المسلمون والعالم
بعض الأضواء
على الأحداث الأخيرة في ألبانيا
بقلم:عبد الله الألباني
كي نفهم الأحداث الجارية في ألبانيا، فسنعود إلى الوراء فترة ليست بعيدة؛
فالتطور الأخير في ألبانيا ارتبط بعاملين مهمين جدّاً في الحياة السياسية الاقتصادية
والاجتماعية، هما:
العامل الأول: الأزمة السياسية الناجمة عن الانتخابات البرلمانية التي أثارت
جدلاً واسعاً، والتي جرت في 26/5/1996م، ولم تعترف الأحزاب المعارضة
بنتائجها، مما ترتب عليه: انسحابهم من البرلمان، الأمر الذي تسبب في أزمة
سياسية حقيقية، وصلت إلى مسامع الدول الأوروبية، وأقرت بها فيما بعد، بعدما
انتهت من بحثها ومناقشتها مع المتخصصين على أعلى المستويات السياسية.. أما
أمريكا: فقد اكتفت بمجموعة توصيات، منها: النظر في إجراء انتخابات مبكرة،
وهذه العملية أثارت الرأي العام، وكانت بمثابة نقطة سوداء في ثوب ديمقراطيتهم،
وتجاهلاً لحقوق الإنسان، وحتى للتعبير عن حرية رأيه في اختيار من يقوده..
وتركت هذه العملية أثاراً سلبية على شعب ألبانيا حيال المجتمع الأوروبي، وحتى
الأمريكي، وحيال ديمقراطيته المزيفة.
العامل الثاني: الشركات الربوية وتأثيرها على حياة البلد، [يَمْحَقُ اللَّهُ
الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] [البقرة: 276] ، وللأسف الشديد: لم يسلم من هذه الفتنة
فتنة الكسب من الربا سوى قليل ممن رحم ربي، حتى الذين لا يملكون شيئاً
اقترضوا من أخرين لوضع المال في الشركات وأخذ فائدة ربوية! ، ففي الأعوام
الأربعة الأخيرة في ألبانيا تفاقمت ظاهرة الشركات الربوية، فبعض هذه الشركات
رفعت نسب الأرباح الربوية لتجذب أعلى نسبة من المودعين، وبالتالي: رؤوس
الأموال، وحسب بعض الإحصائيات فإن هذه الأموال بلغت قريباً من 5، 1 مليار
دولار، وكانت شركات مثل: (سوديا جافيري) ، (بوبولي) تعطي فائدة ربوية على
الأموال المودعة بدون مشروعات تغطيها، بينما شركات أخرى مثل (فيفا) ،
(كامبيري) ، (جاليتسا) ، (سيلفا) .. وغيرها، كانت لديها بعض المشروعات التي
يمكن أن تستخدم فقط في الدعايات، بل إن معظم هذه المشروعات كان يدور حول
إنتاج الخمور والسجائر.
ومن جهة أخرى: فهذه الشركات كانت تدير أموالها بدون توفر ضمانات
بنكية من أحد البنوك الحكومية.
ومن المعلوم حسب بعض الإحصائيات أن ظاهرة الشركات الربوية جذبت
أكثر من ثلث الشعب الألباني، وكان أكثر هؤلاء المودعين في مدينة (فلورا) ، وقد
تراوحت نسب الفوائد الربوية الموزعة على المودعين من 8 10% شهريّاً للشركات
العادية، وقد وصلت إلى 30% 50% في شركات (سوديا، وجافيري، وبوبولي) ، مما أثار الدهشة في كافة الأوساط المحلية والعالمية، لا سيما في النصف الأخير
من العام المنقضي (1996م) .
