مجله البيان (صفحة 2410)

مقدمة في التنوع المشروع.. صفة الصلاة أنموذجا (2)

دراسات شرعية

مقدمة في التنوع المشروع..

صفة الصلاة أنموذجاً

(2 من2)

بقلم: سلمان بن عمر السنيدي

تحدث الكاتب في أولى الحلقتين عن تنوع العبادات التي وردت عن الرسول- صلى الله عليه وسلم-، وكيف أن المطلوب: الإتيان بأنواعها جميعاً، ثم تحدث

عن شرطي التنوع، فمراتبه، ثم أوضح أقسام مواطن التنوع، من حيث اجتماع

الأنواع فيها وعدمه، ووقف الحديث عند اهتمام العلماء قديماً وحديثاً بالتنوع،

ويواصل الكاتب في هذه الحلقة عرض بقية الموضوع.

- البيان -

آثار العمل بالتنوع المشروع:

ومما ينبغي الإشارة إليه: أنه لا بد أن يسبق العمل بالتنوع المشروع:

استظهار الأدلة لكل نوع، وتحرير محل الخلاف، وبيان الاختيار بين اجتهادات

الفقهاء، وتوجيه تنوع الصفات المشروعة، ومعرفة الغالب على صلاة النبي -

صلى الله عليه وسلم-، وما هو سبب الاختلاف، هل هو لبيان صفة جديدة، أم

هو لبيان الجواز، أم هو لحاجة عارضة.. وإذا تبين ذلك وتوجه العمل بالتنوع

المشروع: فإن له آثاراً يمكن توضيحها كما يلي:

1- طريق إلى الاتفاق ورفع الخلاف:

يحصل بدراسة الصفات المتنوعة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-

وبيان تنوع فعله لها: إزالة الخلاف الصوري المستند على اختلاف الاختيار بين

الصفات الثابتة المتنوعة.

وانظر إلى اختيارات الأئمة بين أنواع السنة الثابتة، فربما نقل المتأخرون

الاختيار ونسبوه لأحد المذاهب القائمة، فنظر مَن هو غير مؤهل إلى أنه اختلاف

قائم يحتاج إلى ترجيح، فيركن إلى أحدها تقليداً لإمامه، ويهجر سواه باعتباره

مرجوحاً أو خطأ أو بدعة وضلالة.

ولكن إذا حصل تعلم هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وما جاء عنه من

التنوع المشروع: زال السبب لهذا الاختلاف، واعتبرت الصفات المتنوعة

المشروعة من الهدي الذي يسوغ فعله كما كان يفعله.

ولقد اشتهر نقل صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابن عباس،

وأبي حميد الساعدي، ووائل بن حجر.. وغيرهم (رضي الله عنهم أجمعين) ، وقد

اختلفوا في نقلهم بحسب ما رأوه من صلاته -صلى الله عليه وسلم-، يقول النووي

(رحمه الله) : (الجمع بين حديث ابن عباس وأحاديث أبي حميد ووائل هو: أن

النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له في الصلاة أحوال، حال يفعل فيها هذا،

وحال يفعل فيها ذاك، كما كانت له أحوال في تطويل القراءة وتخفيفها وغير ذلك

من أنواعها، كما هو معلوم من أحواله -صلى الله عليه وسلم-، وكان يفعل العبادة

على نوعين وأنواع؛ ليبين الرخصة والجواز بمرة أو مرات قليلة، ويواظب على

الأفضل بينهما على أنه المختار والأَوْلى، فالحاصل أن كليهما سنّة، لكن إحدى

السنّتين أكثر وأشهر) [1] .

والنووي (رحمه الله) يحكي الإنكار على من جعل التنوع المشروع خلافاً

يحتاج إلى ترجيح، ويرى أنه صفات مشروعة، فيقول: (وأنكروا على إمام

الحرمين والغزالي حيث حكياه أوجهاً، وهي أقوال مشهورة) [2] .

وابن رشد القرطبي ينبه على طريق الأخذ بالتخيير بين الأحاديث المختلفة

دون تصور التعارض بينها، فلا يحتاج إلى ترجيح، فيقول عن الفقهاء: (وسبب

اختلافهم: اختلاف ظنونهم في الأرجح منها، فمن غلب على ظنه حديثٌ ما من هذه

الأحاديث: مال إليه، وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن هذا كله للتخيير) [3] .

