مجله البيان (صفحة 2486)

المسلمون والعالم

ليبيا.. وسراب الدولة الجماهيرية

بقلم:محمد علي محمد

في ليبيا أو (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى!)

أصدر برلمانها أو ما يسمى بـ (المؤتمر الشعبي العام) عقوبات جماعية هي الأولى

من نوعها في العالم العربي الإسلامي الحديث، ضد كل من يخالف أو يقاوم هذا

النظام، على شكل قانون أطلق عليه: (ميثاق الشرف) ! ، والذي يهدف إلى مكافحة

ما أسماه بالجريمة الجماعية التي تشَكل وفق تعريف هذا القانون العجيب (التعطيل

لسلطة الشعب) ، وبموجب هذا القرار تتعرض عائلة (المخالف) أو قبيلته لعقوبات

سياسية واقتصادية ما لم تتبرأ منه ومن أفعاله التي يعاقب عليها، ومن العقوبات

التي توقع على المستحقين لها: الحرمان من الخدمات الحياتية كالماء، والكهرباء،

والهاتف، ووقود المنازل والسيارات، والخدمات الإدارية، والسلع التموينية،

والمخصصات المالية.

هذه العقوبات المنتهكة لأدنى حقوق الإنسان فضلاً عن مخالفتها للشريعة

الإسلامية لم تأت من فراغ، وإنما هي (بنات أفكار) (العقيد) التي ضمنها (كتابه

الأخضر) ، وفي هذا المقال يعرض الكاتب لوقفات من واقع (المؤتمر الشعبي)

ولجانه الشعبية، والأسس التي يُحكم بها شعب ليبيا المغلوب على أمره.

والله نسأل أن يصلح الأحوال، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.

- البيان-

في 2/3/1997م مرت على (ليبيا) الذكرى العشرون على إعلان قيام سلطة

الشعب المستندة على تعاليم (الكتاب الأخضر) الذي يبشر الشعوب بالهداية إلى

طريق الديمقراطية [1] ، لمؤلفه (الملازم ثان) (معمّر القذافي) القائد، والمفكر،

والمعلم، والملهم، والقائد الأممي، ومهندس النهر الصناعي العظيم، صانع أول

جماهيرية في التاريخ ... إلى آخر الألقاب! ! .

إن من حق الباحث بعد مرور هذه السنوات العجاف أن يتساءل عن مصير

هذه التجربة، تجربة سلطة الشعب في ليبيا، وكيف كانت التجربة؟ ، خصوصاً

وأن الذي يشرف على إخراجها وتنفيذها هو المؤلف نفسه، الذي توفرت له جميع

الإمكانات الهائلة والفرصة المواتية لتطبيق أفكاره، وبحرية واسعة، فقد كانت

تجربته هذه تحميها وتقرها وتدعمها سلطة دولة وثروتها وسلاحها، فكيف كانت

الحصيلة لهذا الشعب الذي عانى ويعاني من هذه المحنة حتى يومنا هذا؟ .

البناء الفكري للتجربة:

أصدر (القذافي) الفصل الأول من الكتاب الأخضر عام 1976م، وهو الفصل

المخصص لمناقشة شكل الديمقراطية، وقد جاء في البيان الصادر بإعلان سلطة

الشعب 2/3/1977م، أنه (اهتداء بمقولات الكتاب الأخضر..) ، لذا: فإن

الأساس الفكري للتجربة يعتمد على (الكتاب الأخضر) مباشرة، الذي يقرر بأسلوب

جازم قطعي أن (المؤتمرات الشعبية هي الوسيلة الوحيدة للديمقراطية الشعبية) [2] ،

وينفي بالأسلوب نفسه (أن أي نظام للحكم خلافاً لهذا الأسلوب (أسلوب المؤتمرات

الشعبية) هو نظام غير ديمقراطي) [3] ، (فلا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية

واللجان في كل مكان) [4] ، أما فكرة المؤتمرات الشعبية فتقوم كما جاء في كتابه

الأخضر على النحو التالي:

1- يقسم الشعب إلى مؤتمرات شعبية أساس في كل حي أو محلة.

2- يختار كل مؤتمر أمانة له.

