محاضرات وندوات
نجيب محفوظ خلفية فكرية لفنه الروائي
(2 من 2)
بقلم: د. مصطفى السيد
عرض الكاتب في الحلقة الماضية المناخ الثقافي والاجتماعي قبل مولد (نجيب
محفوظ) ، ثم أوضح الخلفية الثقافية والفكرية لهذا الروائي، وأخذ يعرض أثر هذه الخلفية في رواياته وانعكاسها على أبطال هذه الروايات ... ويواصل الكاتب عرض جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
إن هؤلاء الأبطال ومثلهم كثير في الرواية العربية، كبطل (موسم الهجرة إلى
الشمال) لـ (الطيب صالح) ، وبطل (الحي اللاتيني) لـ (سهيل إدريس) .. ليسوا
إلا تجسيداً وإن كان متفاوتاً في درجته وحدته للخروج على ميراث الأمة الديني
وتراثها الأدبي، تمهيداً لإيجاد قراء يحاكون هؤلاء، وبذلك تزلزل الرواية عبر
نصوصها وشخوصها ومن ثمّ: عبر قرائها قواعد البُنى الفكرية للأمة، تمهيداً
لاستيلاء شرائح نخبوية تتبنى الفكر الغربي ويضمحل الحس الديني والنص
الشرعي في قلوبها وعقولها وسلوكها.
وكيف تكون النتائج السابقة مستنكرة على الرواية العربية التي يقومها أحد
النقاد بقوله: (الرواية العربية الجديدة التي شكل الواقع بؤرتها ومادتها، رواية
الفضيحة والعري والحرائق والهزيمة والجنس) [1] .
يفهم المسلم أن يكون لأمثال (سارتر) و (همنجواي) و (كامي) و (دستوفسكي)
وأضرابهم أزمتهم الروحية بوصفهم نتاجاً لمسيحية محرفة وحضارة ممزقة، ولكن
ما هو متعذر على الفهم أن يكون لمحفوظ هذه الأزمة التي تحدث في أكثر رواياته! هل كانت أزمة مصطنعة لتضع الرواية العربية في مصاف الرواية الغربية
بوصف القلق أحد أهم مؤهلات الأخيرة؟ ! ! ، أم كان القلق يعكس أزمة حقيقية
للكاتب، سببها ابتعاده أو إبعاده عن قراءة واعية ومراجعة دائمة للإسلام، راضياً
من الفكر العربي بـ (سلامة موسى) ، الذي قد لا يحمل من مؤهلات هذا الفكر إلا
اللسان العربي؟
وإذا كان محفوظ قارئاً نهماً للفكر الغربي لا سيما في عالم الرواية وعلم
الفلسفة، وكان معنيّاً كما صرح غير مرة بمتابعة الجديد في هذين الأمرين، فإنه
على العكس من ذلك: يتجمد في ثقافته الإسلامية، مكتفياً بخلاصة أو ملخص إن
أغنت مسلماً عاديّاً فكيف تغني أكبر كاتب روائي عربي؟ .
إن ثقافته العقدية جاءت واضحة في مقالاته التي كتبها في شبابه (1930م) في
مجلة (شيخه) (سلامة موسى) ، وإن هذه الثقافة كما يقول الدكتور (عبد المحسن
بدر) : (استمر يكتبها حتى وصل إلى مرحلة الرجولة، وهذه الفترة من حياة
الإنسان هي فترة تكوينه لقيمته الاجتماعية والثقافية التي تعمق وتنضج الفترات
التالية من عمره، ومن النادر أن تتحول بعد هذه الفترة تحولاً جذريّاً) [2] .
يقول محفوظ في (المجلة الجديدة) سنة 1930م، ص 1468، في أحد
مقالاته التي يشير إليها الدكتور بدر: (لا نبتئس بقرب زوال المعتقدات البالية، ولا
ندعو المفكرين إلى الكف عن بحثها ونقدها) .
ما المعتقدات البالية التي يريد هذا الشاب ألا يبتئس لزوالها، ولا يمنع
المفكرين من نقدها؟ .