ويشرح ابن تيمية نشأة الخلاف، وكيف بدأ بتفضيل أمرٍ لم يفضل، وذلك

بالمداومة عليه وهجر ما سواه، فيقول: (والسلف كان كل منهم يقرأ ويصلي ويدعو

ويذكر على وجه مشروع، وأَخَذَ ذلك الوجه عنه أصحابه وأهل بقعته، وقد تكون

تلك الوجوه سواء، وقد يكون بعضها أفضل، فجاء في الخلف من يريد أن يجعل

اختياره لما اختاره لفضله، فجاء الآخر فعارضه في ذلك، ونشأ من ذلك أهواء

مردية مضلة، فقد يكون النوعان سواء عند الله ورسوله، فترى كل طائفة طريقها

أفضل، وتحب من يوافقها على ذلك، وتُعْرض عمن يفعل ذلك الآخر، فيفضلون

ما سوى الله بينه، ويسوون ما فضل الله بينه، وهذا باب من أبواب التفرق

والاختلاف الذي دخل على الأمة، وقد نهى عنه الكتاب والسنة، وقد نهى النبي -

صلى الله عليه وسلم- عن عين هذا الاختلاف) [4] .

وقال (رحمه الله) موضحاً أن هجر المشروع سبب إلى نسيانه، ومن ثم:

طريق إلى الاختلاف والعداوة: (وهجران بعض المشروع سبب لوقوع العداوة

والبغضاء بين الأمة، قال (تعالى) : [وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ

فَنَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ] [المائدة:

14] ، فأخبر (سبحانه) أن نسيانهم حظّاً مما ذكروا به سبب لإغراء العداوة

والبغضاء بينهم، فإذا اتبع الرجل جميع المشروع المسنون، واستعمل الأنواع

المشروعة، هذا تارة، وهذا تارة، كان قد حفظت السنة علماً وعملاً، وزالت

المفسدة المخوفة من ترك ذلك) [5] .

وقال (رحمه الله) في بيان آثار المداومة على ما لم يداوم عليه الرسول: (مبدأ

المداومة على ذلك يورث اعتقاداً ومحبة غير مشروعين، ثم يخرج إلى المدح والذم، والأمر والنهي بغير حق، ثم يخرج ذلك إلى نوع من الموالاة والمعاداة غير

المشروعين من جنس أخلاق الجاهلية كأخلاق الأوس والخزرج في الجاهلية.. ثم

يخرج من ذلك إلى العطاء والمنع ... من غير استحقاق شرعي ... ثم يخرج من

ذلك إلى الحرب والقتال، كما وقع في بعض أرض المشرق، ومبدأ ذلك: تفضيل

ما لم تفضله الشريعة والمداومة عليه، وإن لم يعتقد فضله سبباً لاتخاذه فاضلاً

اعتقاداً وإرادة: فتكون المداومة على ذلك: إما منهيّاً عنها وإما مفضولة، والتنوع

في المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أفضل ... وأكمل) [6] ، ويوضح ابن تيمية (رحمه الله) علاقة هجر ما ثبت في السنة بالتفرق والاختلاف، فيقول: (هجر ما وردت به السنة وملازمة غيره، قد يفضي إلى جعل السنة بدعةً، والمستحب واجباً، ويفضي ذلك إلى التفرق ... ، مع أن الجميع حسن قد أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن الضلالة حق الضلالة أن ينهى عما أمر به النبي) [7] .

ويقول (رحمه الله) : (فإذا كان التنازع في الاستحباب: عُلم الإجماع على

جواز ذلك وإجزائه في العبادات، ولم يكن التنازع في الاختيار ضارّاً، بل قد يكون

النوعان سواء، وإن رجّح بعض الناس بعضها، ولو كان أحدها أفضل لم يجز أن

يظلم من يختار المفضول) [8] .

ويقول (رحمه الله) في بيان أن العمل بالتنوع المشروع يورث الاتفاق والألفة: (إن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة وائتلافها، وزوال كثرة التفرق والاختلاف

والأهواء بينها، وهذه مصلحة عظيمة، ودفع مفسدة عظيمة، ندب الكتاب والسنة

إليها) [9] .

وقال الشاطبي: (يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، كاختلاف القراء في

وجوه القراءات، فإنهم لم يقرؤوا بما قرؤوا به على إنكار غيره، بل على إجازته

والإقرار بصحته، وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات، وليس في الحقيقة

باختلاف؛ فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها) [10] .

وهكذا يكون الأخذ بالسنن المتنوعة طريقاً إلى الاتفاق والائتلاف.