من ناحية أخرى: فقد حاول السياسيون ورجال الدولة إيجاد حلول لتقليل
خطورة هذه الظاهرة، واضعين في الاعتبار ثقة الناس في بعض هذه الشركات،
والتي اعتبرت الحكومة أنه ليس من واجبها كشف نظافة هذه الأموال أم لا، وقد
سبق لقوى المعارضة أن حاولت إظهار خطورة هذا الأمر، ولكن ليس بالشكل
القوي المطلوب، ولطالما حمّلت الحكومةَ مسؤولية مراقبة هذه الشركات، وظل
الوضع هكذا حتى زار ألبانيا وفد من (Fرضي الله عنهI) ، وحذر من تفاقم هذه الأزمة ومن
جراء ارتفاع نسب الفائدة بدون ضوابط اقتصادية تحكمها، وقد أثبتوا هذه المخاوف
في تداولاتهم مع الحكومة، الأمر الذي لا يستطيع أن ينكره أحد.
وفي تطور أخير للمشكلة قامت الحكومة بالتحذير من تفاقم هذه الأزمة، كما
أتى التحذير من مؤسسات أخرى أجنبية محلية ودولية، وقد ألغيت زيارة كان من
المزمع أن يقوم بها رئيس الوزراء الألباني السابق إلى إيطاليا بسبب رفض الحكومة
الألبانية تبرير موقفها تجاه الشركات الربوية لنظيرتها الإيطالية.
ورغم كل هذه المخاوف وهذه القلاقل إلا إن الشعب ما تقاعس عن المزيد من
الإيداعات، وكان عدد المودعين يزيد يوماً بعد يوم وحتى بعد ظهور علامات
للسرقة، حيث حاول أحد أصحاب هذه الشركات الهرب ومعه 13. 5 مليون دولار.
في منتصف نوفمبر 1996م ظهرت أول علامة من علامات إفلاس واحدة من
أقدم هذه الشركات بعد أربع سنوات من التعامل مع الشعب، وهي شركة (سوديا) ،
بعد أن نمى في حس الشعب أن هذه الشركات مدعومة من الحكومة، وأنها لا يمكن
أن تنتهي في يوم واحد، بل سيكتب لها الاستمرار، ولكن إفلاس (سوديا) وإعلان
الحكومة عن عدم ثقتها في هذه الشركات أوجد عند الشعب كبتاً نفسيّاً واجتماعيّاً،
مما عبر عنه بعض الناس بقليل من الاشتباك مع قوات الشرطة في العاصمة
(تيرانا) ، ومنذ ذلك الوقت بدأت الحكومة في التفكير الجدي للتقييم الموضوعي
للأمور ومحاولة الوصول للطريقة المثلى لحل هذه الأزمة وعلاجها قبل أن تصير
طامة على الشعب، ومن هذا المنطلق قام البرلمان بتشكيل لجنة مختصة لمراقبة
أنشطة هذه الشركات الربوية، أما الصحف المحلية، فقد ذكرت جانباً من التكهنات
بشأن هذه الأرباح الخيالية، فمنهم من قال إنها عملية غسيل للأموال، ومنهم من
قال إنها عملية تهريب مخدرات وأسلحة.. وغير ذلك من التكهنات.
وبدأت المخاوف التي أثارتها الجهات المختلفة تجاه هذه الشركات بالظهور،
حيث بدأت بعض الشركات بتحديد تعاملاتها على أساس أنها ستعطي النسب المئوية
فقط دون إعطاء رأس المال حيث كان المتبع أن تعطي الشركة الفائدة مع رأس
المال في الوقت نفسه، وتدع الحرية لإعادة الإيداع للناس، ومنهم من خفض النسبة
التي كان يعطيها.
ورغم الغموض الذي كان يحيط بعمل اللجنة التي شكلها البرلمان وتلك التي
شكلتها الحكومة لمتابعة عمل هذه الشركات إلا إنهم فاجؤوا الشعب بنتيجة المراقبة،
وهي أن هذه الشركات مؤسسة على شكل تراكمي هرمي، وأن الشركات التي لديها
بعض المشروعات لا يتناسب حجم مشروعاتها مع الإيداعات، أي: إنها هي
الأخرى مؤسسة على شكل تراكمي هرمي.