3- من مجموع أمانات المؤتمر تتكون مؤتمرات شعبية أعلى.

4- تختار جماهير تلك المؤتمرات الشعبية لجاناً إدارية؛ لتحل محل الإدارة

الحكومية، فتصبح كل المرافق في المجتمع تدار بواسطة لجان شعبية.

5- تصير اللجان الشعبية التي تدير المرافق مسؤولة أمام المؤتمرات الشعبية

الأساس، التي تملي عليها السياسات وتراقبها في تنفيذها.

6- ما تتناوله تلك المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية يرسم في صورته

النهائية في مؤتمر الشعب العام، الذي تلتقي فيه أمانات المؤتمرات الشعبية واللجان

الشعبية.

7- ما يصفه مؤتمر الشعب العام الذي يجتمع دوريّاً أوسنويّاً يطرح بالتالي

على المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية؛ ليبدأ التنفيذ من قِبَل اللجان الشعبية

المسؤولة أمام المؤتمرات الشعبية الأساس [5] .

وقد وصف (القذافي) أسلوبه بأنه نظام بديع وعملي [6] .

وإذن: فقد انحلت مشكلة الديمقراطية نهائيّاً في العالم [7] بذلك الأسلوب

المزعوم.

من عقدة العظمة والغرور ينطلق (القذافي) في (كتابه الأخضر) ويقرر بطريقة

الأستاذ الملهم أنه جاء بالحلول النهائية والحتمية لجميع مشكلات العالم عبر التاريخ، وبأسلوب لا يحتمل النقاش أو المراجعة أو الجدال، ولم يبق أمام الجماهير إلا

الكفاح للقضاء على كافة أشكال الحكم الديكتاتورية السائدة في العالم الآن [8] .

وإذا كانت الفلسفات والشرائع الأرضية تشهد تهافتها وتساقطها حيناً بعد حين،

وأن ما يبقيها ويجعل لها بعض القبول عند الناس هو ما تحمله من بقية وحي، أو

أثارة من علم، أو شيء من حكمة.. فإن ما أبقى فكرة سلطة الشعب والكتاب

الأخضر ما هو إلا الإرهاب والقمع والقهر.

إذ إن الكتاب الأخضر جاء خلواً من أي فكر صحيح، بل هي أوهام رجل

مصاب بعقدة العظمة، وتمكن على حين غفلة من الناس، وانفرد بالسلطة، فزينت

له أوهامه أنه مفكر، وأنه رسول الصحراء كما نقلت الصحفية الإيطالية (إيزابيلا

بيانكو (في كتابها عنه: (رسول الصحراء) ، ولن تجد مثالاً في التاريخ يمكن أن

تقربه إلى أفكار الكتاب (الأخضر) أقرب من (قرآن مسيلمة) أو أفكار ووسائل

الحاكم الفاطمي، أو دين (جلال أكبر) الحاكم المغولي، أو فلسفة الثورة لعبد الناصر.. وهذه الأفكار الشاذة مصيرها الدفن في مزبلة التاريخ.

التجربة والممارسة:

باشر (القذافي) بقوة السلطة وقهرها تنفيذ أفكاره على الشعب الليبي المغلوب

على أمره في أواخر عام 1976م، وخدع في البداية شعبه بدعوته لتطبيق الشريعة

الإسلامية والزخم الإعلامي الذي قام به إعلامه حول هذا المشروع، إلا إن ذلك لم

يطبق فعليّاً، وربما كان ذرّاً للرماد في العيون، ثم تنزل عليه (الوحل) بأفكار كتابه

الأخضر، وديمقراطيته إياها لم يجر فيها استفتاء على الشعب: هل يرغب في

تطبيق الكتاب الأخضر أم لا؟ ؛ لأن الاستفتاء كما يقول تدجيل على الديمقراط [9] ، وإنما سيق الناس وحشروا إلى تلك المؤتمرات حشراً، إما رغبة وإما رهبة،

فقد كانت جميع المعاملات والإجراءات من إصدار الرخص والتوظيف والجوازات

والتأشيرات.. وغيرها لا يمكن الحصول عليها إلا إذا أثبت المواطن حضوره

للمؤتمرات الشعبية عن طريق بطاقة الحضور، وكانت تغلق المحلات والإدارات

ليتمكن المواطنون من الحضور إلى تلك المؤتمرات.