ويحسن أن نختم هذا الأثر بمسألة ذكرها ابن القيم (رحمه الله) ، فقد أفاد وأجاد

في تطبيق ما تقدم ذكره من أخذه بالتنوع المشروع فيما ثبت من هديه -صلى الله

عليه وسلم- في موطن من مواطن الخلاف، فقال (رحمه الله) : (أهل الحديث هم

أسعد الناس بالحديث، يقنتون حيث قنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،

ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة، وتركه

سنة، ومع هذا: فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ويرونه

بدعة ولا فاعله مخالفاً للسنة، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل، ولا

يرون تركه بدعة ولا تاركه مخالفاً للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن تركه فقد

أحسن، وإذا جهر به الإمام أحياناً ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك؛ فقد جهر عمر

بالاستفتاح ليعلم المأمومين، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة

ليعلمهم أنها سنة، ومن هذا أيضاً: جهر الإمام بالتأمين، وهذا من الاختلاف المباح

الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه،

وكالخلاف في أنواع التشهدات، وأنواع الأذان والإقامة) [11] .

2- كمال الاقتداء:

لقد أمر الله عباده بالاقتداء بنبيه -صلى الله عليه وسلم- في قوله (تعالى) : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] ، وخصّ النبي -صلى الله عليه وسلم- عبادات بمزيد اعتناء , فقال في حق الصلاة: (صلوا كما رأيتموني أصلي) [12] .

ومن كمال الاقتداء: فعل كل ما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- وعدم

الاقتصار على نوع دون نوع، بل من اتباع السنة: عدم هجر شيء منه وتعطيله،

وإن من كمال الديانة ورسوخ العلم وسلامة المذهب: تتبع السنن ولزومها والحرص

على أدائها بآدابها.

قال أبو عثمان الجبري: من أمّر السنة على نفسه قولاً وعملاً نطق بالحكمة.

وقال شاه الكرماني: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن

الشبهات، وعمّر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعوّد نفسه أكل

الحلال: لم تخطئ له فراسة.

وقال أبو العباس بن عطاء: أعظم غفلة: غفلة العبد عن ربه (عز وجل) ،

وغفلته عن أوامره، وغفلته عن آداب معاملته.

وقال إبراهيم الخوّاص: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم: من اتبع العلم، واستعمله، واقتدى بالسنن، وإن كان قليل العلم.

وقال أبو حمزة البغدادي: من علم طريق الحق، سهل عليه سلوكه، ولا

دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في

أحواله وأفعاله وأقواله.

وقال عبد الله بن منازل: لم يُبْتَلَ أحد بتضييع السنن إلا يوشك أن يبتلى

بالبدع [13] .

وقال الخطيب البغدادي: (وينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره

عن طرائق العوام، باستعمال آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أمكنه،

وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله (تعالى) يقول: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ

أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ) [14] .

وقال الغزالي: (اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة والاقتداء برسول الله -

صلى الله عليه وسلم- في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته، حتى في

هيئة أكله وقيامه، ونومه وكلامه) .

عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: (لا يجعل أحدكم نصيباً

للشيطان من صلاته: أن لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد رأيت رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- كثيراً ينصرف عن شماله) [15] .

فالشيطان حريص على نقل العبادة الحية التي يستشعر فيها الإنسان كمال

الاقتداء بنبيه -صلى الله عليه وسلم- إلى عبادة شبه ميتة، تفعل تباعاً لا روح فيها

ولا استشعار لحقيقة الاقتداء والتأسي، لذلك عدّ ابن مسعود فعل الإنسان حالة واحدة

على وجه الالتزام والتقيّد وجعله مثل الواجب الحتم الذي لا يفعل غيره.. عدّ ذلك

إعطاءً للشيطان نصيباً من الصلاة، والله أعلم، حتى قال ابن قدامة: (وفي اتباع

السنة: بركة موافقة الشرع، ورضا الرب (سبحانه وتعالى) ، ورفع الدرجات،

وراحة القلب، ودَعَة البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط المستقيم) [16] .

وقال شيخ الإسلام عن العمل بالتنوع المشروع: (والتنوع في المشروع

بحسب ما تنوع فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أفضل وأكمل.

هذا هو اتباع السنة والشريعة؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قد

فعل هذا تارة وهذا تارة، أو لم يداوم على أحدهما: كان موافقته في ذلك هو التأسي

والاتباع المشروع، وهو أن يفعل ما فعل على الوجه الذي فعله لأنه فعله) [17] .

وقال شيخ الإسلام: (وإن قيل: إن بعض تلك الأنواع أفضل، فالاقتداء

بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في أن يفعل هذا تارة وهذا تارة: أفضل من لزوم

أحد الأمرين وهجر الآخر) [18] .