ثم تلت هذه المرحلة أن وضعت الحكومة يدها على الأموال التي تخص
شركتي (بوبولي) ، و (جافيري) في البنك الحكومي وتقدر بحوالي 270 مليون
دولار، وحملت على عاتقها مهمة إعادة هذه الأموال إلى المودعين، وفي الوقت
ذاته: أصدرت الحكومة قراراً بحظر نشاط هذه الشركات، وفوراً تم القبض على
رؤسائها، الذين صرحوا بدورهم بأنهم قادرين على رد أموال المودعين إذا تركتهم
الحكومة، وقد نشرت الصحف هذه التصريحات، في حين أن الحكومة صرحت
بأنها سترد فقط 52% 60% من أموال المودعين، حيث إن هذا هو الرقم المتاح
الذي بحوزتها من أرصدة هذه الشركات، مما دفع الناس بإلقاء اللوم على الحكومة
لفقدان مدخراتهم وأموالهم.
وفي مدن (لوشيليا) ، و (فيري) ، و (بيرات) دوى صراع محتدم بين قوات
الشرطة والأهالي، وسبب هذا الصراع إقامة الحواجز في الشوارع، فبدأت النيران
تشتعل في المكاتب المحلية وأقسام الشرطة والبلديات والمحاكم ومكاتب الحزب
الديمقراطي الحاكم في تلك المدن، واتخذت الحكومة التدابير اللازمة للسيطرة على
الموقف، وسمحت لقوات الجيش بحراسة المنشآت المهمة، وفي هذه الأثناء:
انطلقت شرارة جديدة زادت الموقف التهاباً، فقد أثار خبر إفلاس شركة (جاليتسا)
الشركة التي أكثر مودعيها من مدينتي (فيري) ، و (فلورا) الجماهير الغاضبة،
والذي أثار المودعين أكثر: أنه وحسب التقارير تم تقدير مشروعات هذه الشركة
بما مجموعه 26 مليون دولار، في الوقت الذي بلغت فيه أموال المودعين قرابة
350 مليون دولار، ومن هنا، واعتماداً على مجموعة استقراءات، منها: أن هذه
الشركة ساندت الحزب الديمقراطي والحكومة في الدعاية الانتخابية الأخيرة، ومن
جهة أخرى: كانت الحكومة توليها اهتماماً واضحاً، فبناءً على هذين الأمرين،
استيقن الشعب أن هناك صلة وثيقة بين الحكومة وهذه الشركات المشبوهة، ومن
هنا: ظهرت تطلعات أحزاب المعارضة بضرورة الاتجاه إلى الحلول السياسية،
مستغلة في ذلك الوقتَ الذي آلت إليه الظروف الأخيرة ونقمة الشارع على الحكومة، وفي لحظة تاريخية لم يسبق لها مثيل: اجتمعت كل قوى المعارضة على هدف
واحد، وتشكلت لجنة ديمقراطية من كافة الأحزاب المعارضة (يمينية، ووسط،
ويسارية) ، وكذلك من بعض السياسيين القدامى، وبدأت هذه اللجنة عقد لقاءات
ومحاولة تنظيم مسيرات احتجاج، مطالبين فيها ليس فقط بإرجاع الأموال ولكن
كذلك باستقالة حكومة (ألكسندر ماكسي) ، وكذلك نددوا باستخدام أساليب العنف مع
الشعب من قِبَل قوات الشرطة والشيكو، ونددوا كذلك بتعنت الحكومة بجميع
أفرادها.