وإذا كان المكتوب يقرأ من عنوانه كما يقولون، فإنه في أول جلسة لمؤتمر

الشعب العام في 2/3/1977م والمنقولة مباشرة عبر التلفزيون الحكومي تمت

مناقشة الاسم الرسمي للدولة (القذافية) ، وكانت المؤتمرات الشعبية قد قررت أن

يظل الاسم كما هو عليه، أو اقترحت: جمهورية ليبيا الإسلامية أو العربية ... إلخ، فألقى (القذافي) بهذه القرارات في سلة المهملات وهي ملزمة حسب كتابه الأخضر

واختار اسماً عجيباً لا يحسده عليه أحد، ليصبح أطول اسم في تاريخ الدول كما

سبقت الإشارة إليه.

هذه هي البداية، أما تطبيق الأفكار فقد جرى على نحو عجيب كما سنرى:

أسلوب اختيار المتنفذين:

كان اختيار أمانات المؤتمرات وأعضاء اللجان الشعبية يتم دائماً في غرفة

اللجان الثورية، ويلقى بالاسم خارجاً ليتم التصفيق والهتاف وصيحات الإجماع،

هذا في المحِلات والأحياء، أما على مستوى الدولة فإن الاختيار والتعيين يتم من

قبل (القذافي) مباشرة، ويوعز لأحد الأعضاء أن يطالب به! .

أما قرارات الدولة (الجماهيرية) سواء أكانت قرارات مهمة أو تافهة، وحتى

قرار بداية شهر رمضان أو العيد، فإنها تتخذ في خيمة القائد، وأصبحت عبارة

(الموضوع في الخيمة) مألوفة، ولا يجرؤ أمين اللجنة الشعبية العامة (رئيس مجلس

الوزراء) على اتخاذ أي قرار مهما كان، وإنما مهمته تنحصر في تتبع مقر إقامة

(القذافي) المتنقل دائماً والجري وراءه لالتقاط قراراته، ثم إعلانها متى ما أجازها

الزعيم! .

ومن المعروف لدى الليبيين أن قرارات تغيير العملة، وإلغاء التجارة،

والحرب على تشاد، وتأميم الشركات والمساكن، وفرض الجندية.. وغيرها لم

تعرض ولم تناقش على المؤتمرات، ولو أنها عرضت لم يكن يتغير من الأمر شيء! ولقد علم الشعب بهذه القرارات عن طريق الإعلانات أو الإذاعات

الخارجية! .

ومن المعروف أن القرارات تتخذ وتنفذ قبل انعقاد المؤتمرات الشعبية، ثم

تدعى لكي توافق على القرارات السارية! ، وأصبح من التقليد المعروف (للزعيم)

قبل انعقاد المؤتمرات بيوم أن يظهر في التلفزيون الوحيد الخاص به، ليستعرض

مع شعبه البنود المعروضة للنقاش في اليوم التالي، كالأستاذ مع تلميذه ليلة الامتحان، ويقرر لهم ما يريد، لينطلق (الهتيفة) الثوريون يرددون ما قاله، وسميت هذه

العملية بترشيد الجماهير.

وبفضل تلك الأساليب أصبح الشعب يكذب على نفسه، وحاكمه يكذب عليه،

وأصبحت ليبيا المسكينة مسرحاً سخيفاً كبيراً لأكبر مأساة في تاريخها، سميت زوراً

وبهتاناً: عصر الجماهير وسلطة الشعب.

أما اللجان الشعبية فقد نشأت بعد خطاب (زوارة) في شهر ربيع الأول عام

1973م، فيما يعرف بخطاب النقاط الخمس وإعلان الثورة الشعبية، ولكن لم

تطلق يد اللجان الشعبية بالكامل إلا في إعلان سلطة الشعب، فعاثت في الأرض

فساداً، تهلك الحرث والنسل، وتخرب وتدمر جميع مرافق وخدمات الدولة..

