دراسات دعوية
ظواهر الغربة في الصحوة المعاصرة
بقلم: جمال شقدار
(يحاول كاتب المقال من خلال نظرة متأنية الإشارة إلى بعض ظواهر الغربة
في الصحوة الإسلامية المعاصرة، الماثلة على نطاق الجماعات المنتشرة في العالم
الإسلامي، ويعتبر هذا المقال مقدمة تعريفية للاتجاه الذي سيسلكه في النقد الذاتي
لمناهج وسلوكيات الجماعات والفرق عامة، دون التركيز على جماعة أو فرقة
بعينها ... ) .
عندما دخل حكيم الأمة [1] أبو الدرداء على زوجه (رضي الله عنهما) كان
مغضباً مما رآه تغيراً في الناس عن سنة المصطفى، فقال عبارته المشهورة: (ما
أعرف من أمة محمد شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً) [2] ، هذا مع كونه (رضي الله
عنه) لم يعش هذه الغربة طويلاً، فقد لحق بحبيبه، وما رأى الفتن العظام.. مات
قبل مقتل عثمان (رضي الله عنهم جميعاً) .
وقد أحسّ بهذه الغربة الإمام راوية الإسلام [3] خادم رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ورفيقه في سفره وإقامته: أنس بن مالك (رضي الله عنه) الذي عاش
بعد أبي الدرداء ما يزيد عن ستين عاماً، فصارح تلميذه الزُهرُي باكياً: (لا أعرف
شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت) [4] .
وهذا الإمام ابن الجوزي صاحب البصيرة النافذة والنظر العميق في أحوال
خواص الأمة قبل عوامها بعد خمسمئة عام من عصر أبي الدرداء يعلق على موقف
حكيم الأمة فيقول: (واعجباً.. كيف لو رآنا اليوم، وما معنا من الشريعة إلا الرسم
..؟ !) [5] .
وقبل أن يظن بعض أهل الصحوة أني أشير بهذه الآثار الثابتة إلى حال عوام
الناس اليوم وغربة الإسلام التي تضج بها سلوكياتهم.. أقول: إن غربة الإسلام في
العوام متوقعة بعد مرور ما يقرب من ألف وأربعمئة عام على العصر الذهبي لصدر
الإسلام، لكن الغريب كل الغرابة أن نعيش الغربة داخل الصحوة ونحن ندّعي أنها
جاءت لتنقذ الأمة وتجدد لها دينها الذي ارتضاه ربنا لها..! ! وأجد أنه من العدل
والموضوعية قبل أن نتطرق للنقد الذاتي لظاهرة الصحوة أن نذكِّر بأن لها من
الإيجابيات الواضحة ما لا ينكرها إلا مكابر، وقد تركت هذه الإيجابيات بصماتها
الواضحة على المسلمين اليوم أفراداً ومجتمعات، ولعله يتيسر لنا يوماً إن شاء الله
رصد هذه الإيجابيات والكتابة عنها بتوسع [6] .
والحقيقة: إن الناظر بعين البصيرة لظاهرة الصحوة في هذا العصر على
اختلاف مناهج فرقها وتعدد اتجاهاتها، يجد كثيراً من الظواهر المَرَضِيّة المتفشية
في مجموع الفرق والجماعات، وعلى جميع المستويات العاملة بها، والقارئ لسيرة
السلف (رضي الله عنهم) بتمعن سيجد نفسه مضطرّاً إلى أن يعقد المقارنة تلو
المقارنة بين حال الصحوة اليوم وما كان عليه السلف في عصر صدر الإسلام [7] ... وسيرى بسهولة مقدار الغربة عن الإسلام في صحوة اليوم، وله أن يتساءل
حينها: أين وحدة المسلمين تحت مظلة الاسم الواحد الذي سماهم به الله في كتابه
العزيز [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ ... ] [الحج: 78] مما هو حاصل اليوم من افتراق
(خواص المسلمين) تحت رايات عديدة وأحزاب شتى [كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] [الروم: 32] ، يكيدون ويحاربون بعضهم بعضاً، ويكيلون التهم جزافاً، بدءاً
من التبديع ومروراً بالعمالة والتفسيق، وانتهاءً بالتكفير..! ! مدفوعين بقوة الجهل
والهوى، جاعلين أنفسهم بما يفعلون في مصاف المفارقين لأهل السنة ... والجماعة [8] .