ورغم محاولات الحكومة إخماد هذه التظاهرات والمسيرات إلا إن الوضع كان
يزداد تفاقماً، وانتقل دوي المظاهرات في معظم مدن ألبانيا، وكان منها بطبيعة
الحال ما هو سلمي، ومنها ما استخدم فيها العنف وبخاصة في الجنوب، لا سيما
في مدينة (فلورا) ، التي صارت مركزاً للتظاهرات والمسيرات والاشتباكات، التي
خلفت وراءها ضحايا من أبناء البلد قتلى وجرحى، وقد أذاعت بعض الإذاعات
العالمية جانباً منها، وأعقبت هذه العمليات ضربة أخرى ساهمت في تفجير الموقف، وهي: قيام بعض الطلبة من جامعة (فلورا) بتنظيم إضراب واعتصام في مقر
الجامعة، تنفيذاً لقرار غالبية الطلاب، وكلما تجاهلت الحكومة طلبات المتظاهرين
ازدادت نقمة الشعب عليها، وازداد الإصرار، فمعروف عن هذا الشعب صلابته
وعناده، ولما لم يصغ الرئيس لطلبهم بإقالة حكومة (ماكسي) ولا وضع تصوره
لحل مشكلات المودعين في شركة (جاليتسا) ، اتخذت أعمال العنف شكلاً جديداً لم
يكن في الحسبان، وهو الشكل المسلح، إثر ترك الجيش والشرطة مواقعهم دون
مقاومة تذكر، وانضمت بعض قيادات من الجيش والشرطة إلى المتمردين في
الجنوب، وتم عزل بعض القيادات الأخرى، ومن المعروف أن شكل التمرد بدأ
بدون ترتيب ولا إعداد، ثم ما لبث أن أخذ شكلاً جديداً، وهو تكوين جبهة لها قيادة
وقادة، وكان القادة من أعمدة الجيش الشيوعي السابق، ومعروف كيف كانت
تدريباتهم واستعداداتهم في ذلك الوقت.
كما زادت طلبات المتمردين طلباً جديداً، وهو استقالة الرئيس (صالح بريشة) ... وعلى الرغم من محاولة الحكومة الاستفادة من النجاح الذي حققته في انتخابات
مايو 1996م، ومحاولتهم التحايل بإعادة تشكيل حكومة جديدة إلا إن الحزب
الديمقراطي نفسه بدا غير مكترث بطلبات المتمردين، ولم يقدم الحزب الديمقراطي
أي تنازلات على الرغم من تفاقم الموقف.
ثم تعاقبت المدن واحدة تلو الأخرى في الانضمام إلى المتمردين في (فلورا) ،
مبتدئة في (سراندا) ، ومنتهية في (دلفينا) ، مروراً بـ (تبالينا) و (مماليا) ، ثم
اختتمت في (جيروكاسترا) ، وصار كل القطاع الجنوبي المتاخم لحدود (اليونان)
بعيداً عن سيطرة الحكومة، وكذلك مصدر ضغط عليها، وتكونت في كل مدينة
تنظيمات أسمت نفسها بـ (الإنقاذ الوطني) طالبت بضرورة الاستماع إلى برنامجهم
الجديد، وفي هذا الوقت: أخطأت الحكومة أيضاً، حيث فرضت قانون الطوارئ،
وطالبت المتمردين بتسليم أسلحتهم خلال يومين وعدم اللجوء للعنف في المناطق
الجنوبية الملتهبة، وكان لهذا الخطأ عواقب وخيمة جدّاً، حيث لم يستمع المتمردون
للنداءات الحكومية، وكذا لم تستطع الحكومة السيطرة على الموقف، وبدت
تدخلات أجنبية غير معلنة لدعم مواقف المتمردين، وظهرت بوادر الشيوعية
الحمراء بشراستها المعهودة تظهر من جديد.