3- إحياء السنة:

قال: (تقدموا فَاًتموا بي، وليأتم بكم مَن بعدكم) [19] .

قال ابن حجر: (وقيل: معناه تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم

التابعون بعدكم، وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا) [20] .

ولقد أخذ الصحابة بهذه الوصية حق الأخذ، فرمقوا صلاته -صلى الله عليه

وسلم- منفرداً، وإماماً، في بيته، وفي المسجد، في ليل، ونهار، فوصفوا

صلاته وما فيها من حركات وسكنات وسكتات وهيئات، حتى سألوا عما خفي عليهم، فقد روى البخاري ومسلم قول أبي هريرة: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتك بين

التكبير والقراءة، ما تقول؟ ، فأخبره بدعاء الاستفتاح: (اللهم باعد بيني وبين

خطاياي ... ) ، الحديث متفق عليه، ويقول ابن حجر معلقا على ذلك: (وفيه: ما

كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبع أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- في

حركاته وسكناته، وإسراره وإعلانه، حتى حفظ الله بهم الدين) [21] .

فعلموا ذلك، وعملوا به، وعلّموه من بعدهم من التابعين، حتى صار ورثاً

تفيض به دواوين الإسلام وكتب الفقهاء (رحمهم الله تعالى) .

والعلم بالتنوع المشروع طريق للدعوة إلى جميع ما جاء به الشرع المطهر من

الصور المختلفة للعبادة الواحدة، ومعلوم ما في ذلك من إحياء للسنة ونشرها وجعلها

ظاهرة معروفة سائرة بين الناس، ومعلوم ما في تعليم صورة واحدة من السنة من

القصور في نشر السنة كاملة، وربما عُلِّل ذلك الاقتصار بالتدرج في تعليم الناس،

ولكن التدرج يدل على عقد العزم على تعليم ونشر عامة السنن المتنوعة الثابتة عن

النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا تحقق ذلك زال المحذور.

وإنك لترى وجوهاً من السنن مهجورة، تكاد تندثر بسبب إهمالها؛ لأن (هجر

ما وردت به السنة وملازمة غيره، قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة) [22] .

والعبادات الواردة على وجوه متنوعة يتنوع العمل فيها لبقاء السنة حية؛ لأنه

لو أخذ الناس بوجه وتركوا الآخر لمات الوجه الآخر، فلا يمكن أن تبقى السنة حية

إلا إذا كنا نعمل بهذا مرة وبهذا مرة.

قال شيخ الإسلام (رحمه الله) : (إن المداومة على نوع دون غيره هجران

لبعض المشروع؛ وذلك سبب لنسيانه والإعراض عنه حتى يُعتقد أنه ليس من الدين، بحيث يصير في نفوس كثير من العامة أنه ليس من الدين، وفي نفوس خاصة

هذه العامة: عملهم مخالف علمهم؛ فإن علماءهم يعلمون أنه من الدين ثم يتركون

بيان ذلك، إما خشية من الخلق، وإما اشتراء بآيات الله ثمناً قليلاً من الرئاسة

والمال؛ كما كان عليه أهل الكتاب، كما قد رأينا من تعود أن لايسمع إقامة إلا

موتورة أو مشفوعة فإذا سمع الإقامة الأخرى نفر منها وأنكرها، ويصير كأنه سمع

أذاناً ليس أذان المسلمين، وكذلك من اعتاد القنوت قبل الركوع أو بعده، فإذا اتبع

الرجل جميع المشروع، واستعمل الأنواع المشروعة: حفظ السنة علماً وعملاً،

ونكتة هذا الوجه: أنه وإن جاز الاقتصار على فعل نوع، لكن حفظ النوع الآخر

من الدين، ليعلم أنه جائز مشروع، وفي العمل به تارة حفظ الشريعة، وترك ذلك

قد يكون سبباً لإضاعته ونسيانه) [23] .

4- حفظ السنة وتذكرها:

والعمل بالسنة على وجوه متنوعة سبب في حفظ السنة؛ لأنك لو أهملت

إحدى الصفتين نسيت ولم تحفظ.

وصح عن علي (رضي الله عنه) أنه قال: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه

وإلا ارتحل) [24] ، (وقال وكيع: إذا أردت حفظ الحديث فأعمل به) [25] .

وحين أراد ابن الهمام أن يذكر حديث علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في

الاستفتاح الطويل الذي رواه مسلم، قال: (نسوقه إعانة على حفظ ألفاظ السنة

ليتبرك بها في النوافل) [26] .

