة الوعي بين رد الفعل (الجولدشتايني) ورد الفعل العربي المسلم
بعيدة بُعد ما بين جرافات (أبو غنيم) المسكين وذكرى الراحل، شاسعة بقدر ما بين
الجد واللهو من مسافة لا يمكن أن تُردم، غريبة الاتجاه والتفاعل، إن في المثير
وإنْ في المستجيب، بقدر ما بين المسلك الطيب والرديء من تنافر غريب وتباين
جلي.
سؤال يطرح نفسه:
والتساؤل الممض: كم ينبغي أن ينفق المسلمون من العمل والوقت للوصول
إلى درجة من الوعي ناضجة؟ ، وقبل ذلك: كم من الجهد ينبغي أن يصرف كيما
يقتنعوا بجواب سريع سهل لهذا الأمل، وهو أنه كامن في العودة الحقة إلى الله
(عز وجل) وتحقيق العبودية له كما يحب ويرضى؟ .
حقّاً، إنه لمطلب نفيس، وإلى أن يتحقق فلا زال العجب متملكاً العقول من
صورة حية لتغطية الإذاعة اليهودية لأعمال البناء في (أبو غنيم) (!) ، إذ بادر
المذيع إلى سؤال أحد المستوطنين عن مدلول قرار حكومتهم في الشروع في البناء،
فكان جواب المستوطن: إن هذا العمل يُعَدّ لبنة من لبنات العمل اليهودي الذي بدأه
(هيرتزل) ، و (جولدا مائير) ، و (بيجن) ، و (شامير) ، و (جولدشتاين) ! ! .
في هذا الوقت كان المذيع العربي في احتفالية الراحل مشغولاً بمكالمة مع أحد
الأطفال الذين (يعشقون سماع أغاني مطرب الشعب) ، فيتملك الإعجاب المذيع
بدرجة قوية جعلته يجلجل بضحكة مدوية تنم عن الفخر، معقباً بالقول: (إذن،
والله، لا زالت (....) [8] بألف خير) ، في حين راحت الإذاعة تحتفي بهذه
الإجابة (الواعية) .
ولله الأمر من قبل ومن بعد،