وله أن يتساءل أيضاً: أين بساطة المعتقد عند السلف ووضوحه عما هو
حاصل اليوم من تتبع عقائد الفرق الضالة حذو القذة بالقذة، وتبني أساليب أهل
الكلام ومتاهاتهم اللفظية والعقدية؟
بل وأين القلوب الهينة اللينة.. ذات النفوس الخاشعة والعيون الدامعة مما
يعاينه أفراد الصحوة على شتى اتجاهاتها من قسوة في القلوب وتفريط في العبادات
كمّاً.. وكيفاً..؟ [9] .
ولا شك أن سبب الغربة عامة وغربة الصحوة بشكل خاص هو: البعد عن
سنة المصطفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، التي تعرف بأفعاله وأقواله
الثابتة وبما سار عليه خلفاؤه وأتباعه في القرون المفضلة.. أما سبب الانحراف عن
هذه الطريقة فهو كما يلخصه لنا الإمام ابن الجوزي (رحمه الله تعالى) : (إما الجهل
بها أو الخروج عليها.. فيجري الإنسان مع الطبع والعادات، وربما اتخذ ما يضاد
الشريعة طريقاً) [10] .
وقلما يجد من عاين أحوال الدعوة وأطوارها شابّاً من أفراد الصحوة لا تنبئ
فعاله قبل مقاله عن بعده عن منهج السلف الصالح.. فتجده يشكو قسوة القلب
وغلظة الطبع وغياب الخشوع في الصلاة وانشغال اللسان عن ذكر الله [11] .
بل وقد يسقط بعضهم في مهاوي الرذيلة سرّاً، فلا يجد ما ينتشله من هذا
التردي سوى التخفي خلف صلاح الظاهر بحجة (إذا بليتم فاستتروا) ، فتكثر البلوى
في الخلوة، ولا تكاد تبين في الخلوة، وبدلاً من الشروع في علاجها وتداركها تراه
يتستر عليها من الناس دون الله (عز وجل) المطلع على السرائر والأحوال.
وقلما يجد الناظر ببصيرة فرقة أو جماعة إلا وَهمّها (الدعوي) الأكبر زيادة
الأتباع، والمسابقة على (اقتناص) الأفراد والمواقع في المجتمعات، وبدلاً من
التركيز على الكيف، كان الكم هو الشاغل الأكبر، ولا شك أن من كثر جمعه
تشتت جهده، فيتربى الأتباع تحت هذه العباءات وداخل هذه الأطر في أجواء
التسابق (الدعوي) المحموم والتعصب المكشوف، فتنمو علومه ومهاراته (الحركية)
على حساب إصلاح النفوس والتخلص من آفات القلوب، وعلى حساب الأنس بالله
(عز وجل) الذي هو غاية المقصود من كل علم وتعليم، ولا شك أن من كانت هذه
أفعالهم فإن لهم (قلوب غافلة عن الله (عز وجل) ، إذ لو كانت لها به معرفة
لاشتغلت به، وكان أنسها بمناجاته، وإيثارها لطاعاته، وإقبالها على الخلوة به،
لكنها لما خلت من هذا تشاغلت بالدنيا، وذلك دنيا مثلها، فإذا خلت بخدمة الله
(تعالى) لم تجد لها طعماً، وكان جمع الناس أحب إليها وزيارة الخلق لها أثر عندها، وهذه علامة الخذلان.
والنفس لا بد لها مما تُشغل به، فمن اشتغل لخدمة الخلق أعرض عن الحق
فإنما يربي رياسته، وذلك مما يوجب الإعراض عن الحق [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... ] [الأحزاب: 4] ) [12] .