5- حضور القلب:

العمل بصور الصفات المتنوعة يساعد على استحضار النية وحضور القلب؛

(لأن كثيراً من الناس إذا أخذ بسنة واحدة صار يفعلها على سبيل العادة، ولكن إذا

كان يعود نفسه أن يقول أو يعمل هذا مرة وهذا مرة صار منتبهاً للسنة) [27] ،

وصار غير شارد في صلاته وعبادته، طارداً للسآمة والخمول عن عبادته،

مستحضراً الإخلاص لله والاقتداء بنبيه (عليه الصلاة والسلام) ، وهذا من أقوى

الأسباب التي تعين العبد على الخشوع في صلاته، ومن ثم: تحصيل الأثر المرجو

من ذلك الوعد في قوله (تعالى) : [قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ (?) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ

خَاشِعُونَ] [المؤمنون: 1، 2] ، وقوله-صلى الله عليه وسلم-: (خمس صلوات

افترضهن الله (عز وجل) ، من أحسن وضوءهن، وصلاتهن لوقتهن، وأتم

ركوعهن وسجودهن وخشوعهن: كان له على الله أن يغفر له) [28] .

6- طريق للمسابقة إلى الخيرات:

يحصل بنشر الصفات المتنوعة تقريب أبواب مشروعة للتسابق إلى فعل

الخيرات، وإن من المعلوم أن الاقتصار على ميادين محدودة في الدعوة إلى الله،

أو على أبواب أوّليّة، إنما يكون محموداً إذا كان لتحبيب فئة من الغافلين المقصرين

في جنب الله إلى فعل السنن والتزود من الطاعات، أما أن يكون هذا هو غاية ما

يدعو إليه الداعون على مدى سنوات عديدة فلا، وإنه لحقّ للنفوس التي قطعت

شوطاً في الاستقامة على أمر الله والتنافس في الخيرات أن تقرب أمامها جميع

الأبواب المشروعة لفعل الخيرات.

7- العمل بالأنواع المشروعة يخرج الجائز المسنون من أن يشبّه بالواجب:

فإن المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب، ولهذا: أكثر هؤلاء

المداومين على بعض الأنواع الجائزة أو المستحبة لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه وقلب

غيره، أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات؛ لأجل العادة التي جعلت الجائز

كالواجب [29] .

8- في العمل بالأنواع المشروعة تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع؛

(فإن كل نوع لا بد له من خاصة، وإن كان مرجوحاً، فكيف إذا كان مساوياً، وقد

يكون المرجوح راجحاً في مواضع) [30] .

9 - العمل بالأنواع المشروعة وضع لكثير من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله، ولا أثارة من علم؛ فإن مداومة الإنسان على

أمر جائز مرجحٌ له على غيره، ترجيحاً يحب من يوافقه عليه، ولا يحب من لا

يوافقه عليه، بل ربما أبغضه بحيث ينكر عليه تركه له، ويكون ذلك سبباً لترك

حقوق له وعليه يوجب أن ذلك يصير إصراً عليه لا يمكنه تركه، وغلاّ في عنقه

يمنعه أن يفعل بعض ما أمر به، وقد يوقعه في بعض ما نُهِيَ عنه [31] .

وهذا مصداق قول عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) : (لا يجعل أحدكم

نصيباً للشيطان من صلاته أن لا ينصرف إلا عن يمنيه ... ) الحديث متفق عليه.

10- العمل بالأنواع المشروعة عدل بين شرائع الدين:

(فإن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل: التسوية بين المتماثلين، ومن

أعظم العدل: العدل بين الأمور الدينية، فإن العدل في أمر الدنيا من الدماء

والأموال كالقصاص والمواريث وإن كان واجباً، وتركه ظلم فالعدل في أمر الدين

أعظم منه، وهو العدل بين شرائع الدين وبين أهله، فإذا كان الشارع قد ساوى بين

عملين أو عاملين: كان تفضيل أحدهما من الظلم العظيم، وإذا فضّل بينهما: كانت

التسوية كذلك، والتفضيل أو التسوية بالظن وهوى النفوس من جنس دين الكفار،

فإن جميع أهل الملل والنحل يفضل أحدهم دينه، إما ظنّاً، أو هوًى، وإما اعتقاداً،

وإما اقتصاداً، وهو سبب التمسك به وذم غيره، فإذا كان رسول الله قد شرع تلك

الأنواع، إما بقوله، وإما بفعله، وكثير منها لم يفضل بعضها على بعض: كانت

التسوية بينها من العدل، والتفضيل من الظلم) [32] .

نسأل الله (عز وجل) أن يفقهنا في الدين ويهدينا سبل الرشاد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015