أليست هي ما جاء على لسان (كمال) في (السكرية) آنفاً؟
وفي مقابل ما يعيشه أبطاله بوصفهم امتداداً مباشراً أو غير مباشر له: ما
يعيشونه من الانفلات من ربقة الدّين، بل التجرؤ الصادم لمشاعرنا على نقده، نجد
الكاتب يعقد صلحاً نهائيّاً مع العلم الذي تحدّر إليه من (سلامة موسى) وأمثاله،
فيقول سنة 1970م: (لعل الإيمان الوحيد الحاضر في قلبي هو الإيمان بالعلم
وبالمنهج العلمي!) [3] .
وإذا سلم الباحث لبعض النقاد بأن هَدَف محفوظ (الوصول إلى ما يشبه علمنة
الدين وتديين العلم) [4] فإن هذا أيضاً يظل إسلاميّاً غير مقبول؛ لأنه لا يعدو إحياء
مذهب المعتزلة بأثواب جديدة.
إن ما خطه (نجيب محفوظ) من أعمال روائية وقصة قصيرة لم تلق فنيّاً في
حدود ما قرأت نقداً شديداً باستثناء ما كتبه د. (عبد المحسن طه بدر) ، ولكن
المعركة حول القيم الفكرية لأعماله الروائية لم يَخْبُ أوارها، وما أخاله يخبو ما
دامت هذه الأعمال يرتفع فيها صوت الفكر على صوت الفن، وتتصدى بجلد
وإصرار لنقد المفاهيم القائمة في المجتمع والدعوة إلى قيم وأفكار تضاد عقيدة
المجتمع وهويته في أحايين كثيرة، يقول على لسان أحد أبطاله في (السكرية) :
(حسن أن تدرسوا الماركسية، ولكن تذكروا أنها وإن تكن ضرورة تاريخية،
إلا أن حتميتها ليست من نوع حتمية الظاهرات الفلكية، إنها لن توجد إلا بإرادة
البشر وجهادهم، فواجبنا الأول ليس في أن نتفلسف كثيراً، ولكن في أن نملأ وعي
الطبقة الكادحة بمعنى الدور التاريخي الذي عليها أن تلعبه لإنقاذ نفسها والعالم
جميعاً) [5] .
قد لا يحتاج القارئ إلى دليل يؤكد أن الكاتب قد تخلى عن دوره الروائي إلى
الدور التحريضي، حتى ليمكننا القول: إن الفقرة السابقة نشرة حزبية وليست فقرة
روائية.
وإذا كان (نجيب محفوظ) قد يمم وجهه شطر (الحارة) القاهرية، ولم
يتجاوزها في أكثر أعماله، جاعلاً من الحارة الفضاء المكاني لأدبه والإطار
الموضوعي لأفكاره، فهو لم يعرف عنه أدنى تعاطف مع هذه الحارة، ولم ير منها
غير الجوانب المظلمة، ولم يُقدّم في أعماله إلا الشخصيات التي أشربت في قلبها
الشر، وأهلكت الحرث والنسل، لا تنتقل من سيء إلا إلى ما هو أسوأ، ولا تغادر
منكراً إلا إلى ما هو أنكر، حتى ليخيل للقارئ أنه يقرأ عن أناس لم يعد في حياتهم
مثقال ذرة من دين أو خير، أو يعيش في مجتمع أقرب إلى الجحيم منه إلى
المجتمعات السوية.
ولقد كان الكاتب متورطاً إلى حد كبير فيما أخذه على أبطاله ورآه سبباً
لانحرافهم، فقد اعترف بمعاقرته الخمر كما مر بنا قريباً، و (لقد سمح لنفسه ابتداءً
من سنة 1945م بكتابة سيناريو عدد كبير من الأفلام، فيها الكثير من الأفلام التي
تخضع للمقاييس الفنية الهابطة للسينما المصرية، وقد يدهش المرء حين يعلم أن
كاتبنا الكبير هو كاتب سيناريو أفلام مثل: (ريا وسكينة) ، و (المنتقم) ، و (عنتر
وعبلة) ، و (لك يوم يا ظالم) [6] .
