في إشراقة آية
بقلم: د. عبد الكريم بكار
يقول الله (عز وجل) : [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ
اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ] [*] .
قضية الاستمرار في الامتثال لأمر الله (تعالى) في المنشط والمكره من القضايا
الجوهرية في التصور الإسلامي، ومن القضايا الجوهرية كذلك في بنية التشريع
وأدبياته، وليس أدل على ذلك من وصية الله (تعالى) لنبيه -صلى الله عليه وسلم-
في هذه الآية وفي غيرها بـ (الاستقامة) ، التي هي: (المداومة على فعل ما ينبغي
فعله وترك ما ينبغي تركه) .
وقد قام (عليه الصلاة والسلام) بإسداء النصح بلزومها لمن سأله عن قول
فصل يصلح به جماع أمره، حيث جاء في الصحيح: أن سفيان بن عبد الله (رضي
الله عنه) قال: قلت: (يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً
غيرك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) [1] .
ولنا مع هذه الآيات المباركة الوقفات التالية:
1- إن في قوله (جل وعلا) [وَلا تَطْغَوْا] ، وقوله: [وَلا تَرْكَنُوا إلَى
الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ] إشارة واضحة إلى ما يعترض سبيل الاستقامة من
ملابسات السرّاء والضرّاء، وقد أخبرنا ربنا (جل وعلا) أن من طبيعة البسط
والتمكن استدعاءَ البغي والطغيان، حيث قال (سبحانه) : [وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ
لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ] [الشورى: 27] .
والبغي هو مجاوزة الحد، وهو يتجسد في صور متعددة: فبغي القوة:
البطش بالضعفاء، وبغي الجاه والنفوذ: الظلم وأكل الحقوق، وبغي العلم: اعتماد
العالم على ما لديه من شهرة ومكانة؛ مما يدفعه إلى القول بغير دليل، ورد أقوال
المخالفين من غير حجة ولا برهان، وطغيان المال: التبذير والإسراف والتوسع
الزائد في المتع والمرفهات.
والعارض الثاني للاستقامة على خلاف الأول، حيث تدفع الطموحات
والتطلعات المصلحية والضعف والظروف الصعبة إلى مصانعة الظالمين ومداهنتهم
وإشعارهم بالرضا عما هم فيه، والاستفادة من قوتهم وما لديهم من متاع في تحسين
الأحوال وتحقيق المكاسب ... مع أن طبيعة الاستقامة والالتزام في هذه الحال
تقتضي المناصحة، والهجر، والضغط الأدبي، والتحذير من التمادي في ذلك،
وهذا كله منافٍ للركون؛ لكن الشيطان يبرهن دائماً على أنه يملك خبرات مميزة في
تزيين الباطل والتلبيس على الخلق، فهو ينسيهم أحكاماً ومواعظ وأدبيات ومواقف
وتجارب، ويدفع بهم بعيداً عن كل ذلك!
2- إن الاستقامة في التحليل النهائي ليست سوى تمحور المسلم حول مبادئه
ومعتقداته، مهما كلف ذلك من عنت ومشقة، ومهما ضيع من فرص ومكاسب.
وينبغي أن يكون واضحاً: أن المرء إذا أراد أن يعيش وفق مبادئه، ورغب
إلى جانب ذلك أن يحقق مصالحه إلى الحد الأقصى، فإنه بذلك يحاول الجمع بين
نقيضين، وسيجد أنه لا بد في بعض المواطن من التضحية بأحدهما حتى يستقيم
أمر الآخر.
إن تحقيق المصلحة على حساب المبدأ يُعدّ انتصاراً لشهوة أو مصلحة آنيّة،
أما الانتصار للمبدأ على حساب المصلحة فإنه بمثابة (التربع) على قمة من الشعور
بالسعادة والرضا والنصر والحكمة والانسجام والثقة بالنفس، وقد أثبتت المبادئ أنها
قادرة على أن تكرر الانتصار المرة تلو المرة، كما أثبت الجري خلف الشهوات
دون قيد ولا رادع أنه يحقق نوعاً من المتع والمكاسب الآنيّة، لكنه لا يفتأ أن يرتد
على صاحبه بالتدمير الذاتي، حيث ينمو الظاهر على حساب فساد الباطن، ويتألّف
الشكل على حساب ضمور المضمون!
إن المبدأ أشبه شيء بـ (النظارة) إذا وضعناها على أعيننا، فإن كل شيء
يتلّون بلونها، فصاحب المبدأ له طريقته الخاصة في الرؤية والإدراك والتقويم، إنه
حين يرى الناس يتسابقون على الاستحواذ على منصب يستغرب من ذلك، ويترفّع؛ لأن مبدأه يقول له شيئاً آخر غير ما تقوله الغرائز للآخرين، وإذا رأى الناس
يخبطون في المال الحرام تقززت نفسه؛ لأنه يعلم ضخامة العقوبة التي تنتظر
أولئك، وإذا أصيب بمصيبة فإنه يتجلد ويصبر؛ لأنه يرجو المثوبة عليها من الله
(تعالى) .