وبعد هذا التطور الخطير السريع جدّاً للأحداث، الأمر الذي لم يسبق له مثيل، بدأت التحركات الدبلوماسية الأوروبية بثلاث زيارات متتابعة من عدة منظمات
أوروبية، والمفوضية العليا، وبعض الموظفين في الإدارة الأمريكية، وبدهي أن
يظهر اهتمام دول الجوار لا سيما إيطاليا، واليونان واللتان تلعبان دوراً مهمّاً في
السياسة الألبانية، وكذا في السياسة الأوروبية حيث يتركز اهتمامها في محاولة
تقليل الهجرات الجماعية إلى أراضيها؛ لأن كثيراً من الألبانيين سافر إلى هناك
للعمل، ومنهم من يتاجر في المخدرات والأعراض والعياذ بالله.
وعلى ضوء هذا الاهتمام أو تلك المخاوف: كانت زيارة نائب وزير خارجية
اليونان لألبانيا، ثم تبعتها زيارة وزير خارجية إيطاليا، ومن جهة أخرى: شاركت
تركيا صديقتها وجارتها ألبانيا المشاعر، وعبرت لها عن أملها في الوصول لحل
سريع للأزمة.
وفور تسرب الأنباء عن تسلح معظم أبناء الشعب إلى بلاد الجوار من
المحتمل أن يكون لهم دور في ذلك تزايدت المخاوف، لا سيما وأن منطقة البلقان
تعج بالمشاكلات وليست البوسنة ذات الاستقرار الهش منهم ببعيد ودائماً تساورهم
مخاوف من احتمال اندلاع الحرب مرة ثانية في البوسنة وزحفها إلى مختلف دول
البلقان.
وبفقدان سيطرة الحكومة وجيشها في ألبانيا على منطقة (جيروكاسترا) بالطبع
كانت قبلها بعض المدن الأخرى اضطر (صالح بريشة) لتقديم بعض التنازلات،
والتي أصر في البداية على عدم تقديمها، وهي: إقالة حكومة (ماكسي) وإجراء
حوار سياسي مع كافة الأحزاب الأخرى؛ للوصول لتشكيل حكومة جديدة، في حين
أن الأخبار من الجنوب لم تتحسن، بل إن الموقف ازداد سوءاً، والأزمة آخذة في
الاشتعال، وتوسع المتمردون في فرض سيطرتهم على عدة مدن أخرى، مثل:
(بيرمت) ، و (بيرات) ، و (سكارابار) .. وغيرها، مما أثار مخاوف دول المنطقة
من قيام حرب أهلية، وفي هذه الأثناء: دعا الرئيس (صالح بريشة) جميع
الأحزاب للالتفاف حول مائدة المفاوضات، واقترح عليهم تشكيل حكومة انتقالية
أسماها حكومة المصالحة الوطنية، يتم تمثيل جميع الأحزاب التي فازت بنسبة
معتبرة في انتخابات مايو 1996م فيها، ثم يتبع ذلك إجراء انتخابات أخرى في
شهر يونية (حزيران) 1997م، وبعد يومين من المداولات تم تشكيل الحكومة من
رئيس وزراء (باشكيم محمد فيلو (من الحزب الاشتراكي (الشيوعي سابقاً) ، وكان
يشغل منصب عمدة مدينة (جيروكاسترا) ، ووزير للداخلية من الحزب الديمقراطي،
ووزير الدفاع من الحزب الاشتراكي، والوزراء الآخرين كذلك من مختلف
الأحزاب.
