افتتاحية العدد
الصلة الوثيقة التي أوجدها الإسلام بين معتنقيه نادرة المثال في أصالتها
وديمومتها، وحسبنا أنّ ديننا الحنيف جعل العلاقة بين المسلمين مثل علاقة أجزاء
الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالتأثر السريع، يقول البشير
النذير: (ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، ف (الجسد أصل كالشجرة،
وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من الأعضاء اشتكت الأعضاء كلها،
كالشجرة إذا حُرك غصن من أغصانها اهتزت كلها بالتحرك والاضطراب) [*] .
هكذا كان حال المسلمين في ارتباطهم وتعاونهم مع شكاية بسيطة، فكيف
يكون حالهم مع النوازل والطوام؟ .. لا شك أن العلاقة أكبر والتعاون أشد، وذلك
حينما يناصَبون العداء ويوقف في طريق نهضتهم، وكيف يكون الحال حينما تقوم
فئات منسوبة إلى الإسلام بالتعاون مع أعداء الإسلام الحقيقيين لجلب منافع ذاتية أو
مصالح متوهمة؟ !
وإلا كيف يفسر تعاون جناحي المعارضة السودانية الممثلة في شخص كل من
زعيمي حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي الديمقراطي ووضع أيديهما في يد
الصليبي الحاقد: (جون قرنق) والهجوم على دولة السودان بعد أن فعلا ما فعلا في
الحياة السياسة في ذلك البلد؟ ، ولا يُغَضّ الطرف عما يُعرف عن حقيقة هذين
الحزبين وانحرافاتهما العقدية والبدعية، وكذلك انحرافاتهما السياسية النفعية
وجنايتهما على الحياة السياسية في السودان على ضوء تاريخهما.
وللحقيقة والتاريخ فقد بيّنّا أكثر من مرة مآخذنا على النظام القائم، وما زلنا
نطالبه بالتصحيح والمزيد من الأسلمة، بعيداً عن أي شعارات مبهمة، أو اتجاهات
حزبية، أو انحرافات فكرية.
لكننا نعلم كما يعلم غيرنا أن السودان دولة على الأقل تعلن تبني الإسلام
ظاهراً، وتنادي بتطبيق الشريعة.
وترفض أن ينتزع سيادتها المتآمرون عليها الذين استطاعوا في فترات عديدة
من تاريخها بوسائلهم الميكيافيلية استغلال ضعفها، وتحريك الفعاليات الحاكمة فيها
من وراء الكواليس، وجعل الجيب النصراني الجنوبي وسيلة ضغط لإضعاف
السودان وابتزازه والتدخل في شؤونه الداخلية، وبخاصة حينما يكون الأمر متعلقاً
بتطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا ما ترفضه الحكومة الحالية؛ مما جعلها تتعرض
لعداوة الغرب وأذنابه.
وما يتعرض له السودان من ضغوط ومضايقات واتهامات ممجوجة ومكرورة
إلا دليل على ما نقول، فلماذا لم يتعرض لهذه العداوة إبان الحكم العسكري والطائفي
في كثير من فترات تاريخه المعاصر..؟ !
الغريب: أن حزبي المعارضة المذكورَيْن محسوبان على الإسلام باعتبارهما
في الأصل من الطرق الصوفية، لكن بعض رموزهما اتخذوا الدين فيما يظهر
ستاراً لتحقيق مصالح طائفية ضيقة، ولا نشك في مدى معرفتهما بخطورة ما يفعلان، وهما اليوم مخلب قط في يد العدو الصليبي، يحاربان إخوانهم في الدين! ! ، ثم
ماذا عن حقيقة (الولاء والبراء) الذي هو أصل من أصول العقيدة أكده القرآن كثيراً، في مثل قوله (تعالى) : [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ..] [المجادلة: 22] .
إن ما فعله الحزبان يذكرنا بالأدوار المشبوهة لفرق الضلال وصلاتها
المعروفة بأعدائنا عبر التاريخ؛ مما يعيد للذهن تلك العلاقات المريبة، فهل يكون
ما عملاه إعادة لتلك المهازل التاريخية؟ !
بقي لنا في هذا المقام وقفات وتنبيهات نلخصها فيما يلي:
أولاً: أن الاعتداء الآثم الذي اجتمع فيه نصارى إثيوبيا، وإريتريا، وأوغندا، ونصارى الجنوب، وتعاونهم فيما بينهم.. على دولة السودان، يؤكد العلاقة
الوثيقة بين الذين كفروا في الوقوف ضد كل مظهر إسلامي، وصدق الله العظيم:
[وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ..] [البقرة: 120] .