إذا قلّبنا النظر في اهتمامات الناس ومناشطهم اليومية فإن من السهل الوقوف
على المحور الذي يعلقون عليه توازنهم العام، ويدورون بالتالي في فلكه، وهناك
تشاهد من همّه الأكبر النجاح في عمله والمحافظة على سمعته فيه، كما تشاهد من
يتمحور حول المتعة، فهو يبحث عنها في كل نادٍ وواد، ومن يتمحور حول المال،
فهو يجوب العالم بحثاً عنه، ومن يبحث عن السيطرة والنفوذ، فهو مستعد لأن
يفعل أي شيء في سبيل التمكن والتحكم.. وتجد ثلة قليلة بين هذا الطوفان من
البشر استهدفت أن تحيا لله، وأن تبحث عن رضوانه، ومن ثم: فإنه يمكن تفسير
كل أنشطتها ومقاصدها في ضوء هذا المحور، وهذه الثلة هي التي أُمِر النبيّ -
صلى الله عليه وسلم- أن يفصح عن محورها باعتباره رائدها وهاديها: [قُلْ إنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ
وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] [الأنعام: 162، 163] .
إن الذين يعلنون الولاء للمبادئ كثيرون، بل هم أكثر أهل الأرض، ولكن لا
برهان على ذلك لدى أكثرهم، ويمكن أن يقال: إن لأكثر الناس دينين: ديناً معلَناً
وديناً حقيقيّاً، ودينُ المرء الحقيقي هو الذي يكرِّس حياته من أجله.
إن من طبيعة المبدأ أنه يمد من يتمحور حوله بقوى وإمكانات خارقة وخارجة
عن رصيده الفعلي، ولذا: فإن التضحيات الجليلة لا تصدر إلا عن أصحاب
المبادئ والالتزام، وهم أنفع الناس للناس؛ لأنهم يثرون الحياة دون أن يسحبوا من
رصيدها الحيوي، إذ إنهم ينتظرون المكافأة في الآخرة.
التمحور حول المبدأ هو الذي يمنح الحياة معنى، ويجعلها تختلف عن حياة
السوائم الذليلة التي تحيا من أجل التكاثر ومجرد البقاء! !
المبدأ هو الذي يُضفي على تصرفاتنا الانسجام والمنطقية، ويجعلها واضحة
مفهومة.
نحن لا ننكر أن الظروف الصعبة تُوهِن من سيطرة المبدأ على السلوك، لكن
تلك الظروف هي التي تمنحنا العلامة الفارقة بين أناس تشبّعوا بمبادئهم؛ حتى
اختلطت بدمائهم ولحومهم، وأناس لا تمثل المبادئ بالنسبة لهم أكثر من تكميل
شكلي لبشريتهم [2] .
3- لا يماري أحد في أن الإنسان اكتشف في العصر الحديث من الآيات
والسنن ما لم يكتشف عشر معشاره في تاريخ البشرية الطويل، لكن مع هذا فعنصر
المخاطرة والإمكانات المفتوحة ما زال قائماً؛ حيث تتحكم في الظاهرة الواحدة
عشرات الألوف من العلاقات التي يصعب معها التنبؤ بنتائج الاجتهادات والأنشطة
المختلفة، ولا سيما في القضايا الكبرى، كمصائر الأمم والحضارات، وقضايا
التقدم والتخلف، وما تنطوي عليه من تفاعلات وتغيرات، وإن الله (جل وعلا) ... قد ضمن لنا نتائج الاستقامة في الدنيا والآخرة، فهي بوجه من الوجوه وعلى نحو من الأنحاء لا تكون إلا خيراً، وإلا في صالح الإنسان، وقد قال الله (جل وعلا) : [إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [الأعراف: 128] ،
وقوله: [لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] [طه: 132] ، وقوله: ... [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن
كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [الأعراف: 96] .
أما من يسلك دروب المعاصي والفجور، ويتبع مغريات الأهواء والشهوات
فإنه يظل يتوجس خيفة من سوء العاقبة، لكنه لا يعرف شكل العقوبة، ولا طريقة
نزولها ولا توقيتها؛ ليكون الشك والغموض والخوف عاجل جزائه، ومقدمةً للبلاء
الذي ينتظره، ثم تكون الخيبة الكبرى والخسارة العظمى! !
إن هناك فترة سماحات تطول أو تقصر بين الانحراف وعواقبه وهذا هو الذي
جعل الابتلاء تامّاً، كما أنه هو الذي جرّأ أهل المعاصي على التماري في غيهم،
لكن العاقل الحصيف ينظر دائماً إلى الأمام ويتحسس ما هو آتٍ، ويضغط على
واقعة من أجل السلامة في مستقبله.