ورغم هذا إلا إن المتمردين أصروا على المطالبة باستقالة (صالح بريشة) ،
الأمر الذي آثار مخاوف أهل الشمال الجبليين والذين يساندون الرئيس (بريشة) ،
الذي يتمع بتأييد كبير جدّاً على مستوى أهل الشمال، حيث قد أعطاهم بصفتهم من
بلدته امتيازات كبيرة، وفتح لهم باب الهجرة لـ (تيرانا) وما حولها، وفوق هذا:
فقبيلة (بريشة) لها مؤيدون كذلك في إقليم (كوسوفو) على الحدود مع (ألبانيا) ، وفي
تطور سريع جدّاً للأزمة خلال يومين من تشكيل الحكومة الانتقالية: وجدنا أن
السلاح صار كذلك مع أهل الشمال، وتم الاستيلاء على معظم مخازن الذخيرة
والسلاح، وكان في البداية على حد زعم بعض المصادر الرسمية لمواجهة احتمالية
زحف متمردي الجنوب إلى (تيرانا) للإطاحة بالرئيس (صالح بريشة) حسب ما
أشاعته بعض المصادر الداخلية في ألبانيا، وأصبحت البلد بلا حكومة، ولا نظام،
ولا أمن، وحل على الناس الخوف والفزع وترقب الموت وهجوم المسلحين في أي
وقت، واختفت عن الأنظار الملابس الرسمية سواء لمنسوبي الجيش أو الشرطة،
وفتحت أبواب السجون على مصاريعها، وبدأت أعمال السطو المسلح على المخازن
والمدارس والمصانع والمحلات التجارية وعلى المشاريع التي تحت الإنشاء..
وغيرها من المنشآت، وصار منظر الشباب المسلحين في الشارع ظاهرة عادية في
العاصمة (تيرانا) ، وسمع دوي الطلقات النارية في الليل وفي وضح النهار، الأمر
الذي كان يفزع الكبار فضلاً عن الأطفال، وبحرب نفسية من نوع آخر وعبر
وكالات الأنباء العالمية والمحلية بدأت النداءات من معظم دول العالم بترحيل
رعاياها من ألبانيا، ولا سيما أمريكا التي كانت تنادي رعاياها في ألبانيا بأساليب
متعددة، كأن العالم ليس فيه إلا الأمريكان! ! ، وبدأت عمليات الإجلاء بالطائرات
الهليكوبتر الحربية إلى إيطاليا، وزادت نسبة الوافدين إلى الموانئ الألبانية للسفر
إلى إيطاليا، حتى أصبح المعدل اليومي ألف شخص.
بدأت حكومة المصالحة الوطنية أولى خطواتها على مسار العمل السياسي بعد
الاجتماع مع بعض المسؤولين الأوروبيين، وطلبوا بصفة رسمية المساعدة المسلحة
من دول أوروبا، ولكن ترددت الدول في تقديم تلك المساعدة، وفي الاجتماع الذي
دعا إليه (فرانيسكي) وزراء خارجية دول التعاون الأوروبي إلى ضرورة تقديم
المساعدة العسكرية لإعادة الأمن تلبية لنداءات الحكومة الجديدة ورئيس الجمهورية
انقسم المجتمعون إلى فريقين: الأول: مؤيد، ويضم: إيطاليا، واليونان، وفرنسا، وإسبانيا، وهولندا، والآخر: معارض، ويضم: ألمانيا، وبريطانيا، والسويد.
وعندما تقاعست هذه الدول عن تقديم المساعدة العسكرية لألبانيا: لجأت
الحكومة إلى محاولة علاج الأمر بما تستطيع، فقامت باستدعاء قوات الشرطة
والجيش حتى الذين في الاحتياط والمتقاعدين بعد عام 1990م بعد إغرائهم برفع
رواتبهم، وتم تشكيل فريق لإعادة الأمن في البلاد، ونظراً للإغراء المادي، وكذلك
لوجود بعض العناصر الوطنية في البلد والتي رأت من الضرورة تكاتف الجهود
لحل هذه الأزمة: عاد أصحاب الملابس الرسمية يظهرون من جديد، وقاموا بعمل
دوريات، وفرض ساعات حظر تجول محدودة مَن يتجاوزها يتعرض للمساءلة
العاجلة، حتى إنهم قد قتلوا بعض الأشخاص ممن لم يستجيبوا لندائهم بالتوقف
بالسيارات، وتكررت النداءات بتسليم الأسلحة، وأستطيع القول: إن هذا الأمر من
الصعب جدّاً أن يتم بسرعة، ولكن هناك بعض النتائج لا بأس بها.