فالجامعة ترأسها لجنة من الطلاب الثوريين الفاشلين، والمرافق العامة كالصحة

والتعليم والبريد يرأسها نفر من الوصوليين؛ فالمستشفى يديره ممرض (معروف

السيرة) ، والتعليم يديره مشرف خدمات متهرب من العمل من العينة نفسها، والبريد

يرأسه معروف بالرشوة.. وهلمّ جرّا، أما الشركات: فيرأسها أناس غير

متخصصين، وأصبحت المرافق والخدمات والشركات نهباً موزعاً لهم، واستأثر

بالقسط الأكبر منها الأتباع ورجال المخابرات والمقربون.. فهذا عصر الدجل،

وكل لجنة شعبية من هؤلاء تتغير أو تبقى بعد عمليات ما سُمي بـ (التصعيد) ،

ومن قفز من أهل الخير والفضل خطأً إلى هذه اللجان أسقطت عضويته بقرار من

اللجنة الثورية، أو هُمِّش، أو لفقت له تهمة، أو ينساق في تيار (الإنجازات

الثورية) حتى ولو لم يقتنع بها؛ ليسلم من المصير المجهول! .

وظهرت طائفة في المجتمع معروفة بالسرقة من الأموال العامة، كالفئات التي

تظهر بعد الحروب والأزمات، تعيش بأساليب غير نظامية مما يسمى بأغنياء

الحرب.

ولا تسأل بعد ذلك عن حال الخدمات والمرافق والبنية الأساس للبلاد، فما لم

تحطمه الفوضى والتسيب أدركته السرقة والنهب، وساعد (الزعيم) على هذا

الوضع الوحشي بالتأخير المتعمد للمرتبات، حتى حطمت الدولة (الجماهيرية) الرقم

القياسي لتأخير المرتبات، فقد وصلت في بعض القطاعات إلى 8 أشهر مؤجلة! ،

أما تأخير المرتبات لبعض الأفراد فقد وصل إلى سنة! أو أكثر، وذلك في دولة

بترولية تعم أرضها بالخيرات! .

والوحيدة التي سلمت من هذه الفوضى إلى حدٍّ ما هي شركات النفط؛ لأنها

ببساطة مقسمة قسمة (ضيزى) بين القذافي وجلود.

من بركات الجماهيرية:

منذ قامت ثورة الفاتح من سبتمبر أو الانقلاب (القذافي) ، وليبيا تعاني الأمرين

من سوء الأحوال والاضطرابات السياسية؛ نتيجة هذا الحكم العجيب، ومن

المظاهر السلبية التي يعانيها الشعب المغلوب على أمره ما يلي:

-الإذلال والقهر والإرهاب للشعب، فقد صار المكان المفضل للقذافي هو

ساحات المؤتمرات الشعبية؛ حيث يعدم المعارضون وعلى رأسهم الإسلاميون.

-تدمير البنية الأساس لجميع مرافق وخدمات البلاد، بنشر الفوضى والنهب

وحماية القائمين على ذلك.

-إفساد الأخلاق والقيم، ونشر معاني تدني الأخلاق والرذيلة والرشوة

وانتهاك الحرمات.

-تشجيع النعرات القبلية والجهوية بين أبناء البلد، وإثارة الفتن بينهم.

-تسليط اللجان الثورية ورجال المخابرات على عامة الناس.

-هجرة العقول المتميزة، وقتل ذوي الكفاءات، وتقديم الأراذل والسفهاء.

والأهم من ذلك وقبله وبعده: تعبيد الناس لطاغوت يسومهم سوء العذاب،

وإخضاع الناس لشرعه من دون الله.

وأختم حديثي بالذي هو خير:

[وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ

يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ] [النور: 39] .

[أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ

عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]

[التوبة: 109] .

والله نسأل أن ييسر لبلادنا من ينقذها من أفكار العقيد الضالة وأساليبه

الغوغائية التي لم تنل منها بلادنا سوى التأخر والضعف والحصار.

فعسى أن يقيض الله لنا من يحكم بشرع الله ليرد لبلادنا كرامتها ومكانتها،

وما ذلك على الله بعزيز.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015