4- علينا أن نجمع بين النصوص التي تدل على ضرورة الاستقامة والالتزام
بالمنهج الرباني، والنصوص التي تفيد رفع الحرج والعنت عن هذه الأمة، من
مثل قوله (جل وعلا) : [هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] [الحج:
78] ، وقوله: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] [البقرة: 286] ، وقوله: [يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة: 185] ، وإذا فعلنا ذلك، فإننا سنفهم
من مجموعها أمرين:
الأول: هو ضرورة تزويد المسلمين بثقافة شرعية تتضح فيها حدود الواجبات
والمباحات والمحظورات، بما يشكل خارطة فكرية واضحة لما ينبغي أن يكون
عليه سلوك المسلم وعلاقاته.
الثاني: توفير الظروف والشروط الموضوعية التي تجعل التزام المسلم بدينه
ميسوراً، وبعيداً عن الحرج والمشقة التي لا تُحتمل؛ إذ إنه لا يكفي أن تكون
التعاليم الإسلامية ضمن الطوق، بل لا بد إلى جانب ذلك من أن تكون الظروف
المعيشية العامة التي يحيا فيها المسلم مناسبة ومشجِعة على الالتزام.
إنه كلما تعقدت الظروف المطلوبة للعيش الكريم قلّ عدد أولئك الذين
يتصرفون ضمن مبادئهم ويلتزمون حدود الشرع، فحين يكون المرتّب الشهري
للموظف لا يكفي لسداد أجرة البيت الذي يسكنه فإن شريحة كبيرة من الموظفين
سوف تلجأ إلى طرق غير مشروعة في تأمين احتياجاتها اليومية، وآنذاك
سيشعرون أن الالتزام التام لا يخلو من العنت، وحينئذ سيكون عدد الملتزمين
بالطرق الشرعية في الكسب محدوداً.
إن الحضارة الحديثة أضعفت الإرادة بما أوجدته من صنوف اللهو والمتع،
وجعلت الشروط المطلوبة للحد الأدنى من العيش الكريم فوق طاقة كثير من الناس،
كما أنها أوجدت من الطموحات إلى الكماليات وأشكال المرفِهات ما يتجاوز بكثير
الإمكانات المتاحة، وهذا كله جعل الاستقامة على الشرع الحنيف بحاجة إلى نمط
من الرجال أرقى، كما جعل من الواجب على الأمة أن تفكر مليّاً في توفير ظروف
تساعد على الاستقامة، وتحفز عليها.
إن المنهجية الإسلامية تقوم دائماً على ما يمكن أن نسميه بـ (الحلول المركبة) ؛ إذ إن هناك من النصوص والأحكام ما يرفع الوتيرة الروحية للمسلم، كما إن
هناك ما يزيد في بصيرته، وهناك ما يدعوه إلى الصبر والجلد، وهناك ما يحفزه
على تحسين ظروف عيشه وأدائه، ولا بد أن نمح الفاعلية لكل ذلك حتى يمكن
تجسيد المنهج الرباني في حياة الناس.
إن الفكر مهما كان قويّاً، وإن الوعي النقدي مهما كان عظيماً، فإن سلوك
الناس لن يتغير كثيراً ما لم تنشأ ظروف وأوضاع جديدة تحملهم حملاً على التحول
إلى سلوك الطريق الأقوم والأرشد.
ويؤسفني القول: إننا لم نستطع إلى الآن أن نبلور نظرية إصلاحية إسلامية
معاصرة ومتعمقة في تلمس شروط الاستجابة والظروف الصحيحة والمثلى لها، إلى
جانب تلمس مجمل الحساسيات والترابطات والتداعيات التي تشكل المناخ المطلوب
لقيام حياة إسلامية راشدة! .
إن جل اهتمامنا ينصب على بيان ما يجب عمله، أما البرامج والكيفيات
والإجراءات والأطر والسياسات التي يجب اتباعها وتأسيسها من أجل تحويل المبدأ
إلى واقع معيش.. فإنها لا تلقى ما تستحقه من اهتمام ومتابعة، والخبرات لدينا في
ذلك ما زالت ضئيلة، بل إن هناك مَن يستوحش من الخوض في غمار مثل هذا
النوع من البحث، ويعد التعمق في ذلك ضرباً من (الاستغراب) أو الجنوح نحو
المادية! ، ومن الدعاة من يدعي أنه عارف بكل ذلك، لكن لو نظرت في إنتاجه
المعرفي لم تقف له في هذه السبيل على كتاب أو رسالة، بل على خاطرة أو فكرة.
(وما أطيب العرسَ لولا النفقة) ! !
... ... ... ... ... ولله الأمر من قبل ومن بعد.