وقد عاد الهدوء النسبي في الشارع رغم تسميته بالهدوء الذي يسبق العاصفة
إلا إن ذلك مطلوب أيضاً لإعادة ترتيب الصفوف وتنظيمها، وعادت الحياة بشكل
نسبي إلى طبيعتها، وقامت الحكومة بعمل نداءات لجميع الموظفين في الدوائر
الحكومية بالحضور للعمل وإلا سيفقدون وظائفهم في الحال.
وعلى صعيد آخر: فقد تم إرسال وفد من دول الاتحاد الأوروبي مكون من
11 عضواً، واجتمعوا مع رئيس الوزراء الألباني والرئيس (بريشة) وعدد من كبار
رجال الدولة في ميناء (دورس) على متن سفينة حربية، وخرجوا بمجموعة
توصيات ومحاور رئيسة لمساعدة ألبانيا، منها تقديم:
1- المساعدات الإنسانية.
2- المساعدات المالية والاقتصادية.
3- مساعدة بشأن عودة الحياة إلى طبيعتها.
الإصرار على إقالة (بريشة) :
وفي تطور آخر للأحداث: قامت منظمة (الجنوب الألباني) بإعطاء مهلة
للرئيس (صالح بريشة) حتى يوم 20/3/1997م لتقديم استقالته، وإلا فلن يعترفوا
بحكومة (فينو) ، وسيأتون إلى تيرانا للإطاحة بالرئيس، ولكن في رسالة قوية
أرسلها الرئيس (بريشة) أعلن فيها الموقف السابق نفسه، وأنه لن يترك الرئاسة إلا
إذا خسر حزبه في الانتخابات القادمة.
وقد سمعت أثناء كتابة هذه السطور أن المعارضة الجنوبية تنازلت عن موقفها، وأقرت بالحكومة الانتقالية، ودعت إلى انتظار نتائج الانتخابات القادمة.
بعض المعلومات السريعة:
1- السفيرة الأمريكية الحالية في ألبانيا هي نفسها التي كانت موجودة في
العراق أيام حرب الخليج! ! .
2- مدير المخابرات الأمريكية في ألبانيا يوناني الأصل.
3- حاول وزير الدفاع السابق الهرب، فأعادوه، ثم تمكن أخيراً من الفرار،
ويُتهم بأن له علاقة وثيقة بعمليات بيع السلاح الألباني.
4- اللصوص ومحترفو الإجرام الذين خرجوا من السجون هم الذين يسببون
كل أحداث الرعب وأعمال السرقة في البلد.
5- يحتمي الرئيس (صالح بريشة) في مقر قصر التشريفات وسط حراسة
مشددة جدّاً من أهل الشمال المسلحين.
ونحن في مجلة البيان: نعرض الواقع المؤلم الذي آلت إليه الحال في (ألبانيا) أفقر دول أوروبا، والتي لم ينقذها الغرب كما هو دأبه مع بني جنسه لكون جل الألبان من المسلمين، حتى ولو كانوا في غالبيتهم مسلمين بالحفيظة فقط، إذ إن الكابوس الشيوعي الذي حل بها منذ سنوات قد مسخ جل أهلها، حتى أنك لا تفرقهم عن سواهم من غير المسلمين.
وهناك جهود دعوية موفقة لإعادة الإسلام لشعب ألبانيا المسلم، وأعمال خيرية
نالها الأذى من جراء الفتنة التي عصفت بهذه الدولة، ولعلنا نتناولها في مقال قادم
إن شاء الله (تعالى) .
والله نسأل أن يمن بالاستقرار والطمأنينة على هذا الشعب، وأن تعود أحواله
سلاماً واطمئناناً ورغد عيش، وعودة إلى الله.
وما ذلك على الله بعزيز.