ويتهمه ناقد آخر بتوظيفه فنه لأغراض مادية رخيصة، وخدمة مآرب أخلاقية
خسيسة عندما يتجنى على أبطاله وطبقتهم، وإظهارهم بصور غاية في الانحلال،
تهييجاً للغرائز واستدراراً لأموال منتجي الأفلام، وذلك عندما (يرصد نماذج مشوهة
وساقطة وعاجزة لكي يضعها في أعماله، ويتجنى بعد ذلك على صدق وحقيقة ما
يحصل في قلب الواقع المصري من طرح جديد دائم لنماذج إنسانية بين الثوريين،
وبين فتيات الجامعة بالذات، وهو يعرف سلفاً ما سيعقب ذلك من استخدام هذه
النماذج في السينما المصرية التجارية، ومنتجي الأفلام التجارية الرخيصة الذين
يزيدون في تشويه الصورة وتملق غرائز متدنية للمتفرج، سواء في الجنس أو
تزييف صورة الثوري اليساري في رواياته، [لقد كان] الأمر يتعلق بإلحاح (نجيب
محفوظ) على أن يظل روائي المرحلة الجديدة، وشاهداً على لوحة الصراع الدرامي
في مجتمعنا، ولقد كان في اعتقادي بعيداً عن التقاط حقيقة أزمة الفتاة المتعلمة،
التي لها موقفها السياسي، والتي تقف مع الرجل ضد كل ما يسلب الإنسان حريته
وأحلامه في تقدم طبقته المسحوقة.
إن (سمارة بهجت) ، و (سوسن حماد) ، و (زينب دياب) [*] للأسف لا وجود
لهن إلا في الاتساق الشكلي لبناء الرواية بمواصفات جاهزة عند نجيب محفوظ، أما
الفتاة المصرية المثقفة والمناضلة فلم تلتقطها عدسته الروائية، فهي بعيدة عن عالمه، لأنه هو أيضاً بعيد عن عالمها أيّاً كانت حسن نياته) [7] .
ومن العجيب أن يكون موقف الكاتب من مجتمع الطبقات الشعبية منبثقاً من
رؤية طبقية لا من نظرة قيمية، وذلك عندما يمنح إعجابه الفتيات الأرستقراطيات،
ويمنعه عن نساء الطبقة العاملة! .
يقول الدكتور (عبد المحسن بدر) من حديث له في مكتبه (الأهرام) :
(الأرستقراطيات جديرات بالإعجاب، أيّ متعلمةٍ أو رقيقة كانت أرستقراطية، أما
سيدات الطبقة العاملة فأرضيات) [8] .
يقول هذا الكلام في الوقت الذي يرسم نده ومعاصره (إحسان عبد القدوس) (ت
1989م) صورة مظلمة للطبقة الأرستقراطية عموماً، وصورة حالكة في السواد
والتردي الأخلاقي لنساء هذه الطبقة على وجه الخصوص (حيث إنه ما من كاتب
استطاع أن يصور الشرائح العليا من البورجوازية المصرية مثله، فقد استطاع
النفاذ إلى واقع الحياة الاجتماعية في (الزمالك) ، و (جاردن سيتي) ، واخترق
بأعماله الحصار المضروب على (نادي الجزيرة) ، لكي لا تقترب منه أعين الدهماء
والصعاليك من أبناء الشعب، ولولا كتاباته لسقط هذا الجانب المهم من الذاكرة
التاريخية) [9] .
هل تمالأ الكاتبان ليكملا الحصار على المرأة، فيشوه أحدهما سمعة هذه
الطبقة، ويشكك الآخر في عفة الطبقة الأخرى؟ !
وهل بات الفن نوعاً من القذف العشوائي لأخلاقيات المجتمع؛ لييأس
المصلحون والتربويون؟
وهل يليق بكاتب بمكانة الأستاذ (نجيب محفوظ) أن يتخذ موقفاً مسبقاً قبْليّاً من
المرأة العاملة، فيصمها بالأرضية، وينحاز آليّاً إلى المرأة الأرستقراطية فيجعل
الرقة والأرستقراطية وجهين لعملة واحدة؟
وما الفرصة المتاحة للمرأة العاملة (امرأة الحارة) بمستقبل أفضل إن كان
الكاتب قد حكم بألاّ مستقبل لها أصلاً؟
ثم: أليس من الجمود الفني أن تكون الشخصية جامدة، ولا تمتلك إمكانات
النمو والتطور؟
إن ما حققه الكاتب وما يحققه أي كاتب من مستوى فني متقدم لا يمنع مساءلته، ولا يسقط حق الأمة عبر نقادها ومثقفيها في محاكمة المضامين الفكرية للأعمال
الأدبية، لا سيما أعمال المشهورين الذين تتعاقب الأجيال على قراءتهم والتفاعل
الإيجابي والسلبي مع هذه القراءة.