وترى همة الفرد في هذه الجماعات قد اقتصرت في سني حياته (الدعوية)
على زيادة أتباع فرقته والذود عن حمى رموز الجماعة، فيضيق مفهوم الولاء
والبراء حتى يصل إلى قناعة (من لم يكن معي فهو ضدي) وتكون قاصمة الظهر..
ضيقاً في الأفق، وفرزاً للناس، وتصنيفاً للعاملين في مسار الدعوة للتعامل معهم
بمقتضى هذا التصنيف سلباً وإيجاباً، وكم جرّ هذا التصنيف من (قارعة في الديار،
بتشويه وجه الحق، والوقوف في سبيله، وضرب للدعوة من حدثاء الأسنان في
عظماء الرجال باحتقارهم وازدرائهم، والاستخفاف بهم وبعلومهم، وإطفاء مواهبهم، وإثارة الشحناء والبغضاء بينهم، وهضم لحقوق المسلمين في دينهم وعرضهم،
وتحجيم لانتشار الدعوة بينهم، بل صناعة توابيت تقبر فيها أنفاس الدعاة ونفائس
دعوتهم) [13] .
وتطفيف المكيال.. وما أدراك ما تطفيف المكيال؟ ترانا نَزِنُ ما لأنفسنا بدقة، ونحاسب ونلوم من نتعامل معه من الخلق.. كيف أنقصنا؟ ! ولِمَ تَجرّأ على ... ذلك؟ ، ونحن أهل الدعوة الحق، الموقعون باسمه (تعالى) ! ! واغتررنا بما زعمناه لأنفسنا وكررناه في تعاملنا مع الله، فإذا أتينا ما يكرهه (سبحانه) ساغ لنا أن ننتظر منه (تعالى) ما نحبه [14] ، وغفلنا أن لا نَسَبَ لأحد مع الله، ونسينا قوله (تعالى) لليهود مؤكداً ميزان العدل عنده (تعالى) : [أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ] [القمر: 43] .
ونتيجة حتمية أخرى من نتائج البعد عن منهج السلف: أن تخطئ بعض
الفرق والجماعات الموزعة في العالم الإسلامي مرة تلو الأخرى في سعيها للتغيير
وإعادة البناء، ويؤدي ذلك إلى ضرب الدعوة وإغلاق مجالات الخير أمام الصالحين، ثم تجيء جماعة أخرى، وفي بلد آخر لتبدأ من الصفر وتقع في التجربة الفاشلة
نفسها [15] ، ولنرى بأعيننا كيف أننا نفتن في كل عقد مرة أو مرتين ثم لا يكون
فينا التائبون ولا يكون فينا المتذكرون!
فإذا كان هذا هو حال جماعات الصحوة على الأغلب، وهو كذلك بلا مجاملة
ولا خداع، فلا بد من مراجعة للمسار وتقويم للصحوة ذاتها ومنهجها، ولا بد أن
يتجرد الناصحون من ذوي البصيرة النافذة والأفق الواسع والمرجعية الشرعية
المستقلة لمدارسة ما للصحوة وما عليها، وإن مما ابتليت به الصحوة أن يكتب مثلي
على ضعف علمه وقلة خبرته ناقداً وسابراً لأغوارها، فلا حول ولا قوة إلا بالله،
غير أن عزائي فيما قلته وسأقوله في هذا المجال: أني مسلمٌ شاء له قدره أن يتطفل
على أهل العلم والاختصاص متجرءاً عليهم؛ لعل وعسى أن يتجرد ناصحوهم
فيتدارسوا أمر هذه الصحوة ويضعوا لها النقاط على الحروف بميثاق شرف يجمع
الأمة مرة أخرى، عوامها وخواصها على ما كان عليه النبي وأصحابه، وليكن
حلف فضول جديد، نُدعى له فنجيب.
... ... ... ... ... ... ... ... والله من وراء القصد،