ثانياً: نعتقد أن هذا التحالف المشبوه ليس مؤامرة عابرة بسبب خلاف سياسي
مع الحكومة السودانية، بل هو تحالف استراتيجي يمتد ليهدد الأمة العربية
والإسلامية بأسرها، فهو حلقة من حلقات التعاون العسكري الصهيوني مع دول
القرن الإفريقي، الذي بدأ في وقت مبكر، وكان من أبرز معالمه:
- إقامة عدد من القواعد العسكرية اليهودية في كل من إثيوبيا وإريتريا، وما
تبع ذلك من المناورات الميدانية المشتركة، التي تهدف إلى تطويق البلاد العربية
من الجهة الجنوبية، وفتح ثغرات عسكرية لمواجهة أمتنا من جهات مختلفة.
- احتلال جزيرة (حنيش) اليمنية الاستراتيجية، بالتعاون بين إريتريا والعدو
الصهيوني للسيطرة على الملاحة البحرية في البحر الأحمر، والتحكم بالممرات
الجنوبية في مضيق باب المندب.
- دخول يهود بشكل مكشوف في الصراع الدائر في منطقة البحيرات
العظمى للسيطرة على مجاري الأنهار ومنابع المياه، ولإحكام السيطرة على دول
نهر النيل، وتهديد أمنها، (وخاصة السودان ومصر) .
ثالثاً: أنّ الحركات الانفصالية النصرانية في جنوب السودان بقيادة (جون
قرنق) ، صنيعة الاستعمار البريطاني منذ الأيام الأولى للاستقلال، وُجدَت لزعزعة
الأمن في السودان وخلخلة أركانه، ويراد من ذلك أمور، منها:
- إشغال السودان بالحروب لتعطيل برامج التنمية، وإفقاره، ومحاصرته
اقتصاديّاً، خاصة أن السودان يملك أرضاً زراعية خصبة يمكن أن تكون مصدر
دخل اقتصادي كبير، ليس للسودان فحسب، بل للأمة العربية كلها.
- الوقوف في وجه المد الإسلامي في القارة الإفريقية، إذ إن السودان هو
البوابة الإسلامية لإفريقيا السوداء.
ومن المعلوم أن جميع الحكومات السابقة فشلت فشلاً ذريعاً في الوقوف أمام
الحركات الانفصالية (وخاصة حكومة الصادق المهدي الأخيرة! !) ، حيث توغلت
عصابات جون قرنق داخل الأراضي السودانية، وهددت الخرطوم، فلما جاءت
الحكومة الحالية استطاعت أن تحرر الأراضي السودانية المحتلة، وتقف في وجه
الانفصاليين النصارى، وتتبع فلولهم في إثيوبيا وأوغندا، وهذا الموقف بلا شك
أزعج الدول الغربية التي رمت بثقلها العسكري والسياسي لدعم (قرنق الصليبي) ،
ثم كان هذا التحالف المشبوه تحت القيادة العسكرية لهذا (الزعيم) ؛ لفتح ثغرات
متعددة على السودان؛ حتى يعجز عن السيطرة على منطقة الجنوب، ومن ثم:
تمهيد الطريق لانهياره من الداخل.
رابعاً: لا شك بأن التحالف بين الانفصاليين الجنوبيين والمعارضة الشمالية، له دلائل وعلامات كثيرة، منها:
-إفلاس المعارضة الشمالية، وعجزها عن اتخاذ قرار مسؤول يخدم السودان فقد كانوا يعارضون الحركات الانفصالية الجنوبية، ولكن المصالح والأهواء
جعلتهم ينسون ثوابتهم الحزبية، ويبيعون أرض السودان بثمن بخس.
-عدم مقدرة عصابات نصارى الجنوب على تحقيق أهدافها، خاصة بعد
التصدع السياسي والعسكري الذي أصاب جيوش قرنق، مما جعله يمد يده للتنسيق
مع المعارضة الشمالية، على الرغم من عدائه السابق لها.
-عجز المعارضة السابقة بشتى فصائلها عن زعزعة الحكومة الحالية أو
إسقاطها من الداخل، ممّا ينبئ بأن الشارع السوداني ليس مع المعارضة، مما
جعلهم يلجؤون إلى التحالف مع دول الجوار النصرانية..! !
وأخيراً: فإننا أمام واقع مأساوي مزعج، تحالف فيه الأعداء ضد بلد مسلم،
فعلينا فَهْم الأهداف الاستراتيجية الخطيرة لذلك التحالف، وألا نكون عوناً للأعداء
ضد إخواننا لمجرد خلافات أو مصالح، ولنحذر من السقوط في أيدي الأعداء
والتعاون معهم ضد ديننا وعقيدتنا.
ومما يؤسف له: الشماتة الظاهرة بدون مبرر مقبول في متابعة بعض
الصحف العربية للحدث، بل وفرحهم بسقوط بعض المواقع الحكومية الأمامية! !
وبين عجز العرب وكيد الغرب الأيام حبلى، والله نسأل أن يصلح الأحوال
وأن يرفع عن أمة الإسلام ما يحاك ضدها من مؤامرات.
وما يثار بين أبنائها من فتن
... ... ... ... ... والله من وراء القصد،