ومما شجعني على إيلاء الجانب الفكري في أدب محفوظ هذا الاهتمام هو ما
قاله بعض الروائيين والنقاد عن محفوظ: إنه مفكر يتقنع بالقناع الروائي.
يقول الروائي السوداني (الطيب صالح) : (وليس نجيب محفوظ في اعتقادي
رائد الرواية العربية الأول، لكنه من أعظم المفكرين في العالم العربي، وتقوم
اقتراحاته كمفكر وليس ككاتب [**] [10] .
ويقول الدكتور (مصري حنورة) : (لنتفق مبدئيّاً على أن نجيب محفوظ مفكر
قبل أن يكون فناناً؛ وأنه لا يكتب أساساً بحثاً عن قيم جمالية، أو استعراضاً
لأساليب بلاغية، وإن كان هذا يتم دون عمد منه، كذلك فهو لا يهتم في المقام
الأول بأن يقدّم تطويراً لتكنيك فني، حيث إن كل ذلك خارج عن دائرة اهتمام هذا
المبدع، فشاغله الأساسي هو قضايا مجتمعه وهموم الإنسان، أي إنه وفقاً لمنظورنا
يغلب عليه الجانب المعرفي) [11] .
ويقول ناقد ثالث: (إن المرحلة الجديدة التي دخلت إليها الرواية على يد
نجيب محفوظ تتلخص في عدة مميزات، منها: الاهتمام بـ (هموم الفكر) [12] .
ويقول ناقد رابع: (نظراً لأن الأسلوب الروائي عند نجيب محفوظ أسلوب
واضح، وسهل، وخالٍ من التراكيب المفتعلة، وأقرب إلى اللغة العادية، يظل
التحليل الأسلوبي لأعماله الروائية محدود الأثر، ونظراً لأن الأعمال الروائية لـ
(نجيب محفوظ) تكاد تخلو من الصور الفنية أو المركبة، مثل (وغنى الماء في
القنينة) لوصف قرقرة الجوزة، فإن تحليلها يظل أيضاً محدوداً، لذلك يظل النقد
البنيوي لمعرفة المعمار الروائي عند (نجيب محفوظ) وأنماطه المثالية السائدة
والمتكررة في أعماله الروائية: هو الأكثر غنى للكشف عن العالم الروائي عنده،
ويظل النقد الاجتماعي كذلك هو الكاشف للنص الروائي الذي يعكس الواقع
الاجتماعي الثقافي والديني والسياسي هو الأكثر مباشرة على الاقتراب من هذا العالم
الروائي) [13] .
ولعل القارئ الكريم يعذرني إن أطلت في هذه النقول لأسباب، أهمها:
- أن أدب (نجيب محفوظ) دخل كل بيت تقريباً، إما مقروءاً، وإما مرئيّاً
على شاشة (التلفاز) ، وإما مسموعاً من (المذياع) ، ومن حق القارئ على الكاتب
وواجب الأخير أن يبين ما فيها من فكر هابط وفن سامق.
- قول الناقد (سيد قطب) (رحمه الله) :
(إن الناقد في الشرق العربي لا ينهض لتصحيح مقاييس الفن وحدها، ولكن
ينهض لتصحيح معايير الأخلاق أيضاً) [14] .
- ولأن همسات المجتمع تلقين للبطل، وهجمات البطل تجسيم لأحلام
المجتمع، فإن معايير البطولة التي تتفاعل معها ولا سيما تفاعلنا مع أبطال كاتب
مقروء باستمرار وواسع الانتشار ك (نجيب محفوظ) ينبغي ألاّ تكون فنية محضة.
ولعله من ذلك كله يكتسب الحديث عن الخلفية الفكرية لـ (نجيب محفوظ)
مشروعيته ويستمد أهميته.